هذا هو النصّ الثاني من سلسلة نصوص أروي فيها أحداثاً عايشتها ظلماً، لأني "شيعي داخل مجتمع سنّي"، فحسب.
الخروج من مبنى أمن الدولة
قام أحد الأشخاص باصطحابي، وأنا معصوب العينين، إلى أن وصلنا إلى سلم، فصعدناه. سمعت صوتاً يأمرني بالتوقف، فشعرت بالقلق حيال ما سيحدث في تلك اللحظة. فهل قُدر لي أن تتوقف معاناتي عند هذا الحد، أم أن للقصة بقية؟ قطع تفكيري شعوري بأشعة الشمس تداعب وجهي، ما ملأ قلبي بفرحة غامرة، كفرحة طفل تائه عند رؤية أمه، ثم اصطحبني ذلك الشخص إلى أحد المباني، وسرنا في رواق طويل مدة ثلاث دقائق. صعدت بعض درجات السلم، لأجد نفسي داخل غرفة مرة أخرى، فاجتاحني شعور بالقلق والهزيمة. وظللت على حالتي تلك مدة ربع دقيقة، حتى سمعت صوت توقف سيارة نقل كبيرة. تقدم نحوي أحدهم، وفك الأصفاد الحديدية القديمة من يدي، ووضع أصفاداً أخرى، ثم جعلوني أصعد السيارة التي تُسمّى "سيارة الترحيلات". وعند إغلاق الباب، سمعت صوتاً، فعلمت أن هناك أشخاصاً آخرين معي في السيارة. سمح لنا "الشاويش" الذي رافقنا أن نرفع الغمامة، فخلعتها. وكان أول شيء فعلته حينها، هو النظر من شباك السيارة، لأرى الشمس، وأستنشق هواء الشارع للمرة الأولى، بعد أشهر عدة. لاحظ أحد رفاقي السعادة البادية على وجهي، فسألني متعجباً: "لم كل هذه الفرحة؟ إنت بقالك كم يوم في الحبس؟"، فأجبته بأني لم أرَ الشمس مدة 85 يوماً، ثم سألت الشاويش عن وجهتنا، ليصعقني الرد بأننا متوجهون لنُعرض على نيابة أمن الدولة. فأنا لم أكن أملك أدنى فكرة عن القضية التي رُفعت ضدي، بل لم أكن اعلم أني على ذمة قضية من الأساس.
دخلت المحكمة من دون علم بتهمتي
عندما اقتربت السيارة من مبنى المحكمة، مررنا بمسجد سيدي أحمد البدوي. دعوت الله بحق صاحب هذا المقام أن يساعدني. وقبل فتح باب السيارة بلحظات، قام الشاويش بوضع العصابات على وجوهنا مرة أخرى، حتى نزلنا، ودخلنا إلى مقر المحكمة. حار فكري في ماهية قضيتي: تراها قضية ازدراء، أم نشر أخبار كاذبة؟ وهل من أحراز في تلك القضية، أم لا؟ ظللت على حالتي تلك، معصوب العينين، منذ الساعة التاسعة صباحاً حتى الساعة الثالثة عصراً. كاد أن يقتلني التفكير. كنت أتمنى العودة إلى مبنى أمن الدولة مرة أخرى، حتى تتوقف تلك المهزلة في ذهني. وحاولت تشتيت ذهني بأن طلبت الذهاب إلى الحمام، فقوبل طلبي بالرفض. ثم سألت حول إمكانية حصولي على هاتف، كي أتصل بأهلي، فرُفض طلبي هذا بشكل أكثر حدة، ما زاد من سوء حالتي.
لم أرَ أخي منذ 85 يوماً. هرول نحوي، واحتضنني، ثم تدخلت قوات الحراسة لإبعادنا، ورفضوا السماح له بالنظر إليّ
صعدنا إلى طابق آخر، حيث توجد النيابة. فرفعت العصابة عن عيني، وبدأت بالتحرك، والرؤية بشكل أكثر حرية. لكني لاحظت أن الحراسة مشددة، فزاد ذلك من قلقي حول حجم القضية التي تسببت في وجود هؤلاء الحراس كلهم. ثم رأيت نظرات التعجب والاستغراب في أعين الناس، حتى الحراس منهم. كنت أشبه بأصحاب الكهف: شعري طويل جداً، وكذلك ذقني، وشاربي. توقفنا أمام باب النيابة، ونظرت حولي، فرأيت شخصاً يدير ظهره لي. لم أتعرف إليه، وقلت في سرّي: لعله أحد المحامين، وسوف يتمكن من مساعدتي، وسأطلب منه أن يحدث أخي. فناديته بصوت عال: "يا يوسف". تلفت ذلك الشخص لأرى عناية الله بأم العين. كان ذلك الشخص هو أخي يوسف نفسه. تجمدت في مكاني لحظات من هول المفاجأة. فأنا لم أرَ أخي منذ 85 يوماً. هرول نحوي، واحتضنني، ثم تدخلت قوات الحراسة لإبعادنا، ورفضوا السماح له بالنظر إليّ، أو التحدث معي.
لقائي بأخي صدفة في النيابة
عند مثولي أمام النيابة، كنت أعلم مسبقاً أنهم حسموا قرارهم تجاهي، قبل عرضي عليهم، أو استجوابي بـ15 يوماً. دُهشت عندما علمت أن تهمتي هي ازدراء الأديان. فما تراه الدين الذي ازدريته؟ قال لي المحقق إن الكتب التي وجدناها في شقتك، أثناء القبض عليك، ليلة أمس... فقاطعته بأني في مقر أمن الدولة منذ يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 2019، وليس منذ أمس. كما أنني لم أتعرض بسوء لأي دين. ثم إن الكتب التي وضعها رجال الأمن، لا أعرف عنها شيئاً، فأنا لا أملك كتباً في بيتي، سوى القرآن الكريم. كانت التهم الموجهة إليّ في تلك الجلسة، جميعها عبارة عن هجوم شرس. طلبت أن يتم رفع البصمات عن تلك الكتب والأحراز. وإذا وُجدت بصمة واحدة تعود إليّ، أو إلى أحد من أهل بيتي، فسأقر بأن تلك الكتب تخصني. قاطعني المحقق قائلاً: لماذا أنشأت جماعة؟ فلم أفهم مقصده، وعن أي جماعة يتحدث. وحين سألته أجابني: "لا ترد على السؤال بسؤال آخر". ثم سمّى جماعتين لم أسمع بهما من قبل، وطلب تعريفاً للمذهب الشيعي. فأخبرته أنه لا يختلف كثيراً عن المذهب السني، وأن الأزهر أفتى بجواز التعبد به. علت وجهه علامات الدهشة، وسأل: متى صدرت تلك الفتوى. فأجبته بأن الدكتور محمود شلتوت كان أول من أصدرها، وأكدها الدكتور علي جمعة، قبل ثلاث سنوات. ثم طلب المحامي عدم الدخول في ذلك الشأن، فالدستور المصري يكفل للجميع حرية المعتقد، وطلب من أحد الكتاب أن يأخذ المحضر إلى رئيس النيابة، حتى يبت في أمره. بدوري، طلبت من المحقق أن يسمح لي بالتحدث مع أمي هاتفياً، كي تطمئن عليّ، فوافق. أخذت الهاتف من أخي، وردت عليّ زوجتي، فتحدثت إليها مدة نصف دقيقة، ثم سمعت صوت أمي، وكانت تلك فرحة كبيرة. تأكدت من أنها بخير، ثم أخذ الضابط الهاتف، وأغلق الخط. وأثناء نزولنا من مبنى النيابة، حدثني أخي أن وجوده اليوم في النيابة كان صدفة صرفة. فقد كان ذاهباً في الأساس إلى القاهرة، وبعد استعداده للسفر، شعر بالنعاس. أخذ غفوة على الكرسي في البيت، وعندما استيقظ وجد أن ميعاد سفره قد فات، وأن الساعة أصبحت التاسعة صباحاً، فجاء إلى نيابة طنطا ليستطلع آخر الأخبار، وفوجئ بعرضي اليوم على النيابة. انتهت الإجراءات، ثم جاء أحدهم، وأجلسني في سيارة الترحيلات مرة أخرى...
دُهشت عندما علمت أن تهمتي هي ازدراء الأديان. فما تراه الدين الذي ازدريته؟ قال لي المحقق إن الكتب التي وجدناها في شقتك، أثناء القبض عليك، ليلة أمس...
الدخول إلى قسم الشرطة
تحركت السيارة نحو قسم شرطة ثانٍ في طنطا، حيث قاموا بتفتيشي قبل الدخول. وبعدها مشيت في ممر، وجدت عند آخره باباً حديدياً. لم توضع الأصفاد في يدي. دخلت إلى إحدى الزنازين، ويُطلق عليها اسم "9 سياسي". فوجدت ثلاثة أشخاص في داخلها. أحدهم مسن، والثاني شاب، وثالثهم طفل. سلمت عليهم، وطلبت الذهاب إلى الحمام كي أتوضأ، ثم أصلي الظهرين. أثناء الصلاة، كنت أبكي من الفرحة التي أنعم الله بها عليّ. كنت أدعو أن يكون رفاقي في الزنزانة أناساً طيبين. وعند انتهائي من الصلاة، قدم لي أحدهم عصيراً، فقلت له إني صائم. أخذوا يسألونني حول سبب اعتقالي، فأجبتهم بأن تهمتي هي إنشاء جماعه مخالفه للقانون. ثم سألت الشيخ عن سبب وجوده هنا، فقال إنه انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين. أما الشاب، فحُكمه 25 سنة. وهذا الطفل قال إنه "داعش كِدز". شعرت بالقلق حيال ما سيحدث، إن علموا بحقيقة معتقدي. هل سيكون السجن سجناً مضاعفاً؟ أم أن الأمور ستمر بسلام؟ مرت تلك الليلة من دون أحداث تذكر. لكن، في اليوم التالي، جاء شخص سلفي ملتحٍ، واحتضن الطفل. وبعد ساعة، جاء شخص آخر ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، فتمنيت في داخلي لو أن حبسي كان انفرادياً. لكن كان عليّ التكيف مع الوضع على أية حال. وفي أحد الأيام، كنت أتناقش مع أحدهم حول موقعة الجمل التي حدثت في عهد الإمام علي بن أبي طالب، فأخبرته أني مؤيد لمواقف الإمام علي، ولم أكن يوماً مع جيش معاوية. ومن هنا بدأت شكوكهم حول كوني شيعياً. فظلوا مدة يومين يحاولون استفزازي من طريق الحديث باستهزاء عن زيارة الأضرحة. وعلى الرغم من الإيلام الذي أحدثه حديثهم، إلا أني فضلت السكوت عن الخوض في مناقشات لن تثمر سوى المزيد من الكراهية والتوتر، حتى قدم إليهم شخص يعرفني، وأخذهم إلى زاوية في الزنزانة، وقال لهم: إنه شيعي. احترسوا، وبدأ البعض يتجنبني تماماً.
لقراءة المقال الأول: شيعي في مجتمع سنّي... ليلة الاعتقال
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.