تخيّل معي أنك ابن تاريخ يتفسخ منذ عام 1948 إلى اليوم، 73 عاماً تجرّ هويتك وثقافتك وتراثك وبيتك وجراحك، وتسير بها بحثاً عن حياة. وحين تموت وتترك كل الأشياء خلفك يلاحقونك في حفرتك الصغيرة، ينزعونك من قعرها بحجة أنك دُفنت على أرضٍ تصنَّف في قوانينهم "أملاك الغائبين".
يحاول الاحتلال الإسرائيلي إقناع الفلسطيني أنه يعيش في عالم التباسي وخطر، لا يستحق أن يكون موجوداً فيه، ولو على هيئة جثة. ولطالما كان هدف الإسرائيلي إبادة الفلسطيني، لا نفيه، ولا نقله إلى عوالم أخرى. وضمن هذا الإطار، بإمكاننا أن نفهم دافعاً من ضمن دوافع عدة للاحتلال، تهدف إلى تهويد الهوية والتاريخ والوجود الفلسطيني برمته، بالاعتداء على الأماكن الأثرية كالقبور التي تُثبت الوجود الفلسطيني أو تعود إلى حضارات قديمة، فتشوهها، أو تحوّلها إلى أماكن خاصة بالإسرائيليين، أو تباع إلى شركات استثمارية.
وضع الاحتلال يده على الممتلكات والأراضي، ومن بينها المقابر، بعد سيطرته على أملاك المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين عام 1952. أما المقابر التي تعود إلى حضارات سحيقة، فغالباً ما تقوم إسرائيل بسرقتها والسيطرة على ما فيها من آثار.
تهويد المقابر التاريخية
على صعيد المقابر الفلسطينية الحديثة، فغالبيتها حين يتم الاستيلاء عليها، تتحول من أرض تخدم الموتى إلى أرض تخدم المستوطنين والمصالح التجارية والاستثمارية، وحتى الترفيهية. فمثلاً، مقبرة القشلة في يافا؛ المرتبطة بالمقبرة البرية التاريخية، تعود إلى الحقبة المملوكية. لم تسلم من عمليات التجريف لصالح بناء فندق سياحي وشقق سكنية لليهود. أما مقبرة قرية الجماسين المهجرة، فقد جُرفت في سبيل توسيع حي يهودي عام 2005. وظهرت عظام الموتى على السطح حين بدأت عمليات الحفر. لكن أعمال البلدية لم تتوقف. ومقبرة قرية الشيخ مؤنس المهجرة، حولتها بلدية تل أبيب إلى سكن جامعي. كما باع الاحتلال الإسرائيلي مقبرة طاسو بموجب عقود ثُبت أنها مزورة، وجرت مناوشات عديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لوقف عمليات البناء.
أما موتى مقبرة عبد النبي قضاء يافا، فقد أُلقي برفاتهم في القمامة. يعود تاريخ هذه المقبرة إلى ما يزيد عن 250 عاماً، بُني على أنقاضها فندق هيلتون وحدائق عامة. وجرى تحويل المقبرة الإسلامية في عسقلان إلى موقف سيارات لخدمة المستوطنين.
مقبرة القشلة في يافا؛ المرتبطة بالمقبرة البرية التاريخية، تعود إلى الحقبة المملوكية. لم تسلم من عمليات التجريف لصالح بناء فندق سياحي وشقق سكنية لليهود
أساليب ضم مقابر القدس للخطة التهويدية
مقبرة مأمن الله من أكبر المقابر الإسلامية في القدس. وكانت المقبرة الرئيسة لدفن وفيات المسلمين منذ الفتح الإسلامي حتى عام 1927. وتضم قبور العديد من العلماء والقضاة، من بينهم: شيخ الإسلام تقي الدين القلقشندي، ابن الهائم الحاسب المصري، شيخ الإسلام أبو المعالي المقدسي. لا تبعُد هذه المقبرة عن باب الخليل إلا كيلومترين فقط. أما مقبرة باب الرحمة فتضم قبور الصحابة الكرام من بينهم قبري عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، فضلاً عن شهداء الفتحين العمري والصلاحي.
حوّل الاحتلال %70 من مساحتها إلى حديقة عامة؛ "حديقة الاستقلال"، وأُقيم على جزء آخر منها فندق ضخم و"متحف التسامح"، بالإضافة إلى إنشاء مدرسة وحمامات عامة. كما يقام على أنقاضها مهرجان سنوي للخمور، تحييه فرقة موسيقية بجانب قبور المسلمين.
يسعى الاحتلال إلى تهويد مقابر القدس في سبيل القضاء على التاريخ الفلسطيني، فهذه القبور بمثابة السجل التاريخي الذي يحتفظ بالوقائع، ويمنحها اسماً وشاهداً وذكرى للتخليد. وهذا ما يؤكده خالد زبارقة المختص في شؤون القدس، في مقابلته مع TRT عربي: "الاحتلال الإسرائيلي يستهدف تحديداً منطقة "الجندي المجهول"، وهي قطعة الأرض الملاصقة للمقبرة اليوسفية، من منطلق أنه يريد السيطرة على كل قطعة أرض فارغة في منطقة القدس، وخاصةً المناطق المحيطة بالبلدة القديمة والمسجد الأقصى".
ينتهج الاحتلال أساليب عديدة لتهويد القدس، فإلى جانب الاعتداء المباشر على القبور الإسلامية وكتابة الشعارات العنصرية عليها، لجأ إلى زراعة القبور اليهودية الوهمية؛ لتثبيت الرواية الصهيونية عن أحقية اليهود في القدس. أما الأسلوب الأخير فهو الأكثر رواجاً على صعيد المقابر في فلسطين كافة لا القدس فحسب، وهو الاستيلاء على الأرض أو جزء من المقابر وتحويلها إلى حدائق توراتية، أو "محميات طبيعية".
خطورة المقابر الوهمية
يزرع الاحتلال المقابر الوهمية تحت ذريعة استصلاح/ استحداث القبور، مستهدفاً بشكلٍ أساسي الأراضي المملوكة للأوقاف المحاذية لأسوار المسجد الأقصى، وسلون وجبل الزيتون. بهذه الطريقة يثبت الصهيوني روايته وأحقيته في الأرض، وأسبقيته عليها. هل تعرف كيف تُبنى هذه القبور؟
في دراسةٍ بعنوان "مقابر القدس شهود على التهويد"، يشرح مصطفى أبو زهرة طريقة بناء هذه القبور، فيقول إنها عبارة عن حفرة بعمق 35 سم وقطرها 40 سم، تُثبَّت فيها قضبان حديدية ويُصبّ عليها الإسمنت، ثم تُغطّى بحجر كبير، ويرصف العاملون تراباً على طول القبر الجديد، ليبدو وكأنه قبر موجود منذ مئات السنين، كما تُنقش نجمة داود على حجر يُثبَّت داخل المقبرة الوهمية.
يسعى الاحتلال إلى تهويد مقابر القدس في سبيل القضاء على التاريخ الفلسطيني، فهذه القبور بمثابة السجل التاريخي الذي يحتفظ بالوقائع، ويمنحها اسماً وشاهداً وذكرى للتخليد
لا يقتصر الأمر على زرع المقابر الوهمية، وإنما يُحرم المقدسيون من دفن موتاهم، فبحسب القرار الذي أصدره وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال وقتذاك آفي ديختر، عام 2007 يُمنع المقدسيون المسلمون من دفن موتاهم في الجزء الجنوبي الشرقي من مقبرة باب الرحمة؛ لأنها ستكون جزءاً من حديقة وطنية سيتم إنشاؤها. وتكرر الأمر في المقبرة اليوسفية عام 2014، إذ منعت قوات الاحتلال دفن المسلمين في الجزء الشمالي، وأزالت عشرين قبراً من المنطقة المستهدفة بما فيهم قبور جنود أردنيين استشهدوا في حرب 1967. كما وضعت لافتة عند مقبرة الرحمة، جاء فيها عبارات تحذيرية بالعربية والعبرية تمنع الدفن وإلقاء النفايات، مضمَّنةً عناوين وأرقام هواتف تابعة لسلطة الطبيعة والحدائق.
عمل الاحتلال الإسرائيلي على بناء أقدم وأكبر مقبرة يهودية في القدس تحت الأرض، على امتداد سفوح جبل الزيتون، إذ تبلغ مساحة الأرض التي تقع عليها 250 دونماً، علماً بأنها أرض وقف إسلامي منذ ما يزيد عن 130 عاماً. تم تأجيرها لمدة 99 عاماً إلى إحدى المؤسسات اليهودية لدفن الموتى اليهود فيها، وفور احتلالهم الأرض عملوا على توسيعها ودفن "جميع اليهود فيها" نظراً لقدسيتها بالنسبة إليهم.
تهدف هذه المقبرة إلى الترويج للرواية التلمودية اليهودية، حتى أنهم قاموا بربطها في المسارات التلمودية المحيطة بالبلدة القديمة والمسجد الأقصى، إذ أصبحت تتسع لأكثر من 24 ألف قبر يهودي.
مقابر خلّدت حكايات موتاها
المقبرة الإسلامية في مدينة بيسان خلدت حكايات موتاها الذين عاشوا حتى عام 1948، ولعل حالها اليوم أشبه بمدينة غزة التي لفظت حجارة عماراتها إثر الصواريخ، مقارنةً بالمقبرة اليهودية المجاورة لها، والتي من الصعب التمييز بينها وبين الحديقة العامة.
وثّقت الجزيرة نت في إحدى زياراتها إلى هذه المقبرة قصة ضريحٍ يحتضن فتاةً شابة تدعى حفيظة -ابنة الشيخ محمد الزيناتي أحد أعيان مدينة بيسان- التي سرقها الموت قبل أن تُزفّ إلى خطيبها، فكُتب على ضريحها هذا البيت الشعري:
في عامها العشرين فاضت روحها
ما كان أسرع ما جرى بوفاة
ولذلك الأزهار لا تكسو الربى
حتى تزول بأقرب الأوقات
اشتهرت المقابر القديمة في المدن الساحلية كبيسان، وعكا، وحيفا، واللد والرملة بكثرة المغتربين، فمنهم من قضى نحبه قبل أن يعود إلى وطنه ودُفن في مقابر فلسطينية، خاصةً في القرنين التاسع عشر والعشرين. لذا كانت الآية الكريمة: "وما تدري نفس بأي أرض تموت"، تُكتب كثيراً على رخام قبور هؤلاء الغرباء الذين جاؤوا إما سياحةً أو تجارة من أقطار الوطن العربي كافةً. مثلاً يحكي تقرير الجزيرة عن سيدةٍ سورية جاءت إلى عكا ودُفنت فيها عام 1885، وكُتب على شاهد القبر: ليُعجب ضريحي بتاريخه... فداري دمشق وعكا الضريح".
يزرع الاحتلال المقابر الوهمية تحت ذريعة استصلاح/ استحداث القبور، مستهدفاً بشكلٍ أساسي الأراضي المملوكة للأوقاف المحاذية لأسوار المسجد الأقصى
هذه القبور تذكّر بفلسطين المضيافة، فلسطين التي كانت في أوج ازدهارها حين تلقت صفعة الاستعمار. الاحتلال الإسرائيلي يعرف أن وجود وبقاء هذه الأضرحة يُشكّل تهديداً لدولته. فهو لا يستهدف الفلسطيني وحده، وإنما كل مقبرة تحمل ضريحاً يعود إلى تاريخ النكبة أو ما قبلها.
هكذا يشكّل الغرباء، حتى الموتى منهم، رد فعل "إبادي" لدى الإسرائيلي. في هذه المقابر جزء من حكايتنا، تاريخنا، حُبنا، وخيبتنا واغترابنا. "الحكاية" هي عامل الخطر الأول الذي سعى الاحتلال ولا زال يسعى لتحويره، فمشكلة إسرائيل ليست مع المقبرة كأرض، وإنما مع المفاهيم والحكايات والبطولات التي تحملها هذه المقابر، وتحتفظ بها. إسرائيل لا تحتاج إلى أراضٍ لتضيق بها فلسطين، فتختار المقابر.
ما الحل إذاً يا إسرائيل، بسيطة، العمل على رقمنة الموتى الفلسطينيين وتحويل أماكن دفنهم إلى "مقابر أرقام".
رقمنة الموتى ومقابر الأرقام
لم تعد مفارقةً غريبة بعد كل ما سلف، أن تفرض إسرائيل عقوبات على الجثث التي تعود إلى شهداء فلسطينيين وعرب ممن استشهدوا في مراحل مختلفة من الكفاح الوطني. ومقابر الأرقام هي عبارة عن مدافن محاطة بحجارة من دون شواهد، وتُثبَّت فوق القبر لوحة معدنية تحمل رقماً يكون بمثابة بديل عن اسم الشهيد، ولكل رقم ملف خاص لدى إسرائيل، فيه جميع المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد.
كشفت مصادر صحافية إسرائيلية عن وجود أربع مقابر من هذا النوع في فلسطين: مقبرة الأرقام المجاورة لجسر "بنات يعقوب" عند ملتقى الحدود السورية-اللبنانية، وفيها نحو خمسمئة قبر لشهداء فلسطينيين ولبنانيين ممن ارتقوا في حرب 1982 وما بعدها. مقبرة الأرقام الواقعة في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة أريحا وجسر داميه في غور الأردن. ومقبرة ريفيديم في غور الأردن. ومقبرة "شحيطة" في قرية وادي الحمام شمال طبريا، وتقع بين جبل أربيل وبحيرة طبريا، غالبية قبورها تضم شهداء معارك منطقة الأغوار بين عامي 1965-1975. غالباً ما تكون المقابر قليلة العمق مما يعرّضها للانجراف، أو قد تظهر الجثث منها فتكون فريسة سهلة للضباع والكلاب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...