تدرك الأنظمة الشمولية أن السيطرة على التعليم، وتدفق المعلومات، هي المفتاح للسيطرة على الشعوب. وللتغلب على هذا النمط، على المرء أن يكسر هذه المنظومة المسيَّسة.
لكن التقدميين والثوريين في مصر، فشلوا مراراً في تقديم طريق بديل قابل للتطبيق. وعندما يتعلق الأمر بالتخطيط المتوسط، أو الطويل الأجل، فإن هذه العضلة في عقولهم ليست تلفة فحسب؛ بل بالأحرى: لا وجود لها.
المتقدمون إلى شغل أدوار المحفزين على التغيير، غالباً ما يحاصرهم نقص خبراتهم في الحوكمة، نظرياً وعملياً. ظهر هذا جلياً في الشهور اللاحقة لثورة 25 كانون الثاني/ يناير، والتي كان يمكن فيها رسم الخارطة الانتقالية.
وفي المقابل، تمكنت جماعة الإخوان المسلمين، الأكثر تنظيماً، ومعها العسكريون، من رسم خريطة طريق واضحة، بينما لم يدفع التقدميون إلى الناس سوى بأحلامهم وشعاراتهم.
من أجل تحقيق الحاجة المصرية إلى "وزارة المستقبل"، وتحويل تلك الطاقة الخام من العقول المتعلمة نحو إنتاج خطط قابلة للتنفيذ، من أجل مستقبل أفضل للمصريين، على المصريين أنفسهم أن يوقفوا عملية نزيف العقول
وبينما يعاني كثيرون من المصريين المعارضين في الشتات، من التشظي، وغياب الثقة، والسذاجة، والشعاراتية، لم يقترح أي منهم بعد طريقاً للتحرك نحو الأمام. هذا الطريق يبدأ بقلب عملية تفريغ مصر من العقول الجارية الآن، رأساً على عقب. وذلك من خلال إدراك قوة ملايين المصريين الذين استحوذوا على السلاح الكاسح: التعليم. كيف نحوّل هذه القوة الخام والخفية إلى تخطيط واقعي؟ تلك خطوة مركزية على طريق الأمل الجاد بمستقبل أفضل لمصر والمصريين.
هذا العماد المركزي... وزارة المستقبل... يجب أن تكون بوصلتنا، ويجب أن تتشكل وفق رؤية: من الشعب إلى الشعب.
من أجل تحقيق الحاجة المصرية إلى "وزارة المستقبل"، وتحويل تلك الطاقة الخام من العقول المتعلمة نحو إنتاج خطط قابلة للتنفيذ، من أجل مستقبل أفضل للمصريين، على المصريين أنفسهم أن يوقفوا عملية نزيف العقول.
قبل أن نصل إلى هذه النقطة، يجب أن نحدد منبع الماء الراكد الذي يطفئ نيران الرفاه. مركز فكرة وزارة المستقبل، هو الفكر والإبداع والاستقلال، والأفكار المرنة التي تستقبلها، وتحتفي بها، وتلك العقول الرافضة للأفكار الرجعية، والحكم المحافظ. كي تحقق مصر أحلامها المستقبلية، عليها أن تدرك أن إسكات الأكاديميين، والاعتقال الممنهج لهم، صار من ممارسات الماضي، ولا يصح لدولة تحلم بالمستقبل.
خلال الشهر الماضي، كانت هناك واقعتان فاضحتان للسلطوية المعادية للمفكرين. الأولى، عندما قامت الوزيرة الأثيرة لدى النظام نبيلة مكرم (وزيرة الهجرة) بإلقاء كرة نار، عندما صرحت، من دون أي ملمح للسخرية، قائلةً: "المصريون الدارسون في الخارج هم أخطر فئة من المغتربين". بعدها بأيام قليلة، أُلقي القبض على الدكتورة عالية مسلَّم، فور وصولها إلى مطار القاهرة قادمة من برلين بصحبة عائلتها، ووجدت نفسها في حوزة مطرقة النظام الأكثر قسوة: أمن الدولة (الأمن الوطني).
اضطرت مسلّم إلى المعاناة من قبضتهم مدة 24 ساعة، وبذلك كان حظها أفضل من أكاديميين عديدين آخرين سبقوها إلى مقرات هذا الجهاز الأمني، منهم الباحث السابق في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية باتريك جورج زكي، وطالب الدراسات العليا في إيطاليا، ومن بعده الطالب المغترب أحمد سمير سنطاوي الذي يخوض الآن إضراباً مفتوحاً عن الطعام يهدد حياته، ووليد شوبكي. كلهم وغيرهم يعانون داخل سجون السيسي.
هناك عقول لامعة، جواهر متناثرة على ضفتي النيل، وفي الشتات، لديها قدر غير محدود من المعرفة والشغف. لكن العقول اللامعة تحتاج إلى مناخ سياسي متناغم، وإدارة سياسية لا تخضع، ولا تنحني.
في رسالتها المشاكسة لنيل درجة الدكتوراه، أشارت عالية مسلَّم بذكاء إلى الممارسة الموغلة في التاريخ الطويل للعسكرية المصرية، المتمثلة في إسكات الحوار العام، واستخدام سلاح الإجبار على السكوت، في محو أية سردية مخالفة للسردية الرسمية للتاريخ المعاصر.
وجدت مسلَّم في رسالتها، أنه خلال عهد عبدالناصر، "استطاعت الأغاني أن تحفظ للذاكرة الجمعية أحداثاً أسقطتها السردية الرسمية. زيادةً على ذلك، تكشف هذه الأغاني عن صمت فرضته سرديات الدولة".
هناك أمثلة أكثر فداحة، تدل على التربص السام بالحريات الأكاديمية، أكثر حتى من حادث قتل جوليو ريجيني على يد الأجهزة الأمنية المصرية. أمثلة عديدة وممنهجة. إنه ذاك الصمت الذي يسعي هذا النظام المتوحش إلى ترسيخه. هذا صمت لا بد من كسره.
هذا صراع الحقائق ضد الأكاذيب، والفكر ضد اللا فكر، والخيال ضد التنفيذ الأعمى للأوامر. وبالنسبة إلى أمة تتخذ موضعاً في ذيل الأمم من حيث التعليم، وفقاً لتقرير اليونيسيف 2017، فإن تغيير هذا الوضع الكارثي، مسألة حياة، أو موت.
النموذج المعتمد لإدارة أية وزارة، هو تقسيمها إلى قطاعات؛ التمويل، والتشغيل، والعلاقات الخارجية... إلخ. لكن التغيير مطلوب إذا أردنا أن نقفز بمصر إلى الأمام، بمجرد الخلاص من الحكم القمعي. ما يمكن، بل ويجب، أن يعنيه هذا، هو وعاء فكري مستقل وقوي، كالوزارة التي يمكن أن نسميها "وزارة المستقبل"، تكون لها سلطات وزارية، وترخيص مطلق بحرية التصرف، ممنوح من أعلى مستويات السلطة. وعوضاً عن البناء الهرمي التقليدي الذي تصدّق فيه الوزارة على القرارات، ويقوم تابعوها بالتنفيذ بشكل آلي، تحتاج مصر إلى التناغم الذكي الديمقراطي في القرار والتنفيذ.
لماذا وزارة المستقبل؟ لأن استقلال الفكر والحوار يختفيان تماماً في المستويات العليا من سلطة الحكم الشمولي. وزارة المستقبل ستتعامل مع عش الدبابير هذا، بلا تردد. هي أشبه بمجلس وزراء يعمل خارج المنظومة التقليدية للحكم. تلك المنظومة المحاصرة بالمكائد السياسية. هذا كفيل بسحب قاطرة الوطن من وحل النظام الذي لا يعرف إلا إصدار الأوامر، وانتظار تنفيذها بلا تفكير، ولا إبداع، ولا نقاش، إخلاصاً لعقود من الحكم العسكري.
هذا التغيير في الرؤية، يجب أن تقوى شوكته بالفهم الكامل للماضي، وأخطائه العديدة. الأفكار المبتكرة يجب أن تُحتضَن، لا أن تواجَه بالفزع.
الترشيح لعضوية وزارة المستقبل يجب أن يكون غير خاضع لمؤسسة الرئاسة، لضمان الاستقلال الفكري، واستقلال القدرة على وضع السياسات. عوضاً عن هذا، يتولى مجلس الأمن القومي المصري، المتشكل من مختلف الأجنحة السياسية والاجتماعية، الترشيح والاختيار لعضوية هذه الوزارة التي ستقود التغيير.
تتشكل هذه الوزارة من رجال ونساء من مختلف الأعمار، ممن تلقوا تعليمهم داخل مصر وخارجها. العنصر الأساسي الذي سيقدمونه هو تفريخ الخبرات، إلى جانب التركيز الدقيق على فهم ضرورة تبني مفاهيم القرن الحادي والعشرين في حل مشكلات مصر، قديمها وجديدها.
طريقنا نحو المستقبل يجب أن يعبّده إيماننا بالعقول الجديدة، أولئك الذين تدرك عقولهم فداحة انتشار أمراض الفقر، وانهيار التعليم، وتهديد المياه، والتراجع المزمن للاقتصاد الحقيقي
التفكير القديم سيجنح إلى استدعاء الأكاديميين والنجوم المحترفين، أمثال عصام حجي من "ناسا"، أو صاحب التعليم البريطاني البروفيسور مجدي يعقوب، أو نجم أكسفورد الدكتور خالد فهمي، وسيسقط أسماء الأكاديميات والمهنيات المصريات لصالح أقرانهن من الرجال. ينبغي أن نشرح أن هؤلاء "النجوم" ليسوا مقصداً لوزارة المستقبل.
طريقنا نحو المستقبل يجب أن يعبّده إيماننا بالعقول الجديدة، أولئك الذين تدرك عقولهم فداحة انتشار أمراض الفقر، وانهيار التعليم، وتهديد المياه، والتراجع المزمن للاقتصاد الحقيقي. آليات وزارة المستقبل، وقوانينها الحاكمة، يجب أن تُبنى على إلغاء أية فرصة للمحسوبية، أو الولاءات السياسية.
كما تحتاج وزارة المستقبل إلى العمل على أصعدة عدة: هيئة لوضع الحلول تقوم على خدمة الأمة، ودورها وضع السياسات، فيما تعمل بعين مفتوحة على البحث العلمي والتنمية. ونضع في تصرفها أشخاصاً ذوي قدرات تكفل لهم تنفيذ تلك الرؤى. وليكن في حسباننا أن مصر في وضعها الحالي لا تخصص أكثر من 0.724% من موازنتها العامة، لصالح البحث العلمي والتنمية، حسب بيانات البنك الدولي. هذا الوضع لا بد من تغييره. قدر غير قليل من ميزانية التعليم للدولة يجب أن يوكل إلى هذه الهيئة. الأولوية القصوى، هي أن تعتمد السياسات على تحويل النظرية إلى واقع، بينما يترسخ مفهوم أهمية وزارة المستقبل بالنسبة إلى أمن مصر القومي، لدى المصريين.
ولمن يعتقدون أن تنفيذ هذه الخطة يحتاج إلى نظام تعليم شديد الثراء والتقدم، من أجل رفع مستوى الوعاء الذي ننتقي منه هذه العقول، أقول لهم إن ما تطرحونه مثالي، لكن هذا المشروع يجب أن يبدأ في القريب العاجل، بينما المناخ السياسي مُواتٍ. التغيير يحتاج إلى الدفع إلى الأمام. التغيير في ذاته، هو أفضل محفز على التغيير.
هناك عقول لامعة، جواهر متناثرة على ضفتي النيل، وفي الشتات، لديها قدر غير محدود من المعرفة والشغف.
لكن العقول اللامعة تحتاج إلى مناخ سياسي متناغم، وإدارة سياسية لا تخضع، ولا تنحني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...