مساء 19 تموز/ يوليو الماضي، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بالتعليقات على حادثة قتل زوجة لزوجها. كان ذلك عشية ليلة عيد الأضحى. مشاجرة عنيفة حاول فيها الزوج خنق زوجته، وكسر باب المرحاض فوق رأسها (حسب بيان النيابة العامة)، ما دفع الزوجة العشرينية إلى استخدام سكين صغير ظهر أمامها. طعنت زوجها طعنة فارق على أثرها الحياة.
لم تكن تلك الجريمة الأولى التي شهدتها مصر خلال إجازة عيد الأضحى، فقد وقع ما يزيد على عشر جرائم قتل متبادل بين المتزوجين، ليصبح العيد موسماً لقتل الأزواج والزوجات هذا العام.
مؤشر خطير للغاية
ورغم تبادل رواد مواقع التواصل الاجتماعي النكات ومحاولة السخرية، رداً على الحوادث المتكررة والعنيفة، إلا أن المختصين في علم الاجتماع أشاروا إلى أن هذا يُعَدّ مؤشراً خطيراً للغاية: بعض النساء المصريات يتحولن إلى مجرمات يقتلن بلا رحمة أقرب المقربين إليهن، وهذا يطرح تساؤلاً: لماذا تقتل بعض النساء رجالاً في مصر؟ وهل تحوّل استخدام النساء للعنف إلى ظاهرة؟
يختلف الوضع في مصر عن البلدان المحيطة، فالمرأة المصرية باتت تقتل إعلاناً عن نفسها، في إشارة إلى وجود خلل مجتمعي متصاعد يجبرها على القيام بكل الأدوار دون رحمة.
المرأة التي دوماً ما يقترن ذكرها بـ"المطبخ" في إشارة إلى ضآلة دورها الاجتماعي واقتصاره على الخدمة المنزلية للأسرة، تواجه معوقات عدة، سواء أكانت نابعة من الدين أو التقاليد والأعراف أو حتى يفرضها الجانب التشريعي؛ وكلها عوامل تسببت في تصاعد حدة العنف لدى النساء والميل إلى الانتقام من الجنس الآخر.
ولم تكن جرائم العنف والقتل التي ترتكبها النساء حديثة في مصر، فلا أحد يخفى عليه أشهر جريمة قتل ارتكبتها زوجة بحق زوجها، عام 1985، حينما عمدت سميحة عبد الحميد إلى قتل زوجها وتقطيع جسده إلى عشرين جزءاً، ليخلو لها الطريق مع عشيقها السري... إلا أن جريمتها كُشفت وحُكم عليها بالإعدام كسابع سيدة في مصر يطبَّق عليها هذا الحكم القاسي. كانت الخيانة والفقر وعدم الرضا هي الأسباب الحقيقية لقيام سميحة بجريمتها، حتى أن جريمتها خلّدتها السينما المصرية في فيلم "المرأة والساطور".
وفي عام 2000، صدرت دراسة إحصائية عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، تشير إلى أنه في خلال النصف الثاني من القرن العشرين، زادت نسبة جرائم القتل التي ترتكبها نساء ويكون ضحاياها من الأزواج، وزاد ارتكاب جرائم القتل العمد بشكل عنيف ومباشر باستخدام الآلات الحادة والأسلحة النارية والبيضاء.
سبقت دراسة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية دراسة أخرى اهتمّت بجرائم القتل التي ارتكبتها نساء خلال الفترة بين عاميْ 1990 و1999، ورصدت أن النساء اتهمن في ما يمثل 6.4 في المئة من الجرائم التي ارتُكبت خلال الفترة المذكورة. واحتلت محافظات الوجه البحري نسبة 48.2 في المئة من الجرائم النسائية، تليها محافظات الصعيد بنسبة 35.2 في المئة، ثم محافظات القاهرة والإسكندرية والسويس بنسبة 15.3 في المئة، كما أشارت الدراسة إلى أن 72.8 في المئة من الجرائم ارتكبتها نساء داخل المنزل ما يعني وجود صلة قرابة بين الضحية والجانية.
لكن نسبة النساء القاتلات ارتفعت أكثر خلال السنوات الأخيرة، خاصة في ظل وباء كورونا المستجد. فبحسب ما أعلنته الأجهزة الأمنية المصرية، فإن خريطة القتل في القاهرة الكبرى وحدها (كيان إداري يشمل محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية) خلال عام 2020، تتضمن 338 جريمة قتل. بلغت نسبة القاتلات من النساء 21 في المئة، والأطفال نحو عشرة في المئة، و69 في المئة من الرجال. ومثلت جرائم العنف الأسري وحدها 24 في المئة من الجرائم التي حدثت خلال العام المنقضي.
ما الذي تغيّر؟
لكن إنْ كانت جرائم القتل والعنف الأنثوي موجودة سابقاً، فما الذي تغيّر؟
تغيّرت أحوال المصريات، وبعد أن كانت الأعمال المنزلية هي المهمة الأولى وربما الوحيدة للزوجة، أصبح الخروج إلى العمل إجبارياً، لسد حاجة الأسرة ومساعدة الزوج في تدبير أمورها.
تصاعدت نسبة النساء المعيلات للأسرة في مصر في السنوات الأخيرة، حتى أنه وفي عام 2017، أوضح جهاز الإحصاء الرسمي في تقرير له أن عدد الأسر التي تعولها نساء تمثل حوالي 3.3 مليون أسرة، بينما في عام 2019 ارتفع عدد الأسر التي تعولها نساء إلى 4.1 مليون أسرة.
مساء 19 تموز/ يوليو الماضي، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بالتعليقات على حادثة قتل زوجة لزوجها. لم تكن تلك الجريمة الأولى التي شهدتها مصر خلال إجازة عيد الأضحى، فقد وقع ما يزيد على عشر جرائم قتل متبادل بين المتزوجين، ليصبح العيد موسماً لقتل الأزواج والزوجات
وفي آذار/ مارس من عام 2021، أشارت بيانات رسمية إلى أن العدد في ازدياد وأن نسبة النساء اللواتي تعملن عملاً دائماً تقدر بـ88 في المئة من عدد النساء المقدر بـ48.5 مليون امرأة.
وضاعفت أزمة كورونا من مشكلات النساء المعيلات، نظراً لأن أغلبهن ينتمين إلى فئة العمالة المؤقتة، والتي طالتها يد البطالة بسبب الجائحة، ما تسبب في زيادة أعداد الأسر الفقيرة، واستحالة العيش مع أزواج لا يستطيعون الإنفاق على الأسرة، فازدادت حالات الطلاق إلى 221،194 حالة في عام 2020.
علاقات مسمومة وعنف متبادل
عزة عبد العاطي، خمسينية مطلقة، تقول إن زوجها كان دائم المكوث في المنزل، وظل سنوات متعطلاً، ما أجبرها على الخروج إلى العمل لسد احتياجات الأسرة الضرورية. ورغم عملها المستمر ليل نهار، إلا أنه كان دائماً ما يعنّفها ويعتدي عليها جسدياً، حتى أنه وفي إحدى المرات فقدت عقلة من إصبعها، ولم تستطع أن تكمل حياتها الزوجية، فشعرت بأنها في علاقة مسمومة وقاتلة. قالت لنفسها: "إنْ لم أهرب الآن من المنزل إما أن يقتلني أو أقتله لا بديل". جمعت حاجياتها الضرورية وخرجت بلا رجعة، ثم حصلت على الطلاق مقابل التنازل عن جميع حقوقها.
توضح الدكتورة هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع في جامعة بنها، لرصيف22 أن هناك حالة من الإنكار والتعجب وعدم الفهم لحالات العنف الأسري المتواترة تسود أنحاء مصر، خاصة وأن هناك العديد من الجرائم التي يكون أبطالها على درجة من التعليم والوعي الاجتماعي، لكن رغم ذلك يمارسون عنفاً شديداً تجاه الآخرين وأنفسهم، وبعضهم يصل إلى القتل، مردفة أنه قديماً كان القتل يُستخدم كأداة للثأر أو قضايا الشرف، لكن الآن وفي جملة الحوادث الأخيرة تظهر الخلافات البسيطة كمسبب للقتل والعنف الشديد، ومع الضغوط الحياتية والاقتصادية الضخمة التي تواجهها الأسر تولّد الشعور بالعدوانية بين الأزواج إلى درجة حلّ محل المودة والرحمة ليحدث الانفجار السريع.
وتضيف: "العنف أصبح حالة عامة في مصر تجده في الشوارع والنوادي والمدارس والمتاجر والمنازل، في كل مكان، حتى أن الدراما والإعلام أصبحا أيضاً يموجان بالعنف والسلوكيات المتدنية، وبرأيي أن العنف المتولد جاء نتيجة زيادة النزعة المادية والطموح غير المنضبط وأيضاً فقدان الشعور بالرضا مع طاقات معطَّلة نتيجة انتشار البطالة، ما جعل الواقع أكثر عنفاً، لذا أؤكد أن حالات القتل الأخيرة ليست فردية ولا تعبّر عن مشاكل شخصية وإنما هي مشكلة مجتمعية عامة تكاد أن تصبح ظاهرة يجب دراستها والتعرف على أساليب معالجتها".
وترى منصور أن القوانين الموجودة كافية لردع جميع أشكال العنف ضد المرأة، لكن هناك عيباً خطيراً في التطبيق، فهناك تباطؤ في تطبيق القانون والأخذ به، كما ينظر إلى السيدة المعنفة في كثير من الأحيان بأنها متهمة، كما يجري في حالات التحرش والاغتصاب، لذا يجب أن تكون هناك بيئة اجتماعية تتفهم وتقبل القوانين لكي نصل إلى عدالة قانونية بالنسبة إلى النساء المعنفات.
وتندرج تحت مفهوم العنف القائم على النوع الاجتماعي سلوكيات كثيرة يرى المجتمع المصري أنها أمور عادية، كضرب الزوج زوجته وضرب الأب بناته أو ما يمارَس من عادات مثل ختان الإناث، أو الدخلة البلدي، أو ممارسات مثل الزواج الإجباري والمبكر.
القتل الاجتماعي والتشريعي للنساء
إيزيس صلاح، عشرينية لم تتزوج بعد، صرخت في حسرة حين ضربها شقيقها الأصغر أمام والدها حينما قررت أنها لا تستطيع ارتداء غطاء الرأس (الحجاب). لم تستطع وهي الشقيقة الكبرى للأسرة الدفاع عن نفسها. حاولت أن تصرخ مُطالبة بمحاسبة الصغير على فعلته، لكنه سبقها وطردها خارجاً في الثانية صباحاً بملابس النوم. لم تستفق من الصدمة إلا وهي في قسم الشرطة، تحاول تحرير بلاغ تعدٍّ بالضرب والعنف المنزلي، لكن رجال السلطة قاوموا الفكرة وسخروا منها، قائلين: "كيف لشقيقة أن تقدّم بلاغاً رسمياً بشقيقها؟ الشرع والعُرف المجتمعي يمنعان ذلك".
بعض النساء المصريات يتحولن إلى مجرمات يقتلن بلا رحمة أقرب المقربين إليهن، وهذا يطرح تساؤلاً: لماذا تقتل بعض النساء رجالاً في مصر؟ وهل تحوّل استخدام النساء للعنف إلى ظاهرة؟
صممت الفتاة على الشكوى، لكنها تراجعت عن الاستمرار في الإجراءات القانونية بعد أيام، نظراً لمرض والدها المفاجئ. لكن في يوم الحادث، ومع تعنت رجال الشرطة عن مساعدتها، لجأت إلى أصدقاء لها اقتحموا منزلها وساعدوها في جمع ملابسها وحاجياتها الضرورية، ثم المغادرة فوراً بعد أن تيقنت من أنها لن تستطع البقاء في منزل يسكنه العنف ولا يستطع والدها توفير الحماية لها فيه.
تقول إيزيس: "ليست المرة الأولى التي يضربني فيها شقيقي الذي يصغرني بعشر سنوات كاملة، في كل مرة أسامحه بعد استعطاف من الوالدين، لكن هذه المرة لم أستطع خاصة بعد أن طردني من منزلي في منتصف الليل، وأمام والدي، كانت الصدمة التي جعلتني لا أثق في رجل حتى الوالد، وبت ناقمة على كل الرجال، وأرغب في إيذائهم".
قصة إيزيس لم تكن الأولى، هناك ملايين النساء داخل مصر يتعرضن للعنف الأسري يومياً، لكن لا يستطعن اللجوء إلى القانون نتيجة عوامل عديدة أبرزها الخوف من رد فعل الذكور المحيطة، أو إلقاء اللوم على الضحية.
يقول المحامي والمرشح السابق لمقعد مجلس نقابة المحامين المصرية ياسر سعد لرصيف22 إن وقائع القتل المشار إليها آنفاً والتي شهدتها مصر خلال إجازة عيد الأضحى السابق، شهدت في معظمها عنفاً متبادلاً بين الأزواج، ما يضعها إما تحت طائلة الدفاع الشرعي عن النفس أو القتل الخطأ غير المتعمّد، ولكل حالة خصوصيتها التي يستند فيها القاضي على الأدلة، إلى جانب قناعاته، ليصدر حكمه، ومن السابق لأوانه أن يتوقع أحد حكم القضاء في مثل هذه الجرائم.
لكن سعد يشدد على أن القوانين الموضوعة حالياً غير كافية لحماية النساء في ظل مجتمع ذكوري وسلطوي يسعى لأن تكون الكلمة الأولى والأخيرة للرجل رغم أن المرأة نصف المجتمع وتتحمل كافة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية أيضاً.
ويشرح أنه لم يحدث تغليظ سوى في قانون مواجهة وقائع التحرش وحماية البيانات الخاصة بالضحية في قضايا العنف ضد المرأة، لكن المحامين يعتبرون أن تغليظ العقوبة كأنه لم يكن لأن العنف سيظل موجوداً في ظل مجتمع متجمد فكرياً.
ويضيف: "الحل برأيي استحداث محاكم خاصة بقضايا العنف ضد النساء مثل محاكم الأسرة والمحاكم العمالية، كما نحتاج إلى قانون موحد للعنف ضد المرأة لأن قانون العقوبات المصري يعرض نصوصه بشكل عام لا يخصصها لرجل أو امرأة، ونحتاج إلى قوانين تدعم الطرف الأضعف وهو المرأة.
هل تنصف القوانين المصرية النساء؟
الناظر إلى القانون المصري يجد أن هناك تمييزاً واضحاً لصالح الرجل، فرغم تطور المجتمع ودخول المرأة كشريك أساسي في الأسرة، ما زالت هناك ولاية للرجل على المرأة كشكل من أشكال السلطة التي يمنحها القانون المصري مثل: المنع من السفر والمنع من الزواج بدون ولي وتوزيع الإرث.
كما تميّز بعض القوانين الرجال عن النساء مثل التشريعات الخاصة بحالات الزنا التي تُعاقب الزوجة التي تثبت إدانتها بالزنا بالسجن لمدة لا تزيد على سنتين، داخل أو خارج بيت الزوجية، ويعاقب الزوج الذي تثبت إدانته بالزنا بالحبس لمدة لا تزيد عن ستة أشهر، فقط إذا حدث الزنا داخل بيت الزوجية. ويسمح القانون بتخفيض عقوبة الزوج القاتل لزوجته الزانية إلى السجن ثلاث سنوات، بينما لا يوجد نص للتخفيف من العقوبة أو مبرر للزوجة التي تقتل الزوج الذي يرتكب الزنا.
كما يعطي القانون المصري للزوج الحق منفرداً في الطلاق، وفي حال طلبت الزوجة الطلاق عليها إما أن تلجأ إلى المحكمة للخلع والتنازل عن كافة الحقوق أو رفع دعوى طلاق للضرر وفيه يخضع الحكم للسلطة التقديرية للقاضي.
ويختم المحامي ياسر سعد حديثه بالقول إن التمييز الواضح لصالح الذكور، في ظل المنظومة الاجتماعية أو التشريعية، وفي ظل الانهيار على مستوى الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية والحريات العامة، يؤدي إلى ظهور العنف كنوع من أنواع المقاومة ضد السلطة، لكن الأفراد يوجّهونه توجيهاً خاطئاً نحو أنفسهم وبعضهم البعض، خاصة نحو الطرف الأضعف وهو النساء، ومع تكرار ذلك أصبح هناك عنفاً مضاداً من النساء لحماية ذواتهن وحفاظاً على حقوقهن وحيواتهن من الانتهاك المستمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...