ذات صباح شتوي بعيد، كان الروائي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للآداب، باتريك موديانو، جالساً على كرسي حديدي بحديقة لوكسمبورغ، حين علم بوفاة الملك فاروق، آخر حكام مصر من الأسرة العلوية، أثناء قراءته لإحدى الصحف التي نشرت مقالاً عنه، مرفقاً بصورته، بشاربيه ونظارتيه السوداوين وشاله الحريري الأبيض، والقبعة التي كان يعتمرها في غالب الأحيان للخروج، مع الإشارة إلى مكان موته بمطعم "فيالي" في حي تراستيفيري بروما القديمة.
خبر الرحيل، فتح باب الذكريات في وجه صاحب "مجهولات"، ليسرد في أحد فصول كتابه "دفتر العائلة"، حكايةً بالغة الغرابة نسجتها الأقدار حين وضعت الملك الحزين اليائس في منفاه في مواجهة الأديب الفرنسي المخضرم.
في الثامنة عشرة من عمره، كان "موديانو"، يعمل في إحدى مكتبات روما، وقد تعرف في تلك الفترة، على امرأة فرنسية، تكبره سناً بقليل، تعمل في ملهى ليلي اسمه "أوبن غايت"، وكانت تُدعى "كلود شوفروز".
كان فاروق لغزاً محيراً بالنسبة لموديانو، الشاب الصغير، لكنه حسبما يروي، لم يجرؤ يوماً على التطرق إلى ماضيه أو إلى التفاصيل التي ساهمت في نسج أسطورته
كانت كلود كما وصفها الروائي الفرنسي: سمراء ذات عينين مشقوقتين كلوزتين، وفم جميل متفتح؛ تظهر قرابة منتصف الليل على المسرح، مرتدية معطفاً من فرو السمور وفستان سهرة، وتُقدم عرض تعرٍّ بطيئاً للغاية، فيما عازف البيانو يعزف مقطوعة "نغمة الشباب". وكان كلبان قزمان أبيضان يدوران حول كلود، يقومان بقفزات بهلوانية، ويتناولان بين أنيابهما جوربيها، وصدارتها، وسروالها الداخلي، فيما هي تخلعها الواحد تلو الآخر.
كان الملك فاروق، عاشقاً لكلود. يواظب على الحضور في الملهى كلّ مساء لمشاهدتها. يجلس وحيداً، بائساً، متجرداً من كلّ ما يُشير إلى مملكته الزائلة، وعندما تعود كلود شوفروز إلى مقصورتها، تجد فيها وردة، أهداها إياها ذلك المشاهد المواظب.
وفي إحدى الليالي، بعد انتهاء العرض، دعى "الملك المنفي" كلودَ وصديقها (موديانو) إلى الجلوس على مائدته. وكان ذلك هو اللقاء الأول بين "موديانو" و"فاروق"، هنا يحكي "موديانو": "حين قدمتني كلود له، قهقه ضاحكاً ضحكة حُوت، اهتزت لها كتفاه، وارتجت سمنة خديه. فكنت أحمل اسم علامة تجارية لورق اللعب، كانت إيطاليا برمتها تلعب بها البوكر. وجد (السمين) -الاسم الذي اشتهر به الملك فاروق في تلك الفترة في روما-، الأمرَ في غاية الطرافة، واعتباراً من تلك اللحظة راح يدعوني (بوكر)."
منذ ذلك الحين، بدأ موديانو، يلتقي بـفاروق في الأوبن غايت (الملهى الليلي)، حين يذهب لملاقاة كلود شوفروز، هي الفتاة الجميلة التي قدمت من شامبيري إلى روما، للعمل في السينما، وموديانو، الفتى اليافع، بائع الكتب، المتأمل، والمندهش أبداً أمام مصائر البشر، والملك المنعزل، بزمنه الغابر الذي يسود صفحات في تاريخ مصر، ومصيره الحزين، الذي جعله ذليلاً أمام تلك المرأة الفرنسية بعد حياة عارمة عاشها في قصوره العديدة؛ حياة كانت تُحاصرها الإشاعات حول علاقاته النسائية العديدة ومغامراته وبذخه، وتشوبها تهمُ الفساد السياسي والمالي، الذي كان ذريعة أساسية لقيام ثورة يوليو 52، وعزل الملك.
كان فاروق، معذباُ بحبّ شوفروز، منسحقاً أمامها، لكنها كانت تقابل هذا الحبَّ بخشونة وتوجه إليه ملاحظات جارحة عن مظهره الجسدي. أما هو فلم يكن يجيب، أو يكتفي بهزّ رأسه فقط.
وفي المطعم كان فاروق يلتهم أطباقاً هائلة من اللازانيا الخضراء، حانياً رأسه، ثم يُطلق تنهيدة ويندفع إلى الخلف، ثم قرابة الواحدة صباحاً، يربت موديانو على كتفه، ليعود كلٌّ إلى منزله
وذات مساء يقول موديانو: "تركتْنا كلينا (أنا والسمين) في الملهى، معلنة أنها على موعد مع شاب (فاتن للغاية، ونحيف للغاية)، مشددة على صفة (نحيف)، لتؤلم (السمين). تأملناها وهي تبتعد، ثم ذهبنا لتناول حلوى. حاولتُ الترويح عن (الملك الحزين)، الذي بدا محبطاً للغاية، وأعتقدُ أن هذا ما جعله يكنّ لي الودَّ، فعدنا والتقينا حوالي عشر مرات بعد ذلك."
كان ذلك الموقف المهين لفاروق، الذي أبدى فيه موديانو تعاطفاً مع العاشق المعذب، بدايةً لصداقة حقيقية بين الاثنين اللذين جمعتهما الصدفة. في تمام الساعة الرابعة عصراً، كانا يلتقيان، أمام حانة صغيرة في شارع "لي بوتيك أوبسكور"، وهناك كان فاروق يتناول عشر شطائر من السلمون، وفي مرات أخرى كانا يلتقيان مساءً، في مطعم قريب من قصر كيرينالي، وكانت السيدة المسؤولة عن حجرة الملابس تحييه وهي تناديه "فخامتك".
وفي المطعم –بحسب موديانو- كان "فاروق يلتهم أطباقاً هائلة من اللازانيا الخضراء، حانياً رأسه، ثم يُطلق تنهيدة ويندفع إلى الخلف، ليغرق على الفور في سبات كئيب." ثم قرابة الواحدة صباحاً، يربت موديانو على كتفه، ليعود كلٌّ إلى منزله.
موديانو، صاحب الذاكرة الحية، المزدحمة بالشوارع والحانات، والأشخاص المجهولين، لم يسمح لأيّ ذكرى تمر، دون أن يُسجلها، كاشفاً من خلال لغته العذبة وطريقة حكيه الفريدة، عن أعماق شخصية فاروق، والمصير القاتم الذي انتهى إليه، فهو يتذكر، جولاته مع "الملك المنفي"، حيث كانا يستقلان سيارة أجرة إلى ساحة ألبانيا، ومن هناك يصعدان تلة أفنتينو، وهي أحد مواقع روما المفضلة لدى فاروق بسبب الهدوء.
خبر رحيل الملك فتح باب الذكريات في وجه موديانو ليسرد حكايته
ويتابع موديانو: "كان يذهب ويلقي نظرة من ثقب قفل بوابة مالطا من حيث تلوح في البعيد قبة كاتدرائية القديس بطرس، فيصاب على الدوام أمام هذا المشهد بنوبةِ ضحكٍ شديد كانت تدهشني."
كان فاروق لغزاً محيراً بالنسبة لموديانو، الشاب الصغير، لكنه حسبما يروي، لم يجرؤ يوماً على التطرق إلى ماضيه أو إلى التفاصيل التي ساهمت في نسج أسطورته: مراهناته على بانكو في دوفيل أو مونت كارلو، مجموعاته من الألعاب والطوابع البريدية والهواتف، وميله إلى ربطات العنق الفوسفورية اللون التي يكفي نفضها قليلاً حتى تظهر على القماشة امرأة عارية.
كان ذلك في ليلة من عام 1942 في مصر، وكانت قوات روميل، تقترب من القاهرة، والظلام يغمر المدينة. دخل فندق سميراميس من غير أن يعرفه أحد، وتوجه إلى حانته متلمساً طريقه. لم يكن هناك أي ضوء. اصطدم بكنبة وسقط على ظهره. وهناك وهو مطروح أرضاً، تملكته نوبة ضحك عصبية. لم يعد بوسعه التوقف عن الضحك. تلك اللحظة كانت بداية انحداره. لكن موديانو يتذكر تلك الليلة التي فتح فيها الملك قلبه؛ ذات ليلة في المطعم، فيما كان يبتلع طبقَه من اللازانيا الخضراء، قال لموديانو: "من المؤسف أن تنهي حياتك على هذا الشكل، بعدما أغدقت الحياةُ نعَمها عليك." رفع الملك رأسه، محدقاً بالشاب الصغير، ليحكي له عن ذلك التاريخ الذي قرّر فيه أن يستسلم للسمنة، لأنه كان على قناعة بأنه لا شيء ينفع في شيء، وأنه سيلقى المصير ذاته مثل لويس السادس عشر (آخر ملوك فرنسا الذي أعدم بعد الثورة)، ونيكولاس رومانوف (آخر إمبراطور روسي أعدم مع عائلته بعد الثورة البلشفية).
في منفاه كان فاروق مستغرقاً في مأساته، يُفرغ همّه في التهام شطائر السلمون، وأطباق اللازانيا الخضراء، وفي مشاهدة رقصات كلود شوفروز، غير أنه لم ينس قطّ ماضيه الزاهرَ والغابر في مصر.
وفي إحدى ليالي رأس السنة، دعى "الملك"، موديانو وكلود للاحتفال بالعام الجديد في منزله. كان فاروق –حسبما يحكي موديانو- يسكن شقة ضيقة للغاية في مبنى حديث في باريولي (حي في شمال روما). "فتح لي الباب، وهو يرتدي مبذلاً رثاً من المخمل الأزرق، وعلى جيبه طُرز الحرف الأول من اسمه وتاج مملكته المندثرة".
ويتابع موديانو أنه في الغرفة الصغيرة العارية، فرش فاروق حلويات وشطائر السلمون والفاكهة استعداداً للحفل، وكان الحفل عبارةً عن شريط إخباري قديم، يُبثّ من جهاز عرض، وكانت المَشاهد، تُبرز شاباً فاتناً، رهيف القامة، رصين التعابير، واقفاً في مقدم سفينة حربية تدخل ببطء ميناء الإسكندرية.
كانت حشود غفيرة تحتلّ المرفأ، وآلاف الأذرع ترتفع ملوحة. كانت السفينة تناور للرسو في الميناء، والشاب يحيي الجموع. لم يكن تجاوز السادسة عشرة من العمر. والده توفي للتو، وأصبح منذ اليوم السابق ملكاً لمصر، وكانت تلك بداية كلّ شيء.
ظل فاروق في أوروبا متنقلاً بين حانات روما لمدة 9 سنوات بعد إزاحته من فوق عرش مصر، حتى توفي في كابري الإيطالية في مارس 65، بينما صدر "دفتر العائلة" لموديانو بعد رحيل فاروق بـ12 عاماً في 1977، وهو عبارة عن رواية مؤلفة من خمسة عشر فصلًا وجيزاً، يمكن قراءتها كما لو أنها قصص قصيرة مترابطة، ومن بينها قصة موديانو مع الملك فاروق، التي جاءت في الثلث الأخير من "دفتر العائلة"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين