شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
هنا تسكن روح الإله... زيارة لمقابر العجل المصرية

هنا تسكن روح الإله... زيارة لمقابر العجل المصرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 25 أكتوبر 202105:03 م

ما نراه من آثار باقية للقدامى في كلّ تلـك البلاد التي كانت لنا ولغيرنا هي في الواقع مشاهد حية من الماضي تحاول أن تخبرنا أسرارها وتُبهرنا بعظمة صانعيها. وفي واحدة من أغرب وأعظم الأماكن تحت الأرض اخترتُ أن أبدأ استقراء مشاهد الماضي بزيارة مقابر العجول أبيس بسقارة، وهو معبد جنزي به العديد من السراديب المحفورة في صخور هضبة سقارة، كان يتم فيه إحياء ذكرى الـ"با p3" أي "الروح الجماعية" للعجول المُقدسة، حيث كان جسد العجل هو مكان تقمص روح الإله "أوزير" وأيضاً الإله "بتاح".

في درجة حرارة عالية تصل إلى 45 درجة، أكاد لا أفتح عيني من شدة توهج الشمس، وبخطوات بطيئة على الرمال، أرمي بنظري بعيداً منتظرة لحظة وصولي إلى مدخل المعبد.

أتت اللحظة وتحولت الخطوات البطيئة إلى هرولة سريعة على سلم النزول، وبمجرد أن خطوت الخطوة الأولى من باب الدخول، شعرت بتيار بارد على وجهي في عز حرارة الصيف! لم يكن المكان من الداخل جيد التهوية ومناخه مختلف تماماً عن الخارج.

ينقسم المكان في الداخل إلى ممرات طولية خشبية، سأسمع صوت خطواتي وأنا سائرة عليها، وفي منتصف الأرض كبائن زجاجية مستطيلة أرى منها الأرض الأصلية للمعبد، ويأخذ الممر الشكل الدائري من أعلى، وعلى الجوانب بالأرض تُنير الكهرباء الممر.



ثم أرى منافذ تم حفرها في حوائط الممرات يوضع فيها فوانيس الزيت الصغيرة للإنارة، أو بخور القرابين. في مدخل الممر الأول وجدتُ تابوتاً كبيراً يُعيق طريق الدخول، وسأضطر للمرور بجانبه لاستكمال السير في الممر.

تعتقد الأسطورة أن قداسة العجل تبدأ عندما يولد من رحم بقرة مُقدسة (حتحور) حيث ينزل البرق من السماء فوقها فتحبل به. وكان يحمل العجل المقدس علامات خاصة وهي أن يشتمل جسمه على البقع السوداء عدا غرة بشكل مثلث على جبينه

في كل ممر عدد من السراديب التي بها توابيت العجول الفارغة ويبلغ عددها 24 تابوتاً. البعض منها كان مُنيراً بشكل جيد ومُدعم بدعامات حديدية تجنباً لانهيار السرداب، وفي البعض الآخر الإضاءة معتمة وسنحتاج فلاش الموبايل أو مصباح كهربائي صغير.

جولتي في الداخل ستنتهي خلال ربع ساعة على الأقل، ولكنني سأجد نفسي بعدها أعاود الذهاب للوقوف أمام السراديب. أنظر وأنا شاردة الذهن، وأفكر كيف قاموا بحفر تلك السراديب بداخل الصخر ومراعاة الفصل بين كل سرداب والآخر كي لا ينهار المكان كاملاً من الحفر؟ وكيف قاموا بالتخلص من الرديم الترابي الناتج عن حفر هذه السراديب دون أن يتأذى أحد؟ أتخيل هذا هذا التل الترابي والشبورة المحملة بالعفار وتحجب الرؤية أثناء الحفر خاصة مع عدم وجود مصدر للإضاءة.


كيف قاموا بصناعة تلك التوابيت ونحتها بزوايا مستقيمة مثل هذه؟ قد نجد الكثير من السيناريوهات التي تُعيد مشاهد تمثيلها في أخيلتنا عن كيفية نقل تلك الأطنان بداخل السراديب أو ربما تمت صناعتها في المكان. وحتى تلك الممرات التي تأخذ شكل نصف دائرة، كيف نحتوها بهذا الشكل الطولي وبتلك الدقة. فإلى أي مدى من الإعجاز وصلت الحسابات الهندسية على أيامهم؟ وكل هذا نُحت في الصخر تحت الأرض، أتمنى لو أني أملك آلة للسفر بالزمن للإجابة على تساؤلاتي، وأتساءل لو أنهم وصلوا لسرّ ما من أسرار التكنولوجيا قديماً.

اكتشف المكان عالم الآثار الفرنسي أوغست مارييت بين عام 1851 و1854، ووجد التوابيت فارغة بالكامل نظراً لتعرض محتواها للسرقة في عصور مبكرة، ماعدا تابوت واحد فقط.

قام مارييت باستخدام الديناميت معه، وتفجر جزء صغير منه، وعلى الرغم من سوء تصرفه إلا أنه كشف لنا مستوى صلابة الجرانيت واستخدامه بهذا الشكل وكأنه صُنع خصيصاً لمقاومة أي نوع من أنواع الضغط!


تترواح أزمان التوابيت بشكل عام من عصر الدولة الحديثة حتى العصر المتاخر، ونجد على أحد التوابيت اسم ملك من ملوك الأسرة الثلاثين، حيث ورد: "العام الثاني الشهر الرابع من فصل الفيضان تحت حكم الملك خباش فليحيا للأبد، حبي أوزير- أبيس إلى حور محبوب الثور القوي"، فكان كل ملك من الملوك يقوم بإهداء العجل أبيس في المكان لروح الإله.

يسمى المكان اصطلاحاً بـ"السيرابيوم" وقصة تسميته باختصار هي أن المصريين القدماء اعتادوا منذ العصور المبكرة دفن العجول المقدسة بمقابر بمنف، وعمل مقصورات للزيارة فوق سطح المقبرة

ويسمى المكان اصطلاحاً بـ"السيرابيوم" وقصة تسميته باختصار هي أن المصريين القدماء اعتادوا منذ العصور المبكرة دفن العجول المقدسة بمقابر بمنف، وعمل مقصورات للزيارة فوق سطح المقبرة، وقد أنشأوا تلك المقابر خاصة لدفن العجول في دهاليز سفلية تحت الأرض مزودة بممرات كثيرة وحجرات للدفن تُفتح على كلا الجانبين، وتوضع فيها توابيت العجول المُحنطة. وظلت كذلك حتى عصر البطالمة في مصر وأقام عليها بطلميوس الأول تعديلات وأدخل تماثيل أبيس للمعبد، وأنشأ مثلها تماماً في الإسكندرية، وقام بتسميتها "السيرابيوم"، فأصبحت المقابر الأساسية بمنف تسمى كذلك أيضاً. ولكن لماذا فعل هذا؟



كانت قداسة أوزير هي السائدة في البلاد، وكان أبيس هو العجل المُقدس الذي تجسدت فيه روح الإله أوزير تحت ااسم "أوزير- أبيس"، والإله بتاح تحت اسم "با–بتاح" حسب الأسطورة. فعندما دخل البطالمة مصر ووجدوا العبادة السائدة ذلك الوقت هي عبادة "أوزير- أبيس"، دعت الحاجة لخلق سياسة دينية مشتركة لتجنب النفور الديني بين معتقدات الإغريق والحضارة المصرية القديمة؛ فقام بطلميوس الأول بعد وفاة الإسكندر وتوليه الحكم بإقناعهم أن أوزير-أبيس هو خير من يصلح بأن يكون إله الإغريق بدلاً من إلههم ديونيسيوس" (باخوس لدى الرومان)، والذي قامت التيتان بتمزيقه، وهو على هيئة ثور. ومن هنا أدخل بطلميوس الأول لمنف عبادة مبتدعة لإله تحت مسمى سيرابيس. أما من ناحية المصريين القدماء فقام بطلميوس بإقناع الكَهنة أن سيرابيس ما هو إلا أوزير-أبيس، ولكن بمسمى إغريقي!



وتعتقد الأسطورة أن قداسة العجل تبدأ عندما يولد من رحم بقرة مُقدسة (حتحور) حيث ينزل البرق من السماء فوقها فتحبل به. وكان يحمل العجل المقدس علامات خاصة وهي أن يشتمل جسمه على البقع السوداء عدا غرة بشكل مثلث على جبينه، ومِثلها بشكل الهلال على جنبه الأيمن، وتوجد تحت لسانه علامة تُشبه الجعران. تلك العجول المُقدسة كانت هي الوسيط الروحي بين الإله وبين الناس، للاعتقاد بأن أفعاله بمثابة إشارات مُرسلة ليتمّ ترجمتها وتفسيرها على يد كهنة معنيين.

وعلى الرغم من كثرة الروايات حول سرّ السيرابيوم، والتي تصل إلى أسطورة عبرية بالتلمود وتدعمها دساتير الماسون، بأنه عندما شرع الملك سليمان ببناء الهيكل استعان في بنائه بكبير أمراء الجحيم السبعة، وهو الشيطان "أشمداي"، وأحضر له أشمداي مادة تُسمى "الشامير"، كان يستخدمها المصريون في ذلك الوقت لصناعة توابيت حجرية. فسرق المادة وقام بتغليفها بالرصاص لكيلا يتعرض لها الهيكل مباشرة فيتدمر، ليستخدمها سليمان بحرص في بناء الهيكل. والشامير هي مادة لها القدرة على القطع ونقش الأحجار والمعادن بكل سهولة مثل "الليزر" تماماً، وورد عنها في مدراشيم اليهود أن النبي موسى استخدمها في نقش أحجار درع الدينونة!

وعلى الرغم من عدم ثبوت صحة هذه الرواية لأنه ليس هناك هيكل من الأساس، لم يكشف أحد عن سرّ المكان وتوابيته حتى الآن، وكانت هذه هي نهاية الجولة في بيت أوزير-أبيس، كما سماها الملك رميسي الثاني في طقس تقديس العجول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard