شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
فوتوغرافيا المصرية جوي خوري... مشهديات ماغريتية تنكّل بالمرأة

فوتوغرافيا المصرية جوي خوري... مشهديات ماغريتية تنكّل بالمرأة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 24 أغسطس 202112:18 م

امرأة لا يظهر وجهها، تتعرض لجرعات مختلفة من العنف، ينثني جسدها في أوضاع مستحيلة تحت وطأة المهام اليومية التي تؤديها داخل البيت. معان وأبعاد متعددة قد يستنبطها الرائي تلقائياً حين يقف أمام سلسلة "تحت مستوى البحر" للمُصوِّرة الفوتوغرافية المصرية جوي خوري، فيصبح هو نفسه هذه المرأة التي تعرض ذاتها وحيدة لمراقبيها في مشهديات هذيانية.

ثمة روح ماغريتية تسري في هذه الصور التي تنزع الصمت عن الجسد وترد إليه حقه في التألم ورفض ما يُسلّط عليه من "عنف رمزي"، ذلك الذي يصفه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في كتابه "عن الهيمنة الذكورية" بأنه "عنف هادئ، لا مرئي، لا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه"، ويتمثل في أن تشترك الضحية وجلادها في التصورات نفسها عن العالم، وأن يعتبرا معاً ظواهر ثقافية بعينها من المسلمات والثوابت.

ثمة روح ماغريتية تسري في صور جوي خوري التي تنزع الصمت عن الجسد وترد إليه حقه في التألم ورفض ما يُسلّط عليه من "عنف رمزي". "عنف هادئ، لا مرئي، لا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه"

هذا العنف الرمزي تضعه جوي خوري تحت مجهر البحث والتقصّي، بل وتستثمره داخل حفلة أو مأدبة نفسية مكتظة بالتشوهات والكوابيس والانهيارات العصبية التي تمر بها المرأة في حياتها اليومية. تقول في مقابلة مع رصيف 22 إنها رسمت هذه التوليفات البصرية أول الأمر لتُمسك بخيالها الجامح، ثم صممتها في بيتها، مُستفيدة من دراستها للهندسة المعمارية، وقد وضعها هذا المشروع أمام تحديات عدة، كاستخدامها لإمكانيات بسيطة تكاد تكون بدائية، مثل إضاءة البيت، وهي ليست أعلى الإضاءات تخصصاً بالطبع.

كما اختارت أن تكون هي المصورة والموديل في نفس الوقت وأن تغطي وجهها بالكامل، تقول: "لديّ نزوع للتجريد، لا أريد أن يبحث المُتفرج عن هوية الشخص في الصورة، عن الشكل أو الزي، ويلهيه ذلك عن الفكرة".


الصورة هنا تتحول إلى وعاء لجملة من الأفكار والعناصر غير المتجانسة، نرى مقعداً مقلوباً وامرأة تُكيّف جسدها بطريقة مستحيلة على حالة الانقلاب هذه وهي بثياب العمل، مازالت تحاول أن ترفع صينية شاي مرتدية حذاء أنيقاً. نخمن أنه من أجل الزوج أو الضيوف، في حين يختفي وجهها تماماً خلف مكواة. تحيلنا تفاصيل العمل إلى انكسارات عميقة مستترة خلف ما يشبه التجميل المفتعل، ولنا أن نستعيد بشيء من المرارة تلك الدراسات التي تقول إن المرأة أفضل من الرجل في تعدد المهام.

تقول جوي إنها نشأت في بيئة يشارك فيه والدها والدتها القيام بأعمال المنزل، ولم تتعرف على النظرة النمطية التي تربط المهام المنزلية بالنساء إلا عندما بدأت تزور بيوت صديقاتها وتبتعد عن دائرتها الأولى. " كُنا نجلس للأكل معاً، لكن بعد الغداء ينهض الأب والإخوة الذكور بينما يكون على الأم والفتيات أن يرتبن الطاولة".

ولا شك أن هذه هي المُهمّة الأبسط وسط قائمة لا تنتهي. تقول: "ساعة المصيف تتولى الأم تحضير حقائب السفر، وفي الأعياد تتولى النساء واجب التنظيف". هذا النسق الاجتماعي الذي يصنّف المرأة مباشرة في خانة معينة صدم جوي التي استطاعت أن تُميز سريعاً غياب المشاركة وانعدام المساواة، وتساءلت "طيب لو راجل عايش لوحده هيعمل إيه؟".


تحاول الفنانة أن تستدرجنا إلى تعاطف تلقائي ومباشر مع مواضيع أعمالها ومناخها المريب، تلفت انتباهنا خلفية لونية ثابتة وقوية، ثم امرأة أشبه برهينة أو ضحية، تولينا ظهرها وتحشر جسدها في ثوب خانق، بينما "مازورة القياس" تلتفّ حول رقبتها كحبل مشنقة، لتشير إلى الضغط الناتج عن معايير الجمال (المُتغيّرة باستمرار) والصورة الجسدية المثالية مستحيلة المنال التي يطالب المجتمع المرأة أن تظهر بها. الحراك الجسدي البسيط والمتقشّف جداً يحيلنا إلى الأبعاد الضيّقة لحركة النساء وأفكارهن المُصادرة على الدوام.


الجسد عالق، مكمّمٌ بالشرائط اللاصقة. الفم مُغطى، والعينان مغمضتان. صحيح أن الشرح الذي قدمته جوي لهذ الصورة يُشير إلى حق المرأة في ملكية جسدها - هذا الجسد المُستبعد واقعياً من المشهد- لكني أعتقد أنها أشمل صور المشروع تعبيراً عن جهلنا نحن النساء بأجسادنا، بعجزنا عن رؤيتها واختبارها، فهي مُكممة بالخطابات الدينية والسياسية، خطابات القوامة والذكورة وخطابات التلفزيون.

تصور جوي خوري الواقع وتتنصل منه. تلتقطه، تنغمس في بشاعته، وتذهب به إلى توظيفات تعيد بناء واقع موازٍ لا يقل تأثيراً عن الواقع نفسه

الخطابات نفسها التي لقنتنا إياها السينما المصرية. كنت أتمعن في تفاصيل هذه الصورة، بينما فيلم "زقاق المدق" 1963، عن رواية لنجيب محفوظ ومن إخراج حسن الإمام، يُعرض في الخلفية. ومهما حاولتُ خفض صوت الفيلم، كانت صرخات الجميع، رجالاً ونساء، ترتفع من التلفزيون، رثاءً وغضباً وكراهيةً لـ"حَميدة" التي اختارت أن تبيع جسدها.

صحيح أن حَميدة، حسب السيناريو، لم تكن تعلم تماماً ما هي مُقدِمة عليه بسبب ضعف الحب، إلا أن الفيلم كله بدا لي، على ضوء الصورة، إفراطاً في الحكم على الجسد، نوعاً من التثبيت الغريب لفكرة واحدة عن عالم يتغيّر باستمرار. شعرت أن جسد حميدة في الفيلم موضوع للهوس والعقاب الجماعي، واستغربت أن تتعرض امرأة واحدة لهذا الاضطهاد المُنظَّم والمُباح أيضاً، بقوة الأدب والسينما وما اصطُلح على اعتباره العادات والتقاليد.

تقول جوي خوري إنها أحبّت السينما، لكنها تعثّرت في الطريق إليها بالفوتوغرافيا. من خلالها نفذت إلى جملة من القضايا الاختبارية والتجريبية حول مفهوم التأليف البصري وآليات إنتاج الصورة على نحو يخوّلها إعادة بناء الواقع، لا تعقّبه وتوثيقه وحسب. وقد ساعدتها دراسة العمارة في فهم "المنظور" وخلق منطقة ملتبسة في بنية الصورة، تتأرجح بين الوهم والحقيقة.


أثارت سلسلة "تحت سطح البحر" ضجة حين نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وتنوعت التعليقات بين الاستنكار والتجاهل المتعمّد لهذا "العنف الرمزي" الذي تتعرّض له المرأة، ثمة من أنكر تماماً مشقة هذه المهام واتهم الفوتوغرافية بالمبالغة، لكننا نجد تعليقات أخرى تُثني على الطابع الاجتماعي الصادق الذي اتسمت به التجربة. وتعلّق جوي: "اكتشفت أن ما يشغلني يشغل الآخرين، لكنهم ربما لأسباب عدة لا يبوحون".

هكذا تصور جوي خوري الواقع وتتنصل منه. تلتقطه، تنغمس في بشاعته، وتذهب به إلى توظيفات تعيد بناء واقع موازٍ لا يقل تأثيراً عن الواقع نفسه. هذه العلاقة الملتبسة مع الواقع تمنح أعمالها بُعداً تفكيكياً للكثير من المشاهد والصور المألوفة العالقة في ذاكرة كل النساء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image