شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الأخ الكبير والأحمق الصغير... لو يعود ميلغرام ويجري اختباراته من خلال صناديق الاقتراع!

الأخ الكبير والأحمق الصغير... لو يعود ميلغرام ويجري اختباراته من خلال صناديق الاقتراع!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 24 أغسطس 202112:19 م

بعض الشعوب أو الجماعات ليست بحاجة إلى عين ترقب سلوكاتها وتحدّد تحرّكاتها، فتبرمجها من خلال "تليسكرين"، جهاز الرعب الأبرز في  رواية "1984" لجورج أورويل. التنويعات على وسائل المراقبة تتعدد في مجتمعات تعاني قهر سلطة شموليّة، أيّاً كانت وجهتها: دينيّة، اجتماعيّة، أم سياسية علمانية؛ فالأمر سيّان.

توجيه الأفكار –بدايةً- قد يكون قمعيّاً قاهراً، أو من خلال أكاذيب تحاصر الفكر لإعادة توجيهه بما يخدم هذه السلطة، لتبلغ الشخصية مرحلة "الإستدماج" للأفكار؛ فتعيد إنتاج مقولات هذه السلطة بيقين راسخ.

   إذا كان جورج أورويل قد كتب روايته الديستوبية هذه في عام 1949 متنبّئاً أو متوجّساً من خطورة تقييد الفكر، واقتحام الخصوصيّات، واصطناع كائن بشري معدني فاقد العواطف ودقيق الضبط لانفعالاته خشية عين الأخ الكبير، فإنّ ستانلي ميلغرام قد أجرى أبحاثه سنة 1963 لتدوين مدى استجابة العيّنات المشاركة في تجربة الإذعان للسلطة، والتصرّف على نحو يخالف الضمير الإنساني أو مشاعر الإشفاق التي كانت تسم من قام بتنفيذ أوامر المشرف في إرسال تيار كهربائي إلى ضحية (من الفريق المشارك أيضاً) قد يودي بها كما يظن -مخدوعاً- مُرسل التيّار. فجاءت النتائج صادمة ومخذلة على المستوى الإنساني.

التنويعات على وسائل المراقبة تتعدد في مجتمعات تعاني قهر سلطة شموليّة، أيّاً كانت وجهتها: دينيّة، اجتماعيّة، أم سياسية علمانية؛ فالأمر سيّان

حالما تصوّرت الأخ الكبير بشاربه الأسود الغليظ، وبعينيه اللتين تتابعان شخصيات الرواية أنّى اتجهت- وهاتان العينان ليستا بالطبع كعينيّ الموناليزا المبتسمتين بحزن، والملهمتين لمن يتأملهما بأكثر من دلالة- عادت بي الذاكرة إلى أحمق صغير صادفته في أحد المهرجانات الفنيّة المقامة في بلدي، وكان من الفريق المنظّم لإحدى الحفلات الموسيقيّة.

هذا الفريق ينتمي بمجمله إلى منظمة حزبيّة ترعى المهرجان. وصودف أنّه في تلك الأثناء منذ أعوام تنوف على الخمسة، حدث تقارب بين هذه الجهة السياسيّة الراعية وطرف آخر مؤيّد لدولة عظمى تنتمي إليها الفرقة؛ وذلك بعد توتر في العلاقات. فلا بد إذاً من إثبات صدق النوايا وبرهنة حسن الاستقبال للضيوف المرافقين من هذا البلد.

   أمامي بصفّين، رحّب هذا الشاب- صاحب الحكاية- بالضيوف، على وجه مبالغ فيه. غير أنه لسوء حظ سيدتين قد تركتا مقعديهما، لأسباب تخصهما، كانا ضمن هذا الصف الذي شغله الضيوف. سمعت جدالاً بين السيدتين والمنظّم، ليشتدّ فتعلو النبرة الآمرة بالجلوس في مقاعد شاغرة في الخلفيّة، أي بمستوى الصف الذي كنت فيه.

ما كان منهما إلا الامتثال والجلوس على مضض، لكنّ الحادثة لم تنتهِ لأنّ أحد المقعدين كان غير مريح لعطب فيه، فاستمر الامتعاض والهمس في محاولة لإعلام المنظّم. بنظرة مواربة لمحت قسوة في عيني الشاب يصوّبهما إلى السيدتين، مفادها أنني أراكما وأسمعكما، ولن تفلحا..

توجيه الأفكار قد يكون قمعيّاً قاهراً، أو من خلال أكاذيب تحاصر الفكر لإعادة توجيهه بما يخدم السلطة، لتبلغ الشخصية مرحلة "الإستدماج" للأفكار؛ فتعيد إنتاج مقولات هذه السلطة بيقين راسخ

   ابتلعت غيظي بعد أن تنازعني شعوران بأن أواجهه بصلفه أو أصمت لأستمتع بالحفل؛ فسكتت! لكن السؤال يبقى معلّقاً، وإن كنت على معرفة بإجابته: رغبة من ينفّذ هذا الشاب؟ وهل من قائد أعلى أعطاه أمراً مباشرا وقتذاك؟ الإجابة: لا. بل إنها تعاليم مستدمجة من أخ  أكبر سرّب رغبته بأقلّ قدر ممكن من الكلام، ليفهم هذا الأحمق المؤدلَج ما عليه أن يفعله في ظروف مماثلة، كي لا يغضب ضيوفاً عزيزين، عربون مصالحة ومحبة.

فتصحيح العلاقة على المستوى السياسي استدعى محواً لما سبق، كأنّ التاريخ سبّورة تمسح ليدوّن عليها المطلوب في اللحظة السياسيّة الراهنة، على ما يذهب أورويل في روايته.

إذا كان جورج أورويل قد كتب روايته الديستوبية في عام 1949 متنبّئاً أو متوجّساً من خطورة تقييد الفكر، واقتحام الخصوصيّات، فإنّ ستانلي ميلغرام قد أجرى أبحاثه سنة 1963 لتدوين مدى استجابة العيّنات المشاركة في تجربة الإذعان للسلطة

   حالة الاستدماج قد نعثر على بدائلها الاصطلاحية، في علم النفس الاجتماعي،  في مفهوم "الأنا الأعلى" أو الذات الاجتماعية العليا؛ وهي من حاكميّات الجماعة التي تنتمي إليها الذات الفرديّة. وقد تطرّقت دوريس ليسنغ في واحدة من محاضراتها الخمس، والمجموعة في كتاب مترجم تحت عنوان "سجون نختار أن نحيا فيها" (دار العين، 2019) إلى خطورة هذه الحالة –الرقابة الداخليّة/الذاتيّة- التي قد لا يعي بها الفرد، مشيرة إلى تجارب ميلغرام.

   تتبدّى أيّ جماعة سلطة عليا تمارس إكراهاتها على الأفراد؛ فيذعنون. لذا، فإنّ الكيفيّة التي نرى بها أنفسنا هي جزء من مناخ عام، كما تعبّر ليسنغ، موضّحة أنّ الخطر لا يكمن في الانتماء إلى جماعة ما أو جماعات (اجتماعيّة، دينيّة، وسياسيّة)، بل في عدم إدراك القوانين الاجتماعيّة التي تحكم هذه الجماعات، وبالتالي تحكمنا فتجعلنا متشابهين في المزاج والتفكير؛ الأمر الذي يفضي إلى مشقّة الإبقاء على رأي فردي مخالف مع الحفاظ على عضوية الانتماء إلى الجماعة في الوقت نفسه. وترى أنّ المناخ العام سُمّ غير مرئي يتفشّى بين الناس؛ فيتصرّفون على نحو مغاير لقناعاتهم.

   وإذا تحدّث أورويل عن التفكير المزدوج، فإنّ ليسنغ تناولت مسائل الولاءات العمياء والانصياع للشعارات والخطب الرنّانة، والرضوخ لرأي الأغلبية في أن نقول إنّ الأسود أبيض لأنّ الآخرين كانوا يقولون ذلك! لعلّ الروائيين يتفقان على أنّ الفرضيّات الأساسيّة للجماعة لا تناقش؛ هو العقل الجماعي المقاوِم للتغيير، ومجهّز ببديهيّات مقدّسة أنشأها تاريخ الجماعة في واقعنا المرجعي –لدى ليسنغ-، واختلقها الأخ الكبير في مجتمع النص التخييلي- كما لدى أورويل.

لذا، فإنّ التبدّل في الرأي على مستوى الأفراد يرهص بتحوّل اجتماعي ويكون هذا الرأي الجديد جزءاً من هذا التغيير، لكنّه يغدو مع الوقت موقفاً عاماً؛ وهكذا تتابع سلسلة التماهيات والإذعان لسلطة الرأي العام.

إذا تحدّث أورويل عن التفكير المزدوج، فإنّ ليسنغ تناولت مسائل الولاءات العمياء والانصياع للشعارات والخطب الرنّانة، والرضوخ لرأي الأغلبية 

ليس بعيدا عن هذه التصوّرات، ترفدنا مقولات الفيلسوف الوجودي نيقولاي برديائيف (في كتابه "العزلة والمجتمع") في وصفه الشخصيّة الفرديّة بأنّها التضادّ المجسّد للفردي والاجتماعي، للحريّة والمصير. وفي أنّ المأساة الأبديّة للحياة الإنسانيّة تبين في الصراع القائم على التعارض بين الشخصيّة وبيئتها الاجتماعيّة.

ويميّز بين الضميرين: "نحن" و"هم"؛ والأخير يحيل إلى التشيّؤ والضياع وسط الجموع، من طريق المحاكاة بوصفها العامل المحدّد في حياة الجماهير. وما يصيب الشخصية الفردية هو الفقر من حيث الكيف، عندما تخضع للإيحاء الجماعي ولغريزة التماهي مع انفعالات تسود الجماعة. ويخلص إلى أنّ شعور الشخصيّة الخاص ووعيها قد ابتلعهما الضمير الغائب "هو" أو "الشيء".

   المختلف في رواية "1984" كان وينستون سميث، فلم يذعن للسلطة إلا مكرهاً، ولم يتماهَ معها، فقرر أن يدوّن يومياته على الرغم من رعبه من شرطة الأفكار- بحكم أنّ جريمة التفكير هي الموت- فيردّد أنّه ليس الأمر أن تُسمع بل أن تبقى عاقلاً، فتواصل قدماً الميراث الإنساني.

إنّ المأساة الأبديّة للحياة الإنسانيّة تبين في الصراع القائم على التعارض بين الشخصيّة وبيئتها الاجتماعيّة

وهو حين كتب، خطّ سبب حاجته للكتابة وسط الأكاذيب، ومحو التاريخ بتجديده كل لحظة بما يتفق وإرادة الأخ الكبير؛ فيدوّن: "إلى المستقبل أو إلى الماضي، إلى زمن يكون فيه الفكر حرّاً، عندما يختلف المرء عن الآخر، ولا يعيش وحيداً، إلى زمن توجد فيه الحقيقة، وما يحدث لا يمكن محوه: من عصر التماثل، من عصر الأخ الكبير، من عصر التفكير المزدوج".

   التفكير المزدوج هو ما ترتكبه غالبية المرهونين لحاكميات التقاليد الاجتماعية والأعراف السياسية في مجتمعات تتوزع حصصها السلطوية جماعات أو حاكم أوحد يمتلك العين المراقبة. إنّما الأشد عنفاً حين تستدمج أفكار السلطة.

لعلّ شرّ دليل على الانفصام أو الازدواج في المعايير والأقوال والأفكار صناديق الاقتراع حين تفتح، فتعلن نتائج الانتخابات المعيدة رموز السلطة نفسها. ولنا أن نردّد مقولة دوريس ليسنغ في أنّ القضايا الاجتماعيّة تطرح وفق قواعد سيكولوجية الجماهير؛ وبناء عليه تدار الانتخابات مسرحيّاً!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image