شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الجزائريون يستنبتون الحياة من أرض أكلتها الحرائق

الجزائريون يستنبتون الحياة من أرض أكلتها الحرائق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 22 أغسطس 202105:48 م

في خُضم الأزمات التي تعصفُ بالجزائر، يُحاولُ الجزائريون وبقوة إيقاد شُعلة الأمل في عز صيف ساخن امتزجت فيه توابع جائحة كورونا، بموجة حرارة شديدة غذتها حرائق كثيرة، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن البلاد لم تشهد مثلها مُنذ سنوات طويلة، وفي مواجهة هذه الأزمات، صنع الجزائريون أسمى صُور التضامن.

ووصل التضامن حدَ أن تبرعت مجموعة كبيرة من النساء بمُحافظة أم البواقي (تقعُ في الجهة الشمالية الشرقية للبلاد تبعدُ بحوالي 500 كلم عن العاصمة الجزائر)، بحليهن للمُساهمة في تدعيم المُستشفيات لتأمين قارورات الغاز ومُولدات الأكسجين لإنقاذ أرواح المرضى، وهي الصُورة التي حققت تفاعلاً كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة موقع فيسبوك. وعلق لونيس حميطوش رجل الأعمال البارز وصاحب مُؤسسة لإنتاج الألبان ومُشتقاتها في تصريح لقناة محلية: "تأثرتُ بالنساء اللواتي قررت التصدق بمُجوهراتهن من أجل إنقاذ حياة المرضى"، وتابع قائلا: "بكيت بحرقة عندما رأيت نساء يتبرعن بذهبهن كيف نصلُ إلى هذه الدرجة".

تبرّعت طفلة وشقيقها، ولا يتجاوزُ عمر كل منهما 10 سنوات، بما ادخراه من أموال في حصالتيهما على مدى أشهر طويلة... ورُغم ضآلة المبلغ وبساطته غير أن القائمين على جمع التبرعات تأثروا بموقف هذين الطفلين

صورة ثانية مُعبرة ومُبكية هزت القُلوب من حملة جمع الأموال لتدعيم مستشفى "عين الملح" بمُحافظة المسيلة شرقي البلاد، حين شاركت طفلة وشقيقها لا يتجاوزُ وعمر كل منهما أقل من 10 سنوات ما ادخراه من أموال في حصالتيهما على مدى أشهر طويلة، ورُغم ضآلة المبلغ وبساطته غير أن القائمين على جمع التبرعات تأثروا لموقف هذين الطفلين.

ومن أغرب العمليات التضامُنية التي شهدتها البلاد في المحنة الصحية التي تعيشها منذُ نهاية يُونيو/ حزيران الماضي بسبب الأعداد القياسية اليومية للإصابات والوفيات جراء فيروس كورونا المستجد، تبرع طفلين لا يتجاوز سنهما 15 عامًا بدراجتيهما اللتين بيعتا بمبلغ يُقدرُ بحوالي 10 ملايين سنتيم أي ما يُعادل 700 دُولار أمريكي، وأقدم رجل خير على اقتنائهما ثم قرر إعادتهما إلى الطفلين، غير أن جميع محاولاته باءت بالفشل لأن الطفلين رفضا الكشف عن هويتهما ومقر إقامتهما.

وفي العديد من مُحافظات الوطن خرجت سيدات أربعينيات للطرقات تحملن بأيديهن صناديق زُجاجية شفافة لجمع الأموال من أصحاب السيارات بهدف تأمين مُولدات الأكسجين للمُستشفيات، وحققت هذه المُبادرة نسبة تفاعل قوية من الجزائريين الذين ركنوا سياراتهم جانبًا للتضامن مع هذه الهبة.

وفي الوقت الذي كانت فيه مُستشفيات الجزائر تئن تحت وطأة الفيروس القاتل حتى احترقت قُلوب الجزائريين بألسنة اللهب التي لم تهدأ ولم تخمد لحد الآن، مُنذُ أول حريق اجتاح مدينة تيزي وزو المُلقبة بـ "عاصمة جُرجرة" أو "مدينة الزيتون"، تقعُ على بُعد 100 كلم شرق العاصمة الجزائر، قبل أن تمتد النيران شرقًا وبالتحديد إلى مُحافظتي قالمة والطارف الحُدودية، ثُم وسطا وشمالا، ملتهمة الأخضر واليابس قبل أن تخطف الأرواح وتُحاصر القرى.

وبينما كان أبناء القرى يتجرعون مرارة القسوة والألم بعدما شاهدوا أبقارهم تخور وسمعوا مأمأة خرفانهم في الإسطبلات ناهيك عن الأجساد التي احترقت وتفحمت أمام أعينهم، هبت القوافل التضامنية من كل حدب وصوب لإرسال الأغذية والأدوية والتخفيف من معاناة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها دون مأوى، قُلوبهم حزينة ضائعة بين الشدائد والمحن.

خرجت سيدات أربعينيات إلى الطرقات تحملن بأياديهن صناديق زُجاجية شفافة لجمع الأموال من أصحاب السيارات بهدف تأمين مُولّدات الأكسجين للمُستشفيات

غرس الحياة من جديد

وما زاد من إرادة هذا الشعب العظيم وحفز مشاعر التضامن، استغاثة باكية لجندي جزائري كان مُحاصرًا وسط ألسنة اللهب في أعالي محافظة تيزي وزو، التي تُعتبر أحد أهم معاقل إنتاج الزيتون في الجزائر، ويُوجدُ على أرضها أكثر من 4 ملايين ونصف مليون شجرة، تُنتجُ بالتقريب 20 مليون لتر من زيت الزيتون.

وقال الجُندي الجزائري الذي تبين لاحقًا أن اسمهُ "إبراهيم خُوجة": "إخوتي.. نداء.. إخوتي.. نداء.. كل من أخطأت في حقه فليُسامحني.. إخوتي ماتوا.. اللهم شُهداء.. اللهم شُهداء"، ولم تكد تمر ساعة من الزمن حتى نشر إبراهيم مقطعًا مُصورًا آخر وهو يصرخُ ويبكي من شدة الألم على فقدان زُملائه: "اللهم ارحمنا.. يارب.. تيزي وزو تستغيث.. يارب إخوتي ماتوا.. انصرنا يا الله".


ومن أبرز ملاحم التضامن التي حاول بها الشعب مُحاصرة هذه الكارثة، مبُادرة تضامنية تلقائية تحت شعار "من خيرك يعيش غيرك"، أطلقتها جمعية محلية يُطلقُ عليها "فاعل خير" وحسبما كشفهُ أحدُ المُنخرطين فيها لـ "رصيف22" فإن الانخراط في هذه الحملة كان بشكل تطوعي، وفي ظرف قياسي تمكنت الجمعية من جمع العشرات من الشباب وتكتلوا في أفواج وتوزعوا على ساحات وشوارع العاصمة الجزائرية رُغم خطر الفيروس القاتل وحتى درجات الحرارة التي بلغت مُستويات قياسية، حاملين لافتات كُتب عليها: "جمعُ التبرعات لإخواننا المُتضررين من الحرائق" و "من خيرك يعيش غيرك".

ودُون اتفاق مُسبق، هب سُكان أحياء الجزائر العميقة لإغاثة أهالي القُرى المصنفين في خانة المنكوبين، ونصبوا الخيام لجمع المُساعدات من لباس وغذاء وأدوية بعد أن كانت جُهودهم مُركزة في السابق على توفير الأكسجين في المُستشفيات في ظل تدهور الوضع الصحي بعد الانتشار الرهيب للفيروس القاتل وتسجيل منحى تصاعدي في الوفيات والإصابات بكورونا.

فبحي "فايزي" بـ"برج الكيفان" (بلدة صغيرة تقعُ في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية)، نصب السُكانُ خيمة كبيرة لجمع التبرعات قصد إرسالها على المناطق المُتضررة، ويقول "سليم" في العقد الرابع من عُمره، يعشقُ العمل التطوعي لـ"رصيف22" إنه تمكن رفقة شباب من حيه وفي ظرف قياسي من جمع مُساعدات كبيرة، مُتمثلة في المياه المعدنية والأغطية والأفرشة ومختلف أنواع الغذائية بينها حفاضات الأطفال وأدوية يستعملها الأطباء في الإسعافات الأولية.

ومنذُ أول فتيل اجتاح غابات تيزي وزو، يتجهُ كل مساء نحو شارع كريم بلقاسم (أحد الشوارع الرئيسية للمدينة) أين تلتقي الشاحنات والسيارات القادمة من كل حدب وصوب لإيصال المُساعدات بهدف التخفيف من حدة الكارثة وتقديم دعم معنوي للمنكوبين.

ويصفُ الحالات الإنسانية التي صادفها في أحد الفنادق التي تحولت لملاجئ مجانية ويقول إنهم "مُحطمون ومرعبون، يائسون وضائعون، فلسان حالهم يقول: الزُجاج إذا انكسر لا يعودُ كما كان".

يُتابعُ سليم والدُموع تتساقطُ من عينه بشكل غير إرادي: " رائحة الموت تنبعثُ بقوة من القُرى الجريحة التي استعرت النيران فيها بعنف ودُون هوادة، فلم يكن أحد يتوقع أن يدفن السُكان فيما يُشبهُ مقابر جماعية، فبقرية إيخليجن في مدينة الأربعاء ناث إيراثن بمُحافظة تيزي وزو تم العُثور على رضيعة رُفقة والدتها بعد أن حاصرتهما النيران في زاوية من زوايا المنزل، كما تم العُثور في هذه القرية على جُثتي الشقيقتين صارة وجوهر بن سالم مُتفحمتين ومُتشبثتين بجثة والدتهما التي تُوفيت اختناقًا جراء استنشاقهما دُخان الحرائق".


ويُضيف الشاب سليم: "عُدنا أدراجنا إلى حيينا مُحملين بُمبادرة إنسانية جديدة قد تعيدُ الاستقرار والطمأنينة للمنكوبين من هذه الكارثة"، ويقول إنه يُفكر في جمع تبرعات مالية للمُساهمة في إعادة تشييد بعض المنازل التي احترقت استجابة لنداء الاستغاثة الذي أطلقهُ بعض القاطنين بمدينة الأربعاء ناث إيراثن التي فقدت أكثر من 27 من أبنائها بينما يتواجدُ أكثر من خمسين شخصًا في المُستشفيات.

مُبادرة أخرى يتمُ التحضير لها من طرف سُكان مُحافظة بجاية التي التهمتها هي الأخرى ألسنة اللهب، وحولت قممها الجبلية الخضراء إلى رماد على غرار جبال "أوقاس" و "تيشي" و "جبل يما قورايا" الساحر الذي يأتيه السياح من كل مكان في العالم، وتتمثلُ المُبادرة حسبما كشفهُ الشاب مُصطفى أحد المُساهمين فيها، في حملة واسعة لزراعة أكثر من مليون شجرة بعد الحرائق التي أتلفت أكثر من 15 ألف هكتار من الأراضي والغابات منها 10 آلاف هكتار فقط في مُحافظة تيزي وزو فقط، ولا يقتصرُ هذا العمل التطوعي على الجمعيات الخيرية فقط بل بادرت مجموعة من النسوة لغرس أشجار الزيتون في مُحاولة منهم لإعادة البساط الأخضر للأرض.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image