في خضم أصوات المعارك وأخبار الحرب و"الانتصارات" وأرقام الضحايا المرتفعة، تنتشر بين الفينة والأخرى أخبار على مواقع التواصل الاجتماعي، تحكي عن مشاريع تجاريّة من محلّات ومطاعم، يمتلكها قادة فصائل عسكريّة وزعماء ميليشيات متقاتلة في سوريا، يتحول معها أمراء الحرب إلى تجّار وروّاد أعمال، من دون أي محاسبة على ما ارتكبوه وميليشياتهم خلال السنوات الأخيرة.
هناك قرائن عديدة على صحة هذه الأنباء، ولكن لا توجد أدلة قوية من أوراق قانونيّة وبيانات بنكية، فلا يمكن مثلاً حصر الأموال التي حصل عليها جيش الإسلام من مموليه، سواء في الفترة التي كان يقاتل خلالها في الغوطة الشرقيّة، أو بعد نقله إلى الشمال السوري، كما يصعب حصر وتتبع الأموال التي تحصّل عليها بطرق غير شرعيّة إن صح أنه قام بفرض الأتاوات وارتكب السرقات التي اتُهم بها، وتجاوزاته الكثيرة عن طريق "مؤسساته" المختلفة.
ريادة أعمال أمراء الحرب
يذكر مقال بحثيّ نشره موقع "حكاية ما انحكت" أنّ "رواد الأعمال يساهمون بشكل جلّي في تعزيز الهياكل المؤسسيّة، لأنّ ريادة الأعمال تعد من الميسّرات الرئيسيّة للتنمية المُنطلقة من أسفل الهيكل إلى أعلاه، حيث تتطور المؤسسات تدريجياً وتحقق نتائج أكثر استدامة من خلال الجهود الاجتماعيّة والمؤسسيّة". لكن، مثلما هو متوقع، فإنّ أمراء الحرب السوريين يبتعدون عن هذا التعريف.
الكلام هنا عن قادة الفصائل والميليشيات التي "ادّعت" محاربة نظام الأسد، ومعارضته، ولسنا نحكي عن أثرياء الحرب الذين برز نجمهم في السنوات الأخيرة بسبب ارتباطهم المباشر بالنظام، مثل سامر فوز، الذي يوصف بأنه "رجل أعمال بشار الأسد الشخصي"، و"الرجل الذي بنى ثروته من معاناة شعبه".
تتبع الصحافي خالد الخطيب استثمارات قادة بارزين في هيئة تحرير الشام، في المناطق التي يسيطرون عليها في شمال غربي سوريا، ووجد أنها "ترقى إلى عمليات غسيل أموال"
أعمال تجاريّة أم غسيل أموال؟
في تقرير نُشر حديثاً على موقع المونيتور، يتتبع خالد الخطيب استثمارات قادة بارزين في هيئة تحرير الشام، في مختلف القطاعات الاقتصاديّة في المناطق التي يسيطرون عليها في شمال غربي سوريا، ووجد أنها "ترقى إلى عمليات غسيل أموال"، مذكراً بقرار صدر عن قيادة هيئة تحرير الشام بإخلاء السوق المركزيّة (البازار) في بلدة دارة عزّة، في ريف حلب الغربي، من أجل بناء مركز تسوّق. الأمر الذي دعا العشرات من سكّان المدينة وأصحاب المحال التجاريّة إلى التظاهر ضدّ هذه القرارات.
يذكر التقرير أنّ قادة هيئة تحرير الشام، وهي الذراع العسكرية لحكومة الإنقاذ التابعة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، المدعومة بشكل مباشر من تركيا، "يستثمرون أموالهم في مختلف الأنشطة الاقتصاديّة، ومعظمها في بناء المساكن بسبب زيادة الطلب عليها، بالإضافة إلى الاستثمار في قطاع الترفيه مثل المطاعم والمقاهي والحدائق العامة ومراكز التسوّق. كما يستثمرون في تربية الدواجن والماشية والمحاجر التي تصنّع مواد البناء وتجارة السيارات والصرافة وتحويل الأموال وتجارة الذهب". مضيفاً أنّ كلّ ذلك يتم عادة من خلال وسطاء مدنيين مقرّبين من القادة.
ويذكر التقرير اسم "أبو إبراهيم سلامة"، الذي شغل سابقاً منصب أمير "ولاية حلب" في هيئة تحرير الشام، والذي يشكّل الآن الواجهة الاقتصاديّة التي يعتمد عليها "أبو محمد الجولاني"، رأس هيئة تحرير الشام، ورأس جبهة النصرة سابقاً، في استثماراته.
يُظهر الفيديو أمير الحرب "البويضاني" وسط رفاق له، يستمتع في رحلة سياحيّة في تركيا، في وقت كان معظم المدنيين الذين حكمهم لسنوات طويلة، يعانون في الحصول على مسكن آمن أو طعام أو مياه شرب، منتشرين في مخيمات على الحدود السوريّة التركيّة
في تركيا
في العام 2018، وبعد شهور قليلة من سيطرة نظام الأسد على منطقة الغوطة الشرقيّة في ريف العاصمة دمشق، وبعد تهجير سكان المنطقة من المدنيين نحو مدن وبلدات الشمال، انتشر مقطع فيديو لقائد جيش الإسلام، أبو همام البويضاني، أثار غضباً شعبياً واسعاً.
يُظهر الفيديو البويضاني وسط رفاق له، يستمتع في رحلة سياحيّة في تركيا، راكباً "تل فريك"، في وقت كان معظم المدنيين الذين حكمهم لسنوات طويلة، والذين خرجوا من حصار شديد فرضته قوات النظام السوري والميليشيات التابعة له، يعانون في الحصول على مسكن آمن أو طعام أو مياه شرب، منتشرين في مخيمات على الحدود السوريّة التركيّة.
حسب تقارير نُشرت في تلك الفترة فإنّ أبا همام، واسمه الحقيقي عصام بويضاني، جاء إلى تركيا للاستثمار برأس مال ضخم، من أموال لا يُعرف مصدرها. استقبلته تركيا بالترحيب بالتزامن مع البدء في إعادة اللاجئين السوريين المدنيين قسراً إلى الشمال السوري، في محاولة حكوميّة لتفادي تحويلهم إلى لاجئين دائمين.
لم يتوقف الأمر عن البويضاني، فقد قام محمد علوش، القيادي في جيش الإسلام وعضو هيئة التفاوض للمعارضة السوريّة، في العام 2019 بافتتاح مطعم "إيوان" في حي الفاتح في اسطنبول بتكلفة قُدرت، حسب تقارير صحفيّة، بملايين الدولارات.
أثار افتتاح المطعم آنذاك غضباً كبيراً من قبل الناشطين/ات السوريين، حتى أنّ علّوش نفسه قد قام بالرد بتغريدة على موقع تويتر قائلاً: "لا تسامحوني إن أخذت من مالكم قرشاً بل قدمت الكثير، وكلّ من يطعن بي أمامه أحد حلّين، إمّا أمام الله يوم القيامة، وإمّا أمام القضاء".
وبعد عشر سنوات من انطلاقة الثورة السوريّة، وتحوّلها لاحقاً إلى حرب مفتوحة، تحوّل أمراء الحرب إلى أغنياء يحصون ملايينهم ويستثمرون في قطاعات مختلفة، بعضهم إلى جانب النظام وبعضهم ضدّه، أو تحوّلوا إلى مرتزقة لدى النظام التركي أو عند النظامين الإيراني والروسي.
ومن المؤكد أنّ مشاريعهم هذه وأموالهم التي جنوها خلال سنوات الحرب، لن تعود بالنفع والفائدة على سوريا، أو على السوريين الذين دفعوا، وما زالوا، ثمن هذه الاستثمارات والمشاريع من دمائهم ومن خساراتهم المتتاليّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...