شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ماذا سأقول لطفلي المستقبلي؟ ستكون مثلنا، ستعتاد الظلمة وتنتظر المياه

ماذا سأقول لطفلي المستقبلي؟ ستكون مثلنا، ستعتاد الظلمة وتنتظر المياه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 11 أغسطس 202102:19 م
في صباح الثاني من تموز/ يوليو 2021، راقبت من كثب إشعارات الفيسبوك التي بدأ الأصدقاء والأقارب يضعونها على صفحتي الشخصية، مهنئينني بعام جديد أبدأ فيه ثلاثينات العمر، وتمنياتهم بفرحة كبرى يتبعها طفل، على السريع.

هنا عادت الذاكرة إلى خريف 2008، وتحديداً أوائل الشهر العاشر، يوم فتحتُ باب "السرفيس"، لأصعد لأول مرة وحيدةً، من دون أبي وأمي، من ريف حمص إلى وسط دمشق مباشرة. مرت ثلاث عشرة سنة أمامي بلحظة، على شكل مشهد سريع يشبه فيلماً تم تسريعه في آلة فيديو قديمة. وبدأ مونولوج داخلي يدور في الرأس: ما هي الفرحة الكبرى؟ ومن أنا اليوم؟ وأي فرحة كبرى ستجعل العقل والقلب يضحكان معاً، من دون تمييز؟ هل تعنيني، وأنا على أبواب الثالثة والثلاثين، الفرحة التي يقصدونها؟ عريس وطفل أياً كانا؟ ولماذا العريس مع الطفل هو الفرحة الكبرى؟ وهل صديقاتي وأصدقائي ممن تزوجوا في عز الحرب، كلهم يعيشون اليوم، في هذه الظروف، الفرحة الكبرى؟ ومن صاحب قرار الكبرى والصغرى أصلاً؟ ومن يحق له، غيري، أن يقرر حجم فرحي، وبما أفرح؟ وكم صبية وشاباً سورياً ملوا أحكام القيمة على تصنيفات الفرح، كبيراً كان أم صغيراً؟ وماذا يعني سؤال متى ستهز/ين كتفك؟ هل من فرحة كبرى في سوريا اليوم؟ وهل من هز أكتاف في بلدي غير العمل لأجل لقمة العيش؟

لحظات تتداعى فيها الأجوبة المنطقية التي يفرضها سن الرشد في الثلاثين، فهي جواب العقل للعقل. يجيب عن ماهية الفرحة الكبرى بسؤال آخر، أليست درجة الماجستير في الإعلام فرحة كبرى؟ أما من أنا اليوم، فصبية سورية أشبه الكثيرات، عاركت أشكال الحرب كلها، والدم والقذائف التي عبرت فوقها خلال ثماني سنوات. أدرس، وأعمل، وأخرج، وأضحك، وأحزن، وأكتب مادة صحافية، وأعد برنامجاً ربما يؤثر، وربما لا يؤثر. إذاً أنا موجودة. أعيش مثل الكثيرات المستقلات، صاحبات قرار "من دون عريس وطفل".

أنظر إلى حفيد عمي، عدنان ذي السنوات الست، وإلى ابنة صديقتي ريم ذات السنوات الست أيضاً. هما تماماً بنصف عمر الحرب. أسأل نفسي هل سيعيشون بكرامة، يوماً ما، هنا في سوريا؟ كيف سيعيش هذا الطفل الذي يطالبونني به؟

إذاً، على أبواب الثالثة والثلاثين، أنظر إلى حفيد عمي، عدنان ذي السنوات الست، وإلى ابنة صديقتي ريم، ذات السنوات الست أيضاً. هما تماماً بنصف عمر الحرب. أسأل نفسي هل سيعشون بكرامة، يوماً ما هنا، في سوريا؟ كيف سيعيش هذا الطفل الذي يطالبونني به؟ هنا يرتفع صوت المونولوج الداخلي؛ أين كرامة الطفل الذي لن يستيقظ في الشتاء دافئاً، ولن ينام في الصيف بارداً؟ طفل يرقص لساعتين من الكهرباء، ثم يتخذ من حضن أمه ملجأ ليكون دافئاً في الشتاء. هل سأكون قادرة على تقديم الدفء بعد البرد الذي أعطتنا إياه البلد والحرب؟ يصمت المونولوج هنا.

أعود لأراقب تصرفات الطفل، والطفلة، وأسئلتهم الذكية. وعلى الرغم من اختلاف مكان الإقامة بينهما؛ الريف والمدينة، توحدهما أفكارهما عن الحرب، والقتال، والقذائف، يجسدها عدنان بألعابه: المسدس، والدبابة، وغيرهما. وتجسدها ريم بأسئلتها عن الموت، والحياة، والأسلحة، والرصاص. كلاهما حفظا فكرة الموت عن ظهر قلب. حفظاها أكثر من الحياة. لكني أحب أن يؤمن طفلي، أو طفلتي، بالحياة فحسب، وألا يتعود على الموت في كل شيء، حتى في مشاعره وانتمائه.

يعود المونولوج الداخلي ويحاجج كل سؤال عن العريس والطفل، عند كل وصمة تشير إلى أني "ما بقى إلحق"، ليجيب العقل العقل مجدداً. ماذا لو تزوجت أياً كان، موظفاً يعمل ليلاً ونهاراً، وأنا أيضاً، من سيربي أطفالي، لا أريدهم أن يشبهوا أقرانهم في ذاك الريف أو المدينة، من دون طموح. بماذا سأحدث ابني، أو ابنتي، يوماً لو سألني: "كيف كنتو عايشين ماما؟". هل سأجيبه: "نحن أبطال التأقلم، وأنت ستكون مثلنا، ستعتاد الظلمة، وتنتظر المياه". ماذا لو طلب مني لعبة ثمنها أكثر من دخلي الشهري، هل أحرمه منها، أم أشحذ ثمنها؟ ماذا لو طلب مني كما طلب ابن الجيران ورد، ابن السنوات الخمس، من أمه أن يجلس في مطعم فاخر. هذه الحوارات عبثية كلها، لا ردود منطقية عليها، سوى اتهامات بالتفكير الكثير. نعم، لأن التفكير في أي شيء جريمة في سوريا، حتى التفكير في الحياة.

بماذا سأحدث ابني، أو ابنتي، يوماً لو سألني: "كيف كنتو عايشين ماما؟". هل سأجيبه: "نحن أبطال التأقلم، وأنت ستكون مثلنا، ستعتاد الظلمة وتنتظر المياه"

الحقيقة مُرة، وربما صعبة التطبيق، وهي مجرد حلم. أنا أحلم بطفل أستطيع أن أقدم له "بامبرز" الأصلي، ليكون مرتاحاً، وأحلم بطفل لا يختلف عن أي طفل أوروبي يسبح، ويلهو، ويلعب من دون أن يرتفع لدي منسوب الخوف. أحلم بطفل أستطيع أن أريه بحر البلاد، إذا طلب مني ذلك، ليستمتع به من دون أن يفكر بالهجرة عبره. هذه هي عوامل الفرحة الكبرى بعد عريس، وعرس، وهي حلم الأعزاب في الثلاثين اليوم. يحق لنا أن نحلم، فالحلم فهو تلك الرغبة المكبوتة التي تريد أن تتحقق يوماً. أمام هذه الحوارات الداخلية كلها، التي لا يسمعها أحد، أدفع، كالكثيرين والكثيرات، ثمن هذه القرارات، تبريرات لمجتمع لا يكل ولا يمل، ويفصّل ما يريده كله على مقاساته. المجتمعات السورية التي ربما تختلف في الكثير من الأمور السياسية، والاقتصادية، والدينية، يتفق معظمها على اختراق مساحة آمنة تتعلق بحياة الشابة والشاب، خصوصاً إذا دق العمر ناقوس الثلاثين.

كشفت دراسة لمركز أبحاث أوروبي عام 2020، أن سوريا تأتي في المرتبة الثالثة عربياً، في تأخر سن الزواج بعد عام 2011. كما ارتفع معدل سن الزواج أكثر من عشر سنوات. وفي المقابل، ازدادت نسبة الطلاق. فمثلاً، خلال النصف الأول من عام 2021، تم تسجيل 19 ألف حالة طلاق. تحضر أمامي عند ذكر هذه الإحصائيات صفحات الفيسبوك النسائية، المخصصة للمشكلات الزوجية، وشكاوى النساء عن فقر الحال، والخيانات زوجية، وارتفاع نسبة الجريمة. أول الشهر الحالي دوى صوت الرصاص في العشوائيات، وهي مكان سكني، وقتل رجل زوجته بعد الحب، على مرأى طفل في الثانية من عمره. الرب وحده يعلم ما الذي جرى. ونحن لا نسمع من المجتمع إلا الدعاء بالفرحة الكبرى. من جهة أخرى، لا إحصائيات رسمية عن عدد الشبان والشابات المهاجرين، اللاجئين والنازحين، المتعلمين وغير المتعلمين، وعن عدد الأطفال الذين ماتوا غرقاً في قارب مطاطي. لم تنجِهم صرخة أم، أو دمعة أب. وعلى الرغم من هذا كله، في كل زيارة إلى القرية، أسمع الدعاء بالفرحة الكبرى، وضرورة إنجابي طفلاً.

في الثلاثين تماماً، اللحظة التي يتمم فيها عقرب الثواني منتصف ليلة ميلاد الشخص، فيدخل عامه الثلاثين، تتغير طريقة تفكيره في كل شيء، الحب، والحرب، والزواج، والعمل، وتتغير ردود الأفعال لكلي الأنثى والذكر. لذلك أعاتب الله كما الكثيرات من صديقاتي وأقراني. أعاتبه يومياً. فبدل البكاء على وسادتي لأجل حبيب غادر البلاد، كما فعل الكثيرون من الشباب، هرباً من أشكال الحرب كلها، أجلس وأحدث الله، وأسأله: هل الطموح جريمة تعاقب عليها في كتبك المقدسة؟ أفتش في كتبه السماوية جميعها عن مفهوم " السترة" التي يربطونها بالزوج، والله، فيخاطبون الفتيات قائلين "الله يستر عليكِ". كيف سيسترني زوج، أي زوج، إن كان لا يوجد لدينا ثمن طعام؟ وما زلت كل يوم أعاتب الله ليلاً، لأجل أطفال سوريا، ولأجل أسرة، ربما يكتب لي القدر أن أؤسسها يوماً ما. وأنتظر جوابه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image