تنوعت الهوايات الممارسة في العراق بعد عام 2010، كنوع من التعبير عن الاستقرار النسبي الذي ساد. ومن بين ما ظهر كانت فرق "الكي بوب" (K-pop) التي تمارس نشاطاتها على الرغم من رفض المجتمع لها.
يتعرّض هواة "الكي بوب" لشتى أنواع السخرية، والانتقاد، والتنمر، ويعانون من واقع كونهم فئة لا يتقبلها كثيرون في محيطهم. كُثُر من المعجبين بهذا الفن، وبعض الراقصين، عاشوا بسبب ذلك حالات نفسية عصبية اضطرتهم إلى الانعزال والجلوس في منازلهم، وتعطيل حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، خوفاً من ردود الفعل.
لكن في الجهة المقابلة، لا يزال بعض الـ"توب فان"، والراقصين، والفرق، موجودين وناشطين في مواجهة المجتمع، ولا يسعون إلا إلى ممارسة هواياتهم ونيل القبول.
الـK-pop تتكون من جزئين: "الكي" هي اختصار لكلمة كوريا، و"البوب"، من فن الغناء المعروف. وراج "الكي بوب" كثيراً حول العالم مع رواج فرق كورية فرقة BTS، وEXO، وBlackpink، وغيرها، وعادةً تتكون فرقه من خمسة أشخاص وما فوق، وتتميز بعروضها الراقصة بجانب الغناء.
فرق عراقية و"توب فانز"
في العراق، يشكّل هواة "الكي بوب" مجتمعاً صغيراً، وهناك راقصون معروفون، وفرق راقصة، و"توب فانز"، يحبّون الرقص والغناء، ومتابعون نهمون لكل جديد. يمتاز هؤلاء بطريقة لباسهم الخاصة، وبأغانٍ وحركات راقصة خاصة، كما لديهم تجمعات خاصة في أماكن معيّنة، يشارك فيها العشاق فحسب، ممن ينتمون إلى ذلك المجتمع، عن طريق دعوات من الراقصين أو من قبل منظمي بعض المهرجانات، وأهمهم السفارة الكورية الجنوبية في العراق.
بدأت قاعدة المعجبين بـ"الكي بوب" في العراق تتكوّن منذ عام 2016، بسبب تأثير فرقة BTS الكورية. كانت مقاطعها تنتشر على يوتيوب وتتابعها فئة كبيرة، خصوصاً على فيسبوك وإنستغرام. هذا ما تذكره دامي (اسم مستعار)، وهي إحدى الراقصات المشهورات من بغداد، وعمرها 16 سنة.
دامي، بالزي الكوري، في أحد المهرجانات في بغداد.
تقول دامي لرصيف22: تنظَّم تلك الفعاليات من قبل منظمين، أهمهم السفارة الكورية في العراق، وبعض شركات الإنتاج والدعاية والإعلان، مثل "عالم الأنمي والكي بوب"، و"هومي كروب للإنتاج الإعلاني"، وبعض الراقصين والرابرز المعروفين في العراق، ومتاجر "يونايتد سشكنز".
وتشير إلى أن "المعجبين بـ‘الكي بوب’ في العراق تتراوح أعمار غالبيتهم بين 11 و21 سنة، وتُقام نشاطاتهم في بعض القاعات في بغداد، مثل قاعة نقابة الصيادلة، أو قاعة نقابة اتحاد الحقوقيين".
وتنشر بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات من تلك النشاطات تُظهر أداء الراقصين والراقصات وتفاعل الجمهور معهم، فتنهال عليهم تعليقات تصفهم بأنهم "جيل فاشل" و"سفهاء" و"منحرفون" و"منحطون أخلاقياً" و"ناقصو دين وعقل وتربية" و"بلا حياء" و"خطوط ومحاور مشبوهة تحاول تدمير العراق"، و"سبب للفيضانات والزلازل وخسف الأرض"، وتصل إلى تمني الموت لهم، فقط لأنهم يمارسون حرياتهم الشخصية في التعبير عن هوايتهم المفضلة.
يروي أمير الجابري (22 عاماً)، من بغداد، وهو أحد أصدقاء فرق "الكي بوب" والمعجبين بها، أن راقصة مشهورة اضطرت إلى ترك عملها في أحد المجمعات التجارية، وتعطيل حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب سخرية الزبائن منها وانتقادهم لها.
تنهال عليهم تعليقات تصفهم بأنهم "جيل فاشل" و"منحرفون" و"ناقصو دين وعقل وتربية" و"سبب للفيضانات والزلازل وخسف الأرض"، وتصل إلى تمني الموت لهم، فقط لأنهم يمارسون حرياتهم الشخصية في التعبير عن هواياتهم المفضلة
عن كيفية دخولها إلى عالم الـK-pop، تروي دامي أنها، ومنذ كان عمرها سبع سنوات، كانت تتابع مقاطع رقص على يوتيوب، وتعرّفت من خلالها على بعض الفرق، وتقول: "كنت أتمنى تقليدهم، وتعلم طرق الرقص، وفي يوم من الأيام التقيت بصديقات لي كان بإمكانهن تأدية بعض الحركات الراقصة، وحينها أدركت أنه في إمكاني التعلم، وتأدية تلك الحركات، وأنها ليست حكراً على تلك الفرق".
دامي تؤدي رقصة على المسرح، في مهرجان عالم الأنمي والكي بوب.
وعن الصعوبات والتحديات التي واجهتها، تقول الشابة العراقية إن أبرزها كان رفض العائلة في بداية الأمر دخولها هذا العالم، خوفاً من ردود الفعل، "لكن بعد ذلك وافقوا، وبدعم متواصل من الأصدقاء تمكنت من عمل حساب خاص أنشر عليه أغلب رقصاتي، ومشاركاتي، في الكثير من المهرجانات".
وتضيف: "لم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، وإنما واجهتُ الكثير من الانتقادات، خصوصاً عندما ينتشر لي مقطع فيديو لرقصة معيّنة، وتعرّضتُ للسخرية من قبل بعض الأفراد الذين يحضرون في المهرجانات، بسبب طريقة لبسي، أو قصة شعري، أو حركة رقص خاطئة".
دامي، بالكمامة، على المسرح في أحد المهرجانات.
وتتابع: "في أغلب الأحيان، أضع الكمامة أثناء تأدية الرقصات، خوفاً من التنمر المعروف من المجتمع، وبإمكاني تأدية العرض بشكل أفضل عندما أرتدي الأقنعة. حلمي أن أنتشر كأفضل ‘دانسر’ (راقصة) معروفة في العراق، وأحاول دائماً أن أنشر ثقافة الكي بوب، ليتقبلها الجميع".
"في البدء كنت متوترة"
نور ميناج (17 عاماً)، من محافظة النجف، هي طالبة في المرحلة الإعدادية، و"دانسر" مشهورة في العراق. تروي قصة دخولها عالم الكي بوب لرصيف22: "من عمر السادسة، وأنا أتابع رقصات الهيب هوب، والراب، وأتعرف على ثقافات مختلفة، واستطعت تقليدهم قدر ما استطعت".
وتضيف: "كنت أتدرب يومياً على تأدية حركات الرقص المختلفة بسبب شغفي بالرقص. في البدء، لم أستطع إقناع العائلة بالأمر، بسبب البيئة المحيطة بنا في النجف، وما سيقوله أغلب الناس، ولم أستطع الانضمام إلى أي فرقة. بعد ذلك، تمكنتُ من إقناعهم بالأمر. وعام 2017، كانت أولى بداياتي على المسرح، وأمام الجمهور. في البدء كنت متوترة، وخائفة، لكن مع دعم العائلة والأصدقاء، استطعت تحدي الجميع، والفوز في أول مهرجان كي بوب أقيم في بغداد".
نور ميناج تؤدي إحدى الرقصات على المسرح.
تروي نور أنها واجهت الكثير من الصعوبات، و"بالأخص من أقرب الناس إليّ، لكنّي لم آبه لأنني أهتم أكثر بالموهبة، وتقديمها بشكل صحيح. لم أفعل شيئاً خطأ، وأمارس هوايتي للمتعة، وليس للتحدي، واهتمامي كله الآن ينصب حول نشر تلك الثقافة، وتطويرها في العراق".
وتضيف: "حاربنا المنتقدين والمتهجمين جميعهم بالتجاهل، وتقدّمنا ببلاغات ضد بعضهم، وتجاهلنا البعض الآخر. نعاني من بعض الصفحات المغرضة التي تستعمل نشاطاتنا لغرض شيطنتنا، أو افتعال ردود فعل غاضبة ضدنا. لكن على الرغم من ذلك، نحن مستمرون في التطوّر، والتوعية، ونشر صورة أفضل للمهرجانات الخاصة بنا".
"في أغلب الأحيان، أضع الكمامة أثناء تأدية الرقصات، خوفاً من التنمر المعروف من المجتمع، وبإمكاني تأدية العرض بشكل أفضل عندما أرتدي الأقنعة. حلمي أن أنتشر كأفضل ‘دانسر’ (راقصة) معروفة في العراق، وأحاول دائماً أن أنشر ثقافة الكي بوب"
وتلفت إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي ساعدتها على التطور بشكل أفضل، إذ "نجتمع والأصدقاء الراقصين في تحدٍ خاص مع بعضنا البعض، ونحاول دائماً تقليد رقصات جديدة أدّتها فرق عالمية".
"لم يشجعوني"
كيتو (اسم مستعار)، هو "دانسر" عراقي من بغداد، عمره 22 عاماً، وطالب هندسة كهرباء. عن بداياته، يروي لرصيف22: "الجميع طلبوا منّي ترك الموضوع، ولم يشجعوني، والعائلة على رأسهم. لم أهتم، وواصلت العمل والتدرب على الرقص، وقمت بتحديات خاصة مع الأصدقاء عن طريق فيديوهات نشرناها عبر حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي".
كيتو مع إحدى الصديقات الراقصات في أحد المهرجانات.
ويضيف كيتو: "تعرّفت إلى الكثير من أصدقائي، ودعوني لتجربة شيء مختلف هذه المرة، عبر المشاركة في مهرجان، والقيام بتحديات على المسرح، وبالفعل شاركت على خشبة المسرح للمرة الأولى، ولقيت دعماً هائلاً وتشجيعاً من الجمهور، وهذا ما جعلني أستمر في ما أنا عليه اليوم".
كيتو يرتجل في أحد المجمعات التجارية في بغداد.
ويتابع: "أكثر التحديات التي تواجهنا هي الطعن بالشرف، والسخرية، بسبب تقديمنا رقصات متنوعة، وخصوصاً عندما تنتشر لنا مقاطع من بعض المشارَكات. حاولتُ تجاهل الموضوع قدر استطاعتي، ونحاول أن نقدّم أفضل صورة للمهرجانات، وتطوير أدائنا".
"تعليقات مسيئة"
"واحدة من الأسباب التي منعتني من الذهاب إلى التجمعات، ورؤية فرقي المحببة في العراق، هي التعليقات المسيئة، والنظرة الدونية، والاستصغار، واعتبارنا أطفالاً ومراهقين غير ناضجين"، تقول رقية (25 عاماً)، وهي طبيبة مختبر، من بغداد لرصيف22.
وتضيف: "نحن كمعجبين عرب، وعراقيين بالتحديد، بشر محرومون من المهرجانات والحفلات، وفي بعض الأحيان تتكفل مجموعة من المعجبين بإقامة تلك المهرجانات، لنستطيع عيش التجربة، ومتابعة ما نحبه ليوم واحد فقط في السنة. هذا أقصى شيء موجود في العراق، وعلى الرغم من قلّته، نلقى الاحتقار، والانتقاص، والاستهزاء، من كل حدب وصوب".
وتتابع: "الإرهاب بالتعليقات والتمنيات بالموت والانقراض، ورغبات القتل هذه، نقطة في بحر ما نواجهه اليوم، وذلك كله، بسبب أن ذوقنا الموسيقي مختلف عن ذوق الآخرين، ولهذا نحن مستهدفون، لتفريغ العقد النفسية. في بعض الأحيان، يراسلني أحد الأصدقاء ليقول لي إنه فقد احترامه لي، حين يعرف أنني إحدى المعجبات بفرق الـK-pop".
وتشير رقية إلى أن "غالبية الفرق المشهورة في العراق تفككت مع مرور الوقت، بسبب عدم الاهتمام بها، أو عدم وجود مساحة شخصية، أو تجمعات قانونية لها. نتابع بحرص بعض الفرق، مثل فريق شبيونتس، وبيكسلز، ونور ميناج، ودامي، عبر مواقع التواصل الاجتماعي حصراً، وأحياناً عبر مهرجانات بين فترة وأخرى".
أمير الجابري (22 عاماً)، من بغداد، هو أيضاً أحد المعجبين الذين اضطروا إلى ترك أغلب التجمعات، والامتناع عن نشر أي شيء يخصهم، بسبب تشويه السمعة، أو النظرة التي يُنظر بها إلى تلك الهواية.
يقول لرصيف22: "كنت من أشد المعجبين ببعض الفرق في بغداد، وأحرص على النزول مع الأصدقاء إلى بعض المهرجانات، أو التجمعات".
ويتابع: "سبب آخر اضطرني إلى ترك الموضوع هو عدم جدية القيّمين على تنظيم التجمعات والمهرجانات، ففي بعض الأحيان يدخل أشخاص لغرض التحرش، أو للحاق ببعض الفتيات فحسب. وبسبب كمية التجاوزات والشتائم التي يتعرضون لها، وخاصة الفتيات، أصبحت تلك الأماكن الآن أكثر انغلاقاً".
سابقاً، كانت هنالك مهرجانات تقام مرة كل شهر، لكن بسبب ظروف انتشار فيروس كورونا، ومنع التجمعات، اضطر جميع "الدانسرز" إلى الاعتماد على أنفسهم، وصفحاتهم على "السوشال ميديا"، للتعريف بأنفسهم تارةً، والقيام بتحديات تارةً أخرى.
المجتمع العراقي متنوع، وزاخر بالاختلاف، لكن إلى الآن، هناك بيئات لا تتقبل المختلفين، وتحاول دائماً الانتقاص منهم. وعلى الرغم من الخوف، والتمنيات بالقتل، وعدم وجود دعم، أو تشجيع، إلا أن هناك قلة قليلة لا زالت تواجه تلك التحديات، بشجاعة، وتخلق بيئة خاصة بها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...