فزع وهلع، وقلوب الجزائريين أثقلت بمرارة مشاهد النيران التي لم تعرف الراحة، منذ أول فتيل اجتاح مدينة تيزي وزو بمنطقة القبائل، قبل أن تشتعل شرقاً وغرباً، وسطاً وشمالاً، ملتهمةً ما زرعه البشر وما يرعاه قبل أن يرفع السعير الأرواح ويحاصر البيوت ومساكن أبناء البادية، في مشهد للطبيعة وهي تنثر ألسنة من نار جهنم على أراضي الجزائر.
صباح الرماد
استيقظ سكان قرية توريرت بولاية تيزي وزو على رائحة النيران، ودخان محاصيلهم المزروعة، ورماد سلمته الحرائق هدية وذكرى تشفع لناظر الأهالي معرفة ما حصل لممتلكاتهم، ومصادر أرزاقهم.
خيم السواد على صباح القرية التي تقطنها الحاجة فطيمة، صاحبة مزرعة أحلامها الصغيرة بعدما كانت شاهدة على آخر خوار لأبقارها، وطنين ألم بغلها الذي رافقها دهراً، عاشت ساعات الألم وهي التي لم تستطع الاقتراب من اسطبل دوابها، عجزت عن عزلها والنار تستعر أمام خطواتها البطيئة.
لم يكن لـ ’الحاجة’ إلا أن تصرخ أملاً في جيران المنطقة لمساعدتها، وهم بدورهم فروا هاربين ببعض من أمتعتهم، ساعدوا بعضهم على الخروج متخلين عن أرزاقهم وممتلكاتهم، لكن فطيمة أصرت على إبعاد ومقاومة عدوها بدلو بلاستيكي، ترمي منه الماء في زوايا الاسطبل، والنار تكمل طريقها وتزحف تحت محصولها من اللفت والطماطم التي عدت أيام تحصيلها، قبل أن يطوي السعير الزمن ويلتهمها.
أهالي القرى يستيقظون على مخلفات محاصيلهم، ورماد أرزاقهم. وآخرون يفترشون العراء
على قارعة الطريق يتحدث رجال الإطفاء مع الناجين من الحُطَمة، الكلمات تتسارع ولا مجال للتوقف، الكل يبحث عن الآخر، فبعد عودة النفوس إلى أجسادها عادت الذاكرة لأهالي القرية المدرجين في خانة المنكوبين، وانطلقوا في البحث عن ذويهم وأبنائهم، وأطلقت النساء العنان لصرخات قلوبهن وصاحت الحاجة فطيمة بما تبقى لها من طاقة ’يا قاتل الروح وين تروح’.
هو مشهد من سيناريو المأساة التي عاشتها الجزائر في العديد من الولايات، فالساعات لم تفصل بين الحريق النشط والميت، إلا بعد ليالي إدراج التصنيف بين الخطير والأخطر.
حرائق قست على الغلابة وسكان ’الدوار’ والمناطق الجبلية، ولم تحفظ ماء وجههم ولا قوت عائلاتهم، حتى أنها أبعدتهم من مساحاتهم الغابيَّة وحولت أبناء الجبال إلى لاجئين.
المئات من العائلات وجدت نفسها دون مأوى مشردة، والأكثر من ذلك مزارعها وسهولها التي لم يبقَ منها سوى بقايا المحاصيل، لتجد نفسها بين ليلة وضحاها منكوبة.
’الصورة بدت وكأنها مشهد من فيلم هوليوودي يتحدث عن نهاية العالم’. هكذا دونت منار على تويتر، واضعة صوراً تم تداولها على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي في الساعات الأولى من اندلاع النيران التي التهمت قرى ومداشر مدينة تيزي وزو، لتصف بها هول المشهد الذي أدمى قلوب الجزائريين، فلم تلبث ساعات منذ بداية الفاجعة حتى احتلت وحدها شريط "عاجل" بالقنوات التلفزيونية المحلية، وبدا عداد الضحايا والجرحى في الدوران المتسارع، ووصل إلى 65 متوفىً بينهم 28 عسكرياً و37 مدنياً أغلبهم من مدينة تيزي وزو، ليعلن بذلك الجزائريون الحداد.
وتنطلق القوافل التضامنية بين الشعب الواحد لإرسال المساعدات من لباس وغذاء وأدوية للتخفيف من وطأة الكارثة واحتضان وحدة المنكوبين.
الحرائق تسببت في تراجع الإنتاج الزراعي وتدمير الثروة الحيوانية، وتحويل الجهود من تغطية أزمة توزيع الأكسجين إلى الاهتمام بإخماد الحرائق
’الحرائق تسببت في تراجع الإنتاج الزراعي وتدمير الثروة الحيوانية، وتحويل الجهود من تغطية أزمة توزيع الأكسجين إلى الاهتمام بإخماد الحرائق’. تكلم الدكتور إسحاق خرشي عن الآثار المحتملة لحرائق الغابات على الاقتصاد الوطني، في إشارة منه إلى تراجع الإنتاج الزراعي وتدمير الثروة الحيوانية، بعد تسجيل خسائر كبيرة بالمناطق المتضررة، لم يتم إلى الساعة الخروج بإحصاء دقيق لمخلفات الحرائق، في ولاية قالمة إحدى المناطق الشرقية بالجزائر مثلاً، أسفرت الحرائق عن خسائر في الثروة الغابية وخسائر مادية معتبرة للفلاحين والمواطنين القريبين من تلك الحرائق، حيث أحصت الحماية المدنية إتلاف حوالي 38 هكتار أدغال وفلين متدهور، و26 هكتار أحراش وأعشاب جافة، و12 هكتار حصيدة، إضافة إلى 140 شجرة مثمرة، كما تم تسجيل هلاك 6000 صوص و20 قنطار علف و800 حزمة تبن ، فيما يلبث تقييم خسائر الحريقين المتبقيين برأس الفج بلدية النشماية وعين الصفراء بلدية حمام النبائل في نفس الولاية لاحقاً في إطار لجنة خاصة للوقوف على الخسائر المسجلة بالتدقيق.
كما قال المختص الاقتصادي إن الحرائق ستتسبب في استهلاك أكبر للموارد المالية لتغطية الخسائر، الأمر الذي سيفاقم المعضلة التي تعيشها الجزائر في ظل الجفاف الذي تشهده منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتساؤلات هل حصل الأمر بسبب التغيرات المناخية التي يشهدها العالم أم أن سوء التسيير هو المتسبب في ذلك.
الصورة بدت وكأنها مشهد من فيلم هوليوودي يتحدث عن نهاية العالم
وزارة الموارد المائية اعترفت، في وقت سابق، بوجود أزمة في التزود بالمياه الصالحة للشرب في 10 ولايات على الأقل، بمناطق شمال البلاد ووسطها.
كما أن الحكومة وضعت خطة طوارئ لمواجهة الأزمة، عبر بناء محطات جديدة لتحلية مياه البحر وتأهيل أخرى معطّلة وحفر آبار ارتوازية، إلا أن هذه الاستعدادات لن تجد ضالتها في وقت سيرتفع استغلال المياه كميات غير محددة بسبب الحرائق التي لا تزال تحاصر العديد من المناطق.
وتحدث إسحاق خرشي أيضاً عما أسماه بتكلفة الفرصة البديلة في إشارة منه إلى الاهتمام بإخماد الحرائق بدل أزمة توزيع الأكسجين، فبعدما صبت الدولة كامل جهودها للسيطرة على الوضع الوبائي وتوفير الأكسجين في المستشفيات في ظل تدهور الوضع الصحي بعد الانتشار الرهيب وتسجيل منحى تصاعدي في حالات الإصابة بالفيروس المستجد كوفيد 19 ها هي الآن ستضطر إلى تقسيم خططها، بينها السيطرة على الحرائق وتعويض المتضررين وإجلاؤهم والتكفل بالمرضى وحصر نطاق الوباء في آن واحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...