أكثر من 20 كيلومتر مربع من جبال مدينة القدس المحتلة أكلتها النيران، إثر الحرائق التي اندلعت الأسبوع الماضي، واستمرت لأيام. فحولتها أشجارها إلى رماد وطبيعتها الخضراء إلى أراض جرداء. لكن، وإن ظن أحد منا، لوهلة، بأن غضب الطبيعة لا يفرّق بين أرض محتلة وأخرى غير محتلة، فسرعان ما سيتضح الاختلاف بعد أن أظهرت هذه الحرائق حقيقة جغرافية تاريخية لم يكن لأحد أن يكشفها بسهولة لولا النيران التي أكلت الأخضر واليابس؛ عشرات القرى والبلدات الفلسطينية المدمرة بالكامل، على مداخل غربي القدس المحتلة، تم إخفاؤها إبان نكبة عام 1948 بأشجار الصنوبر. وعلى الرغم من معرفتنا بهذه السياسة التي انتهجتها إسرائيل منذ قيامها على أنقاض الشعب الفلسطيني ومدنه وقراه، إلا أن بعض المناطق قد تذهب ذكراها طي النسيان، فيطغى المشهد البصري المُخرج والمُقحم لأرض تغطيها الطبيعة على الذاكرة والتاريخ.
إخفاء الوجود الفلسطيني بالصنوبر
يقول المؤرخ الفلسطيني د. جوني منصور لرصيف22: "بعد إخماد الحرائق في جبال القدس، تبين المشهد الطبيعي للمنطقة من الناحية الجغرافية. وهذا المشهد يُظهر مدرجات ومساطب زراعية تؤكد وجود قرى وبلدات فلسطينية قبل الاحتلال"، ويضيف: "عملياً، هذا المشهد الطبيعي الذي ظهر في المنطقة، يؤكد وجود حياة بشرية وُجدت منذ فترة طويلة وليس حديثاً. عمل الاحتلال على إخفاء هذه الحضارة منذ عام 1948، حيث دمّر عشرات القرى والبلدات الفلسطينية غربي القدس المحتلة. ثم قام في بداية خمسينيات القرن الماضي بتحريشها بأشجار الصنوبر الأوروبية، وذلك بهدف إخفاء هذه القرى والبلدات، وإنكار وجودها، واستبدال الفضاء الفلسطيني بفضاء آخر يمثل الاحتلال والمستعمر الأوروبي". ومن أجل تحقيق هذا الاستبدال، قام الاحتلال بزراعة شجر الصنوبر الأوروبي الشاهق، بدلاً من أشجار البلوط والسنديان الطبيعية التي ميّزت الطبيعة الفلسطينية، وبدلاً من الأشجار التي زرعها الفلاح الفلسطيني مثل الزيتون والكرمة واللوزيات. "أشجار الصنوبر لا تتلاءم مع طبيعة مناخ بلادنا، كونها سريعة الاشتعال ولا تتحمل الارتفاع الحاد في درجات الحرارة، فهي تتكون من مواد سريعة الاشتعال مثل الصمغ. أما الأشجار التي زرعها الفلاح الفلسطيني، كشجرة الزيتون، فيعرف- الفلاح- كيف يتعامل معها؛ يقص أطرافها بعد حصد المحصول منها، ثم إن الماعز تتغذى عليها، بينما لا تتغذى على أشجار الصنوبر"، يقول منصور ويردف: "هذه الأشجار دخيلة على مناخ بلادنا. ولولا وجودها في جبال القدس، لما انتشرت، غالباً، النيران بهذه الطريقة. في الوقت الذي لا توجد فيه تأكيدات رسمية إسرائيلية عن سبب الحريق".
تطهير المكان وزراعة الاستعمار في فلسطين
وعن سبب زراعة الاحتلال الإسرائيلي لأشجار الصنوبر بالذات، في جبال القدس وعلى أنقاض البلدات والقرى الفلسطينية المهجرة، يقول منصور: إن الاستعمار الصهيوني زرع هذه الأشجار من أجل محاولة دمج المستعمر الصهيوني الأوروبي، نفسياً، في فلسطين. وبالتالي لا يشعر بأنه دخيل أو غريب عن هذه الأرض". ويضيف المؤرخ: "كان المستعمرون اليهود الأوروبيون متخوفون من المناخ ودرجات الحرارة العالية، واختلاف الحيز المكاني عليهم، فكان تحريش جبال القدس، ومحاولة إضفاء الطابع الأوروبي عليها، جزءاً من محاولات الاحتلال لتقليص الفجوة النفسية بين المحتل والأرض المحتلة".
التطهير المكاني بهذه الطريقة، وبحسب منصور، امتد من يافا، شماليّ القدس، مروراً بمدينتي اللد والرملة، حتى وصل جبال القدس، التي كانت البوابة الغربية للمدينة بالنسبة للقادمين من يافا والمناطق المحيطة بها. مشيراً إلى أن هذه الحرائق، التي امتدت على مساحة واسعة بسبب سرعة اشتعال أشجار الصنوبر، ليست الأولى من نوعها، سواء في القدس، أو في عدد من المناطق شمالي فلسطين المحتلة عام 1948.
عمل الاحتلال على إخفاء هذه الحضارة منذ عام 1948، حيث دمّر عشرات القرى والبلدات الفلسطينية غربي القدس المحتلة. ثم قام في بداية خمسينيات القرن الماضي بتحريشها بأشجار الصنوبر الأوروبية، وذلك بهدف إخفاء هذه القرى والبلدات
يعتقد د. جوني منصور، أن "لا حاجة للبحث علمياً في منطقة جبال القدس بعد تعرضها للحريق، من أجل إثبات وجود حضارة فلسطينية قبل الاستعمار الصهيوني. فما زال هناك لاجئون فلسطينيون على قيد الحياة يعيشون في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها، كانوا يعيشون في قرى وبلدات جبال القدس المهجرة". ويقول إن من بين القرى والبلدات الفلسطينية المهجرة التي تعرضت للحرائق بشكل كامل أو جزئي هي: كسلة، ساريس، صطاف، وقد غير الاستعمار أسماءها إلى: كسالون، شورش، ستاف.
مدرجات استعمارية
وعن المدرجات التي كشفتها النيران في جبال القدس، وانتشرت صورها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يقول منصور إنها موجودة في المنطقة منذ أكثر من 400 عام. وهي منحدرات ومساطب كانت تساعد المزارعين الفلسطينيين لمنع انجراف التربة، وتجميع المياه لسقاية الأشجار التي يزرعها الفلاحون، أشهرها شجرة الزيتون. "هذه المدرجات تنم عن خبرة المزارع الفلسطيني حينها، ومنظومة حياة كاملة كان يعيشها في أرضه وبين أشجاره وإنتاجه الزراعي".
ورغم ذلك؛ يعتقد الباحث المقدسي في العلوم الاجتماعية، د. خالد عودة الله، في منشور عبر صفحته الرسمية في موقع "فيسبوك"، أنّ العديد من هذه المدرجات أنشأها الاستعمار نفسه. فيقول: "الحقيقة أن الكثير من المدرجات (كانت تسمى الحبلات) والسناسل الحجرية قامت "الكيرن كيمت" (الصندوق القومي اليهودي) بإنشائها بعرق ومهارة العمال الفلسطينيين. وذلك في سياق مشروع التشجير الاستعماري، والذي اعتمد على زراعة الأشجار الدخيلة (الصنوبر) مع السعي على المحافظة على المشهد التقليدي لخلق صورة مختلقة لاستمرارية تاريخية"، مضيفاً: "يمكن للمدقق أن يميّز ما بين المدرجات الأصليّة والاستعمارية من خلال آثار الحفارات الهيدروليكية على الصخر، ومن خلال نمط بناء السلاسل الحجرية التي بنيت ما بعد النكبة والتي عادة ما تكون مكونة من طيّة واحدة ودون أساس متين، وطبيعة الحجارة شبه المنتظمة التي استخدمت في بنائها".
أما مرشد الجولات والناشط الفلسطيني، عمر الغبري، فقد قال في منشور عبر صفحته في موقع "فيسبوك"، إن الإسرائيليون كانوا يدعون بأن هذه المدرجات هي "إرث يهودي" يعود لفترة بني إسرائيل في أرض كنعان قبل أكثر من ألفي عام. رواية محبوكة لضبط الأسطورة الصهيونية". ويضيف: "في كل الحالات الاستعمارية فشل المستعمِرون، على المدى البعيد وفي نهاية المطاف، بفرض هويتهم. وما نجحوا ببنائه ما هو إلا مظاهر سطحية يمكن تقشيرها بسهولة. وها هي النار تحرق القشرة وتكشف الهوية الحقيقية المدفونة تحتها".
"لا حاجة للبحث علمياً في منطقة جبال القدس بعد تعرضها للحريق، من أجل إثبات وجود حضارة فلسطينية قبل الاستعمار الصهيوني. فما زال هناك لاجئون فلسطينيون على قيد الحياة يعيشون في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها، كانوا يعيشون في قرى وبلدات جبال القدس المهجرة"
السلطة الفلسطينية مدّت يد العون للاحتلال
شارك 20 رجل إطفاء فلسطينياً في جهود إخماد الحرائق التي اندلعت في جبال القدس. وكان وجه وزيرا الجيش والخارجية الإسرائيليان، الثلاثاء الماضي، شكراً للرئيس الفلسطيني محمود عباس على إرسال مساعدات لإخماد الحرائق المشتعلة، بحسب تغريديتين نشرتا على صفحتهما الرسمية في موقع "تويتر". وحسب موقع صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية، فإن السلطة الفلسطينية عرضت المساعدة ثم استجابت إسرائيل للطلب. وهذه هي المرة الثالثة التي تقوم بها السلطة الفلسطينية بتقديم المساعدة لإسرائيل بإطفاء الحرائق الضخمة، حيث شاركت بإخماد الحرائق في عام 2010 في جبال الكرمل (شماليّ فلسطين المحتلة)، وفي عام 2016، في جبال القدس. ونوهت "يديعوت أحرنوت" إلى أن السلطة الفلسطينية تفصل العلاقة بين التوتر الأمني والجمود السياسي وبين المساعدات الإنسانية المتبادلة في حالات الطوارئ التي تحتاج الى دعم ومساعدة قوات الإطفاء والانقاذ.
رفضوا إخلاء منازلهم لأنّ النكبة عادت إلى أذهانهم
عين نقوبا هي إحدى القرى العربية القليلة التي ما زالت موجودة ومأهولة بالسكان في منطقة غربي القدس، وقد كانت قريبة من مكان اندلاع الحرائق. يقول رئيس مجلس محلي عين نقوبا، سليمان عوض الله، في حديث لموقع "عرب 48"، "إن الجهات المسؤولة ألحت ومارست ضغطاً من أجل إجلاء المواطنين من القرية رغم عدم وجود خطر حقيقي علينا، وبدورنا قمنا بإجلاء المسنين والمرضى حتى نقلل من الضغط الذي تعرضنا له". وأضاف: "المواطنون رفضوا مغادرة منازلهم رغم دعوات الجهات المسؤولة بإجلاء القرية، بعدما عادت إلى أذهانهم نكبة العام 1948، فضلوا البقاء في منازلهم ومواجهة الحرائق، وحتى الآن لم ألق تفسيراً لدعوات الإخلاء التي لم تكن لها أية ضرورة".
لا يمكن ألا تُشكل هذه الأفكار مخاوف حقيقية من نوايا الاحتلال. فالأمر لا يتعلق بذاكرة الفلسطيني عن نكبته عام 48 فحسب، بل ترتبط أيضاً بمشاهد حية تحصل أمامه في حي الشيخ جراح وفي سلوان وفي مناطق القدس الفلسطينية كافة، أثبتت فيها إسرائيل أن لا هدف لها سوى تهويد القدس وإخلائها من هويتها الفلسطينية وسكانها الفلسطينيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون