شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"ليلى بنت الصحراء"... فيلم مصري جنت عليه مصاهرة علوية لشاه إيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 22 يونيو 202105:14 م

في تاريخ السينما المصرية سطرٌ عن منع عرض فيلم "ليلى بنت الصحراء" عام 1937، بسبب مشروع زواج ولي عهد إيران محمد رضا بَهلَوي بالأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق. وفي التاريخ نفسه ثمة سطر آخر عن عرض الفيلم نفسه بعنوان "ليلى البدوية" عام 1944. وفي تلك السنوات السبع، جرت في نهر السياسة مياه، وأقيم بين مصر وإيران جسر من المصاهرة، وسرعان ما انهار. مشروع زواج حفيدة محمد علي من ولي عهد إيران لم يكن يخلو من مغزى سياسي، فطن إليه رئيس الديوان الملكي علي ماهر وآخرون، وأشاروا به على الملك الشاب، أملاً في علاقات متينة بين قطبي العالم الإسلامي، بمذهبيه السنّي والشيعي.

استقبل عام 1937 باكورة أعمال ثلاثة مخرجين شبان لم يبلغوا سن الثلاثين. أحمد بدرخان قدم "نشيد الأمل" لأم كلثوم، وأخرج رائد الواقعية كمال سليم "وراء الستار"، وسيكون فيلم نيازي مصطفى "سلامة في خير" رقم 76 في قائمة أهمّ فيلم مصري في استفتاء بمناسبة مئوية السينما عام 1996. لا تتاح لي قائمة الأفلام الإيرانية المنتجة 1944، حين عرض "ليلى البدوية". في ذلك العام أنتجت السينما المصرية 23 فيلماً، أشهرها "غرام وانتقام"، الختام التراجيدي لأسمهان. كانت إيران تتعافى من آثار تنحية رضا بهلوي ونفيه إلى جنوب إفريقيا، وتنصيب ابنه محمد رضا بهلوي. وكعادة مصر، في عزّ الأزمات والحرب العالمية، تغزل برجل حمار.

في ديسمبر 1931، كتب الدكتور عبد الوهاب عزام مقدمة موسعة لإلياذة الشرق، "الشاهنامه" للفردوسي، وقد ترجمها نثراً الفتح بن علي البنداري في القرن السابع الهجري، وتولى عزام المدرس بالجامعة المصرية مقارنة الترجمة بالأصل الفارسي، وأكمل ترجمتها في مواضع، وصححها وعلق عليها، وقدم لها، وعرّف بالفردوسي، وبمكانة الشاهنامه عند الفرس وغيرهم: "وللكتاب عند الفرس مكانة عظيمة؛ فهو سجل تاريخهم، وأناشيد مجدهم، وديوان لغتهم، ينشدونه في المحافل، ويهيم به العالم والجاهل. وقد سماه ابن الأثير (قرآن القوم)". وأصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر، عام 1944، ترجمة الدكتور إبراهيم أمين الشواربي للجزء الأول من غزليات حافظ الشيرازي "أغاني شيراز"، ونشرت الجزء الثاني عام 1945.

رأت الخارجية الإيرانية في فيلم "ليلى بنت الصحراء" إساءةً إلى العرش الشاهنشاهي، تأويلاً لنجاح فتاة عربية في منع كسرى أنوشروان من اغتصابها

جاءت الترجمة الأولى لغزليات حافظ، بحماسة طه حسين لإرسال المترجم إلى لندن وإيران، لمعايشة أجواء نص كان موضوع رسالته للدكتوراه. وكتب العميد في المقدمة أنه لا يحتاج إلى إعادة القول "عما ينبغي من العناية بالصلة بين الأدب العربي والفارسي، أو بعبارة أصح، باستئناف الصلة" بينهما. وأشاد باهتمام الدكتور عزام بالشاهنامه في أطروحته، "وما نتج عن هذه الرسالة من إحياء الترجمة العربية لهذه القصيدة الخالدة وإكمالها وتحقيقها وتفسيرها وإضافتها ثروة جديدة قيّمة إلى أدبنا العربي الفتي... انقضى الوقت الذي كان الناس يؤمنون فيه بأن الأدب العربي غني بنفسه لا يحتاج إلى أن تمدّه الآداب الأخرى بما فيها من قوة وروعة وجمال".

ما قدمه عزام والشواربي كان ثمرة تدريس اللغة الفارسية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، كما قال طه حسين في المقدمة، "منذ استؤنف تنظيمها سنة 1925". وكان أحمد رامي، قبلهما، قد ترجم "رباعيات الخيام"، المجهولة تقريباً في العالم العربي. بدأ رامي ترجمة الرباعيات عن الفارسية، حين أوفدته دار الكتب المصرية عام 1922 إلى باريس لدراسة اللغة الفارسية، وراجع نسخ الرباعيات في دار الكتب الأهلية بباريس، وسافر إلى برلين لمراجعة نسخة مخطوطة في مكتبتها الجامعية، ثم إلى لندن لمراجعة بعض المخطوطات. وعاد إلى باريس وانقطع للترجمة. ونشر الطبعة الأولى لترجمته عام 1924. ثم اكتشف مخطوطات جديدة أضافها إلى الطبعة الثانية عام 1931.

وعلى الرغم من توالي ترجمات الرباعيات، عن أصلها الفارسي وعن ترجماتها إلى لغات أخرى، ظلت ترجمة رامي ـ وإن لم تكن الأكثر دقة ـ هي الأقرب إلى النفس، ربما بفضل غناء أم كلثوم لخمس عشرة رباعية لحنها رياض السنباطي، وغنتها للمرة الأولى في 2 فبراير 1950. ما لم تختره أم كلثوم من الرباعيات للغناء، وإن احتفظ بعمقه الفلسفي وقوته التعبيرية، فإنه يفقد الكثير من حرارته ودفء الشعور به. تلك كانت بانوراما تختزل الإبداع الفارسي في مصر، حضورٌ ثقافي يسبق السياسة، ولا يتأثر بتوتر العلاقات الزوجية، وخذلان الملكة المصرية وشعورها بالغربة في طهران، والانتهاء بطلاقها. فماذا عن الحضور العربي في إيران؟

كانت الملكة نازلي تعارض هذا االزواج، وتحتج بأن حفيدة محمد علي لا يليق بها الزواج من ابن عائلة أدنى ولو كان ولياً للعهد. فالأميرة فوزية، كبرى بنات الملك فؤاد، جدّها لأبيها هو الخديو إسماعيل، أما أمها نازلي فهي حفيدة محمد شريف رئيس وزراء مصر، وجّدها لأمها هو سليمان باشا الفرنساوي، مؤسس جيش محمد علي. أما قصة صعود رضا بهلوي فقد شهدها ليوبولد فايس (محمد أسد)، ووصفها في كتابه "الطريق إلى مكة" بأنها "تشبه القصص الخيالية ولا يمكن أن تتحقق إلا في دول الشرق فقط"، قصة الصعود الدرامي المحمول على إرادة جندي يتلقى الإهانات في عمله حارساً أمام باب بالسفارة الألمانية.

كانت الملكة نازلي تعارض هذا االزواج، وتحتج بأن حفيدة محمد علي لا يليق بها الزواج من ابن عائلة أدنى ولو كان ولياً للعهد

اعتاد الجندي رضا بهلوي تلقّي السّباب، ولم تكن "الصفات مثل ابن الكلب تصيبه بطعنة في كرامته، كان يدرك ويوقن أنه ليس ابن كلب، بل ابن أمة عظيمة أنجبت عظماء مثل رستم، وداريوس، وأنوشروان". ثم أظهر رضا بطولة سحرت الجنود الإيرانيين، وسرعان ما صعد نجمه، قائداً ميدانياً بطلاً، وانضمت قوة أخرى تحت قيادته، ورقّي إلى رتبة نقيب، ونال لقب "خان"، وبقفزات سريعة صار لواءً. ورتب عام 1921 انقلاباً عسكريًا، وأجبر الشاه أحمد القاجاري على تعيين مجلس وزراء جديد تولى فيه وزارة الحربية. واختفى رئيس الوزراء، وحل مكانه بهلوي الذي نظم وداعاً مهيبا للشاه أحمد في رحلة ترفيهية إلى أوروبا، ولم يكن ليعود؛ فانتهى بذلك حكم السلالة القاجارية في إيران الذي دام أكثر من مئتي عام أي من نهايات القرن الثامن الميلادي حتى بدايات القرن العشرين.

ربما لم تدرك بهيجة حافظ (1908 ـ 1983) الخلفية العائلية لأسرة الشاه رضا بهلوي. وكان يفترض أن تكون هذه الرائدة ضمن هدايا عام 1937 الذي استقبل الأعمال الأولى لثلاثة مخرجين شبان لم يبلغوا الثلاثين. كانت هي أيضاً دون الثلاثين، وأكثر من الثلاثة الآخرين تخصصاً في الفنون الرفيعة، وفضلاً عن الإنتاج والإخراج والمونتاج والتمثيل والغناء، حصلت على دبلوم التأليف الموسيقي والتلحين من باريس. وتذكر موسوعة الغناء في مصر أنها تزوجت أميراً إيرانياً وعمرها 17 سنة، "وانفصلت عنه وعادت إلى القاهرة، واحترفت تدريس الموسيقى". ولو عرض فيلمها مع الثلاثة لتقدمت كثيراً في السباق، وتمكنت من المضيّ في صناعة بدأتها النساء، وحصد ثمارها الرجال.

رأت الخارجية الإيرانية في فيلم "ليلى بنت الصحراء" إساءةً إلى العرش الشاهنشاهي، تأويلاً لنجاح فتاة عربية في منع كسرى أنوشروان من اغتصابها. وكان أول فيلم يمنع عرضه، وقبله عانت أفلام أخرى تحرشاً من المكتب الفني التابع لوزارة الداخلية، بموجب "لائحة التياترات". واللائحة الصادرة عام 1911 تنظم عروض السينما والمسرح، وعنوانها دالّ أكثر على المسارح. وتمنح الرقابة تصريحاً بتصوير الأفلام بعد قراءة السيناريو، وبعد تصوير الفيلم. وفي عام 1926 منعت يوسف وهبي أن يجسد شخصية النبي محمد، في فيلم نال موافقة تركية، وتنتجه مؤسسة سينمائية ألمانية. وقال وهبي في مذكراته: "هذا لم يمنع الشركة من إنتاج الفيلم وقام بالدور ممثل يهودي".

التحرش بالأفلام داءٌ كوني. في 14 مارس 1932 عرض "أولاد الذّوات"، أول فيلم مصري ناطق، وفي 20 مارس نشرت جريدة "لابورص" مقالاً يطالب بمنعه. يورد مخرج الفيلم محمد كريم في مذكراته ترجمة للمقال نشرتها جريدة "المقطم" في 31 مارس، وجاء فيها: "إذا تركنا جانباً الوجهةَ الفنية التي عليها الفيلم وهي تعد مضحكة فنحن نجد أن هذا الفيلم هو على مثال أفلام روسيا الشيوعية التي تترك الفنَّ للفنّ وتقصد الدعاية. فقد أرادوا به أن يروجوا الدعوة لدى المصريين لكراهية المرأة الأوروبية". واختتم المقال بسؤال: "كيف يخرجون في مصر فيلماً كهذا مبنياً على التعصب دون أن يكون حتى على شيء من الفن؟".

ويسجل كريم أن "المقطم" نشرت شكوى بعض الأجانب إلى وزارة الداخلية، يتهمون "أولاد الذّوات" بأن فيه "تعريضاً وأسباباً للنفور... فندبت الوزارة جناب المستر غرايفر ومعه أعضاء اللجنة المختصة بهذه الأمور، فذهبوا يوم الأربعاء إلى سينما متروبول حيث عرض الفيلم عليهم، فحكموا بأن ليس فيه ما يستحق الاعتراض أو المؤاخذة على المرأة الفرنسية. وأكدت اللجنة إجازة الاستمرار في عرضه على أنظار الجمهور وكان قد حدث على أثر هذه الحملة أن أوقفت وزارة الداخلية الفيلم في أول يوم بعد عرضه الأول بسينما متروبول في الحفلة الصباحية وحدثت في البلاد هزة كبيرة لهذا المنع أفادت الفيلم فائدة عظيمة". فهل كل منْع يجلب الرّواج؟

في حالة بهيجة حافظ كان منع فيلمها صدمة، وكارثة اقتصادية أدت إلى إفلاس شركة الإنتاج وتوقفها؛ لأن الفيلم يتعارض مع المصالح العليا للسلطة، ويشوّش مستقبل علاقة يعوّل عليها رجال الدولة العميقة في مصر. ولا تذكر المصادر السينمائية مشاركة بهيجة حافظ بالتمثيل خلال السنوات السبع التالية، حتى السماح بعرض الفيلم عام 1944، بعد تغيير عنوانه إلى "ليلى البدوية"، وفي النسخة الجديدة تغير أيضاً اسم الملك من "كسرى أنوشروان" إلى "كنجا". كل ما تذكره المصادر أن الحكومة المصرية دفعت إلى السيدة بهيجة 3403 جنيهات، تعويضاً عن خسارتها المترتبة على منع عرض الفيلم طوال سبع سنين؛ تعويض مادي لا يفيد بعد كسر الروح.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image