شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
رواية

رواية "الطاعون" تتجسّد ثانية في وهران... وكورونا يُعيد كامو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 9 أبريل 202001:00 م

عادت رواية " الطاعون" لألبير كامو إلى الواجهة مع اجتياح جائحة كورونا، ورجع القراء إليها لإعادة تمثّل الحالة. ربما تأخذ إعادة قراءة رواية كامو طابعاً خاصاً بالنسبة لمن يعيش في وهران مثلي أنا. وهران التي ارتبطت في المخيلة العالمية بهذه الرواية. يستعيد قارئ الرواية الأجواء التي اكتسحتها، والصراعات النفسية الناجمة عمّا يفرضه اكتساح الوباء.

حالة تكتسح مع كورونا سبق لكامو التعبير عنها بكثافة أنطولوجية في رائعته "الطاعون". تستيقظ أحاسيس أبطال تلك الرواية في من يعيش رعب الجائحة. المكان بلا صخب، معزول وبلا فيضان البشر. العزل منفى، والمنفى يشعل جمر الذاكرة.

اجتياح كورونا فرض إيقاعاً مغايراً للمألوف. فجأة فرغت المدن و أصبحت الشوارع المكتظة والمشحونة بالصخب خامدة. وتحولت إلى فضاء يذكّر بأجواء فيلم "أنا أسطورة "، إخراج فرانسيس لورانس وبطولة ويل سميث، والمأخوذ عن رواية الأمريكي ريتشارد ماثيسون.

ورغم فجائعية المشهد، فإنه أفصح بالنسبة لمن حجب عنهم الصخبُ ما بقي في مدينة وهران من روحِ تشكّلِها التاريخيّ وخصوصيتها الأنثربولوجية؛ ففي الفراغ تتشكل مرايا تستحضر الغياب المتواري تحت طبقات التحريف العمراني.

كورونا كثفت الإحساس بخراب المدينة؛ إحساس تؤججه الذاكرة في صور وبطاقات بريدية، وفي كتب الفرنسيين الذين ولدوا وعاشوا في جزائر الزمن الكولونيالي

جولة في مناخ مشحون بالرعب من العدوى؛ الرعب الذي تكثّف بالتسريبات المتضاربة لمواقع التواصل الاجتماعي وحتى وسائل الإعلام التقليدي. جولة في المدينة، تعيد إلى الذاكرة توقيعات من عبروا الشوارع. من كانوا يجلسون في مقاهٍ تتحول معهم إلى فضاء للنقاش.

وهران التي رثاها مطربها، أحمد وهبي، في أغنية أعادها ملك الراي، الشاب خالد، تواجه بعراءٍ الحجرَ  ليكتب مرثيتها. أسير في شوارع شبه خالية. نفي الأجساد أعدم التجسّد و التجسيد، وتبيّن أن الجسدي محوري في معادلة الوجود. أسير فتستيقظ محفوظات الذاكرة. والذاكرة ـ بتعبير عبد الكبير الخطيبي ـ موشومة بجرح يتجلى في فراغ المساحة.

في كلّ شارع حكايات. الحكايات تنطق حين يخمد الصخب، والمشاهد تظهر عندما تتوارى الحشود، وتتعدّد وتختلط. مشاهد من فترات مختلفة تحكيها صور، وتتناقلها سرديات شفوية ومكتوبة.

في مقهى "سنترا" كان يجلس ألبير كامو، يكتب ويتجرع الجعة. في مقاهي ساحة "أول نوفمبر" وحيّ "الدرب"، كان يجلس المسرحي علولة، رفقة رفيقه السوسيولوجي أمحمد جليد. وفي مقاهى "عدن" و"المنصورة" و"فالوريس"  كان يلتقي الكتاب والمثقفون. في كلّ بقعة توقيع وإيقاع وواقعة.

في نهج "مستغانم" الذي تحول إلى "محمد بوضياف"، تمّ اغتيال علولة، وهو خارج من بيته في أمسية رمضانية، متوجهاً نحو قصر الثقافة -الذي كان يديره الأديب أمين الزاوي ـ لتنشيط نقاش مسرحي.

ساحة "الطحطاحة" التاريخية التي كانت طيلة عقود مشحونة بالصخب وبالحركة، غدا الفراغُ يتحرّك فيها ويحرِّك ما توارى. هنا كانت تقام جلسات المقاهي، وتنبعث الإيقاعات الموسيقية؛ إيقاعات الشيخ حمادة عميد الأغنية البدوية والموسيقار محمد عبد الوهاب. وفي الساحة فرقة "الباندة الزهوانية" كانت تصنع الاحتفاليات. "الطحطاحة" الآن عارية، والعراء فظيع يحرّك جمر الذاكرة. بجوار الطحطاحة ساحة "سيدي بلال" وإيقاع القرقابو. إيقاع يرتبط بالعمق الإفريقي في حيّ كان يسمى "قرية الزنوج".

في مقهى "سنترا" كان يجلس ألبير كامو، يكتب ويتجرع الجعة. وفي مقاهى "عدن" و"المنصورة" و"فالوريس" كان يلتقي الكتاب والمثقفون. في كلّ بقعة توقيع وإيقاع وواقعة

كلّ الجهات ابتلعها الفراغ  والصمت، والحيرة. إحساس فظيع. إحساس تضاعف بالخنق في مدينة فقدت منذ سنين زخمها. أسير في وسط المدينة. تتسلل إلى الأذن هتافاتُ حراك استمرّ أكثر من عام. بدأ في 22 فبراير/شباط 2019، وكان المسار من ساحة "أول نوفمبر"، مروراً بنهج الأمير عبد القادر، ثمّ شارع العربي بن مهيدي، و العودة مروراً من شارع جبهة الأحرار. أصبحت نلك الشوارع  فجأة، خامدةً، والحشود التي شحنها الحراكُ عادت لخمودها.

كورونا كثفت الإحساس بخراب المدينة؛ إحساس تؤججه الذاكرة في صور وبطاقات بريدية، وفي كتب الفرنسيين الذين ولدوا وعاشوا في جزائر الزمن الكولونيالي.

مدينة جاءها الحجر لتدخل فترة ارتباك وإرباك. شوارعها شبه فارغة الآن، ومن يعبرها يشعر بحيرة تتجاوز المألوف. حيرة مركبة بين تسليم للقدر واستغراق في ما يقود نحو اعتناق العبثية والعدمية. حيرة عبّرتْ عنها رواية كامو في عبارة الكاهن "بانولو"، حين اعتبر في وعظه في الرواية: "طريقة الله في حبّه لكم"، كما أكّدتها عبارة "الدكتور ريوو" وهو ينظر إلى طفل من ضحايا الطاعون: "لقد كان هذا على الأقل بريئاً، وأنت تعرف هذا جيداً… سأرفض حتى الموت هذا الخَلق الذي يُعذّب فيه الأطفال".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard