شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"ملك الثقوب"... تأوّلات على جسد السلطة المتخشّب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 22 يوليو 202101:08 م

يُقال إن باريس خسرت الكثير من المنازل التقليديّة حين بدأت عمليات إنجاز مركز "بومبيدو" الثقافي والفني، وحين افتتح عام 1977، وجد الكثيرون فيه إهانة لمركز باريس وأحيائها التقليديّة.

لكن، قبل ذلك، وعام 1975، زار الفنان الأمريكي غوردون ماتا كلارك (1943-1978) باريس، وبينما كان المركز الذي يحمل اسم رئيس فرنسا، جورج بومبيدو (1969-1949)، يُعمّر، تمكن كلارك المعماري والمصور الفوتوغرافي من حفر ثقبين كبيرين في منزلين يعودان للقرن السابع عشر، ويطلان على المركز قيد البناء، مُتيحاً للمارّة والفضوليين والمتحسّرين، أن يعبر بصرهم الفضاءات التالية: "الشارع، داخل المنزل الذي سيهدم، مركز بومبيدو، ثم الشارع مرة أخرى".

الثقوب العملاقة تلك لا تفيد التلصص، هي علامة على احتمال رؤية لن تتوافر لاحقاً، لأن الأبنية ستُهدم (لا أثر لها الآن)، وسيبقى الصرح قائماً. 

سلطة القرار السيادي لم تترك ثقباً واحداً للتلصص على الماضي، أو حتى اكتشاف ما تبقى من حجارته، وهذا ما راهن عليه ماتا كلارك، أو حاول التقاطه، ونقصد هنا سلطة الزمن، فالثقوب العملاقة محكومة بأن تختفي لأن الزمن السياسيّ في المدينة لا يتلصص أو ينسلّ، بل يتدفق محطماً، لا يحفر، بل يطيح بما يقف بوجهه، والأهم، الثقوب العملاقة تخفي وجه السلطة وسطوتها، وتجعل تجسيدها مستحيلاً أمام المارّة والمتنزهين والعشاق والسينيكيين.

الهالة السابقة، المرتبطة بالفقدان والحزن، عادت لتحيط بمركز بومبيدو، فإغلاقه للصيانة تأجيل إلى عام 2023، وسيمتد الإغلاق خمس سنوات، لأن ببساطة، وحسب مدير المركز: "لا خيار آخر أمامنا، البناء يعاني".

لكن، في واحد من الطرقات الفرعيّة المؤديّة إلى المركز في الدائرة الرابعة من باريس، وبجانب كنيسة Église Saint-Merry، وأبعد بقليل عن نافورة سترافينسكي، يجلس "ملك الثقوب"، ذاك الذي يحيل إلى هو/السلطة، حسب تعبير خالد ضوا، الفنان السوري الذي أنجز المنحوتة ذات الـ3.5 متر ارتفاعاً، والتي ستبقى في المكان إلى منتصف شهر أيلول/سبتمبر القادم.

يتكرّر ملك الثقوب بأحجام مختلفة في أعمال ضوا المقيم في باريس، وما يشدّ  اهتمامنا بداية، هو اسمه الذي يتحرّك بين ثلاثة تعابير "ملك الثقوب" ، "هو" و"السلطة"، ما يمكن تلمسه، أن (هو) غائب، لا اسم له، فقط ضمير لا يمكن تحديد صاحبه بدقة، ذاك المتعالي، الجالس حكماً كأي سيادة رجعيّة تريد "الاستكانة" و"الهيمنة"، إذ لا أشكال لـلـ(هو)، بل نموذج واحد متكرر، كضمير الغائب نفسه، علامة في درجة الصفر تختزل كل ما تحويه السلطة من سطوة أينما ظهرت.

وهنا تظهر الإحالة الثانية: "السلطة" التي (لسوء الحظ ولعنة القدر) لا تتغير في الكثير من السياقات، بل يمكن التأشير عليها بوضوح، قياسها أو تحديد معالمها، نشتمها، نحبها، نكرهها، ننتقدها، لكن، ما شكلها الحرفي، هل يمكن أن نحمل شيئاً ما ونقول هذه هي "السلطة"، أو ببساطة نردد: "هذا هو" صاحب الأمر؟ للأسف نعم، وعادة هو لا يتحرّك، وأحياناً يلوح أو يشير، لكن أكثر ما يميزه أنه يجلس.

يمكن أن نعتبر "ملك الثقوب" التجسيد المادي للسلطة، إن اتفقنا مع وصف العمل، فهذه السلطة مشتركة بين الجميع وحاضرة في كلّ مكان، لا فقط تلك التي في سوريا التي يأتي منها خالد ضوا، ففي ملك الثقوب، السلطة كمفهوم اتخذت شكل رجل أصلع، بلا بنطال، يجلس على كرسي، أليس هذا متخيل السلطة لفترة طويلة؟

قبل أن نكتشف أنها مؤسسات وخطاب وشرطة وعسكر، ألم تكن رجلاً يجلس على "عرش"؟ الاختلاف أنها الآن ترتدي أشهر زيّ تنكريّ ابتدعه الرجال، وتبنّاه رجال السلطة الحديثة: البذلة الرسميّة، وللمصادفة، مرّ شرطي وجد نفسه مشابهاً للتمثال، بدين وأصلع، رفض أن يتصور معه، فقط التقط صورة بهاتفه النقال، والسبب على لسانه "أنا ارتدي الزيّ الرسمي!"، المفارقة إذن في الزيّ، السلطة ترتدي بذلة رسمية، أما رجالها فيرتدون ألبسة موحّدة خاصة بهم.

حذلقة مبالغ بها الحادثة السابقة، لكن أليس مضحكاً أن يجد شرطي نفسه مشابهاً لتمثال يجسّد السلطة؟

يجلس ملك الثقوب، بلا بنطال، متخفّفاً من الرسميّة ربما (أو علامة على عريّ السلطة نفسه)، فهو "السيد" وصاحب الأمر والنهي، لا داعي للجدية إذن، بالرغم من أنها مطلوبة، لكن ربما غياب البنطال نوع من المزاح، ذاك الذي لا تتهاون معه السلطة إلا إن كان صادراً عنها، من يجرؤ على عدم الضحك أمام سلطة تلقي نكتة؟

المفارقة، أن الشرطي السابق نفسه ألقى نكتة التشابه بينه وبين التمثال، كانت سمجة، غير مضحكة، لكن، ضحكت وبعض من حولي ضحك!

الملفت أيضاً هو جلوس ملك الثقوب، فاستحالة الوقوف، لا دلالة فقط على السطوة، بل ترسيخ لأهم فعل تمثله السلطة، الخلود في الزمن، فالجلوس يعيق تدفّق العالم، عطالة مؤقتة تمارسها السلطة على ذاتها لتترفع عن الزمن وتستمر في كل تحولاته، كما أن الجلوس فعل يعاكس الثورة والرفض المتمثّل بالنهوض، ألم يقل أبو نواس: "قم يا أحمد المرتضى..."، لا ينادي الجالس ولا يلبّي النداء، لا عصيان للجالسين ولا زمن يتدفق، كالسلطة حرفياً، أبدية تستوي على كرسيّها حد التخشّب.

لا يمكن حصر التأويلات التي تفتحها الثقوب في التمثال، سواء من الاسم "ملك الثقوب" أو "الثقوب" الحرفيّة التي يحويها جسد(ـه)، فماذا يعني أن يكون أحدهم "ملك الثقوب".

في واحد من الطرقات الفرعيّة المؤديّة إلى المركز في الدائرة الرابعة من باريس، يجلس "ملك الثقوب"، ذاك الذي يحيل إلى هو/السلطة، حسب تعبير خالد ضوا، الفنان السوري الذي أنجز المنحوتة ذات الـ3.5 متر ارتفاعاً، والتي ستبقى في المكان إلى منتصف شهر أيلول القادم

جسد السلطة عادةً دوماً ناصع، مصمت، مغطّى لا يعبر فيه شيء، داخله خفي ومقدس أحياناً، لكن هنا تظهر التواريخ التي يتحدث معها تمثال ضوا، نحن أمام جسد السلطة العقيم، لا ذاك الكرنفاليّ المنفتح داخله على خارجه، بل ذاك الذي لا يستحي، الذي يشهد على فساده الشخصي دون أن يتزحزح، في لبنان سابقاً والآن سوريا، الثقوب في الأبنية حاضرة، علامات على عنف ماض، و"الأنيك"، أن هذا العنف ما زال مستمراً ولا يبشر بانهيار السلطة.

معالم البدانة الواضحة على التمثال تعيدنا للجسد الغروتيسك، لكن هناك اختلاف، فتحات الأجساد الغروتيسكية الأشهر (غارغانتوا وبانتاغرويل)، الفم والشرج والأنف وفتحة التبول، إما تخرج ما في داخلها دفقاً لا ينتهي (لا يمكن تخيل حجم براز غارغانتوا بعد إحدى ولائمه) أو تبتلع ما حولها بفجع حد الفناء (التهم غارغانتوا ستة حجاج مع السلطة وابتلع طاولة يبلغ طولها عدة أميال).

لكن الكوميديا والضحك المرتبطين بالجسد البدين وفتحاته غير موجودة لدى ملك الثقوب، هو سمج كأي سلطة، كذاك الذي لا يمكن الحديث عنه، لكنه حاضر ، موجود بثقله واكتنازه، لا يمكن أن نتخيل ما سيخرج منه، أو ما قد يدخل فيه، فـ"لا نهائية" الثقوب ،تعيق الانتقال بين الداخل والخارج، بصورة أدق، لا نتحدث عن غياب الحدود بينهما (داخل/خارج)، بل غياب الحدود أصلاً، وهنا يمكن أن نفهم معنى "ملك الثقوب" حيث سلطة الملك اللامتناهية تتطابق مع لاتناهي الثقوب على جسده، وكأنه يجمع عيوب العالم في جسده الذي لا ينهض ولا يتحرك، ربما لهشاشته.

لا يمكن حصر التأويلات التي تفتحها الثقوب في التمثال، سواء من الاسم "ملك الثقوب" أو "الثقوب" الحرفيّة التي يحويها جسد(ـه)، فماذا يعني أن يكون أحدهم "ملك الثقوب"؟

حركة واحدة قد يتداعى بعدها بأكملها. هو هيكل أكثر منه جسد. لا يمكن تحريكه أو فتح احتمالات الحركة أمامه لأنه سينهار، وكأن قوته في ثباته، بصورة أخرى، وكأن "ملكيته" في عجزه عن الانفتاح الكلي على الزمن/الآخر.

هذا الثبات المفترض إثر لانهائية الثقوب، يحيلنا إلى السلطة نفسها، فأي محاولة لتحريكها أو زعزعتها تعني انهيارها، وكأن "الحُفر" الصغيرة في جسد السلطة غير قادرة على تهديدها، حتى لو بلغت من الضعف أن تفقد كل شيء عدا الكرسي الذي تجلس عليه، وهنا يمكن أن نفهم موقف المخرّبين الذين يتطاولون على منحوتة ضوا، السكارى، الغاضبين، الساخطين والمحرومين من الأوراق الرسميّة، هم يحطمون أجزاء من التمثال، لنفيه كلياً، أو بصورة ما، نفي الهيكل الذي يمثله وثقوبه اللامتناهية، تلك التي تفضي إلى الداخل المظلم، المصمت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard