لربما نُسبت الرحلات السياحية الأولى في مسيرة البشرية إلى الفراعنة، الذين قرنوا بين السفر النخبوي والبحث عن المتعة، وفق البرديّات التي مجّدت الترحال وأبرزت مزاياه. لكنّ مفهوم "السهولة" كشرط لفنون الرحلة السياحية الترفيهية قد تبلور مع حكماء الإمبراطورية الرومانية، انطلاقاً من أن قضاء وقت طيب يستلزم بالضرورة بساطة عَيش اللحظة الآنية والإحساس بها جيداً، وتخطّي المشقات وإهدار الطاقة، والحرص على توفير سبل الراحة، وعلى رأسها تذليل الطرق وتيسير التنقلات.
وفق تلك الفلسفة، يمكن القول إن منتجع "العين السخنة" بمصر يشكل نموذجاً لتفوّق اللحظة الراهنة المعيشة على معطيات الماضي المحفورة في الذاكرة، ومثالاً لانتصار المسافة الجغرافية القريبة الملموسة على بُعد التاريخ الضارب في القدم، وعلى السباحة التخيلية إلى الوراء عبر الزمن بحثاً عن النقوش والحفريات وغيرها في أمكنة ذات وجاهة أو قداسة. ويوماً بعد يوم، تتقدم منطقة العين السخنة صوب صدارة قائمة شواطئ البحر الأحمر وخليج السويس بمصر، مُناطِحة شرم الشيخ والغردقة وراس سدر وسفاجا والجونة ونويبع ومرسى علم ودهب وطابا وغيرها من المقاصد المتحققة والراسخة، في السياحة الداخلية والخارجية على السواء.
لا تخلو العين السخنة، الواقعة على مسافة 140 كيلومتراً من القاهرة و55 كيلومتراً من السويس، من الكنوز الأثرية والتاريخية والحضارية، شأن الوجهات السياحية الثقيلة بمصر، لكنها لا تعتمد عليها في المقام الأول في أبجديات الجذب السياحي التي تراهن عليها. فهذه الاكتشافات بالعين السخنة، على أهميتها، تمثل الاستثناء في المنطقة الحديثة برمّتها، التي لم تكن تعرف الحياة العصرية قبل حوالي ستين عاماً فقط، حيث تأسس آنذاك فندق العين السخنة، كباكورة للمنشآت السياحية، ثم راحت المنطقة تتطور وتتمدد بسرعة البرق، لتحتضن في لحظتنا الحالية سلسلة عملاقة من الفنادق والشاليهات والفيلات، إلى جانب عدد كبير من القرى المجهّزة، التي تستوعب تدفقات جماهيرية حاشدة بصورة تفوق الالتزام الفندقي المحدود في شواطئ البحر الأحمر الشهيرة بالجنوب المصري.
يوماً بعد يوم، تتقدم منطقة العين السخنة صوب صدارة قائمة شواطئ البحر الأحمر وخليج السويس بمصر، مُناطِحة شرم الشيخ والغردقة وراس سدر وسفاجا والجونة
ولعل الاكتشافات الأثرية والمعالم التاريخية يكون لها دور في المستقبل القريب لإضفاء جانب آخر يثري الترويج السياحي بالعين السخنة، ويكسبه عمقاً إنسانيّاً، يضاف إلى جملة العناصر والمقوّمات الفريدة والكثيرة التي تعتمد عليها العين السخنة في الوقت الحالي.
ومن أبرز هذه الاكتشافات المعلن عنها مؤخراً بواسطة جهود البعثات الفرنسية والألمانية والأجنبية، ذلك الكنز الأثري الذي يعود إلى الدولتين الحديثة والوسطى منذ أكثر من أربعة آلاف عام في منطقة جبل الجلالة، وذلك التمثال الضخم للملك أمنحوتب الثالث، والمغارات والأفران التي كانت تستخدم في استخراج النحاس، بالإضافة إلى مدينة العمال القديمة قرب ساحل البحر الأحمر، المليئة بالرموز والكتابات الهيروغليفية والقبطية، وغيرها.
لكنّ ما يشير إليه الواقع بوضوح، ويدركه زائرو العين السخنة بشكل مباشر، هو أن النجاح السياحي اللافت الذي حققته المنطقة على مدار الفترة الوجيزة الماضية، ولا تزال تحققه، ينهض على مجموعة من الركائز الأخرى المتميزة، غير الكنوز التاريخية، من أهمّها على الإطلاق القُرب المكاني من العاصمة ومدن القناة ومحافظات الدلتا ذات الكثافة السكانية العالية.
العين السخنة هي شاطئ البحر الأحمر الأقرب على الإطلاق إلى القاهرة، وكذلك إلى العاصمة الإدارية الجديدة، ما جعل المنطقة تكاد تحتكر بشكل حصري سياحة اليوم الواحد ورحلات "الداي يوز" المستهدفة البحر الأحمر، كما أنها تتنافس بقوة في الرحلات اليومية مع منطقة الساحل الشمالي على شاطئ المتوسط، الواقعة على مسافة تناهز مئتي كيلومتر من القاهرة، بالقرب من مدينة الإسكندرية.
في أقل من ساعتين، بالسيارة الخاصة العادية أو بالمواصلات الجماعية المتاحة، يجد المتحرّكون من القاهرة ذواتهم في حضن السحر والجمال والجلال وهيبة المكان، حيث التركيبة النادرة من مفردات الطبيعة الخلابة ولوازم الاستمتاع والاستجمام والاستشفاء التي قلّما تجتمع معاً بهذا الشكل.
ففي هذه الرقعة الآسرة، سيدرك الزائرون على الفور سرّ تسميتها بـ"العين السخنة"، نظراً لانتشار العيون الكبريتية والبحيرات الكريستالية وينابيع المياه الطبيعية تحت سفح جبل عتاقة، وعلى امتداد خريطة المكان، وهي عيون موصوفة طبيّاً لتحسين الصحة العامة والمزاج النفسي والعلاج من الأمراض مثل الروماتيزم وآلام المفاصل وغيرها، إلى جانب الرمال الساخنة المفيدة بدورها في الاستشفاء والنقاهة وتنشيط إنزيمات اللياقة والسعادة.
وتتسع اللوحة أمام الرائين لتضمّ أنقى ما يحلمون به من شواطئ ممهدة غير صخرية، ذات مياه رائقة متعددة الألوان، ورمال بيضاء وصفراء وذهبية، وهي من المزايا الكبرى لمنطقة السخنة البكر، فالشواطئ مهيأة بشكل طبيعي لتفاعُل الأفراد مع مياه البحر من دون حواجز، وبغير الحاجة إلى معالجات.
ويحاط المشهد كاملًا بجبال أليفة وغابات دافئة وحدائق ترفيهية، وسماء صافية تهدي الأرض أشعّة شمسها نهاراً ووهج قمرها الساطع ونجومها المتلألئة ليلاً؛ ما يفسح المجال لأنشطة وفيرة غير محدودة، كممارسة الرياضات والألعاب المائية المتنوعة، والغطس، والتزحلق على المياه، وتسلق الجبال، والصيد، وإقامة المعسكرات، وركوب التليفريك، والتصوير الفوتوغرافي، وغيرها.
ولا تحتاج الرحلة الفردية أو العائلية إلى العين السخنة إلى الكثير من التخطيط والإعداد المسبق، على أي مستوى من المستويات، فإجازة نهاية الأسبوع الاعتيادية قد تكون كافية للراغب في زيارة قصيرة لمدة يوم أو ليومين. وكذلك لا توجد ترتيبات خاصة لإقامة أطول من ذلك إذا توفّر الوقت، فالحجوزات السريعة متوفرة بوسائل متعددة، إلكترونياً وتليفونياً، ويمكن تأجيل الحجز إلى ما بعد الوصول، لوجود بدائل كثيرة، خصوصاً في القرى السياحية الكبيرة.
في هذه الرقعة الآسرة، سيدرك الزائرون على الفور سرّ تسميتها بـ"العين السخنة"، نظراً لانتشار العيون الكبريتية والبحيرات الكريستالية وينابيع المياه الطبيعية تحت سفح جبل عتاقة
كما أنه من السهل تأمين التنقلات، بمركبة خاصة أو عامة، وتدبير التكلفة المادية المناسبة للرحلة، لاسيما إذا قصرتْ مدة الإقامة، إلى آخر هذه المتطلبات، التي قد لا تكون بمثل هذه البساطة، عند اختيار شاطئ ناءٍ أو ضيّق بطبيعة الحال.
وفي رحلاتهم القصيرة إلى العين السخنة، يستكشف الزائرون دون عناء كيف أن هذا النموّ السياحي المثير للمنطقة يتسق مع انطلاقات اقتصادية أخرى تهدف إلى تطوير المكان كمنظومة حياة متكاملة؛ فهناك على اليمين واليسار بامتداد المشوار عشرات المشاريع والأفكار الاستثمارية التي بدأت تتجسّد على الأرض.
من ضمن هذه المشاريع، على سبيل المثال لا الحصر، حقول البترول والغاز ومصانع التكرير والأمونيا، وميناء السخنة البحري المطوّر بإنشاءاته التجارية واللوجستية، ومصفاة السكّر والوقود النباتي، والمدينة الحديثة المقامة أعلى جبل الجلالة بمساكنها وجامعاتها وحدائقها ومرافقها الخدمية، والحيّز البولندي المخصص للصناعات الغذائية والإلكترونية وقطع غيار السيارات؛ الأمر الذي جعل المنطقة ككل على قمة أولويات شركات التطوير العقاري في هذه المرحلة، وعلى رأس هرم النهوض السياحي، واجتذاب المصريين والعرب والأجانب.
ومع توالي نفحات النسيم على الشواطئ الاسترخائية، يستشعر قاصدو العين السخنة ذلك الاختلاف في الطقس بينها وبين بقية شواطئ البحر الأحمر وخليج السويس في جنوب مصر؛ فمناخ المنطقة أقلّ رطوبة وأكثر جفافاً ولطفاً، والمسطّح المائي المسموح به للعائلات أطول امتداداً وأكثر اتساعاً، ما يحول دون حدوث تزاحم، ويبرز شخصية المكان وهويته، ويؤكد فردانيته واستقلاليته، كوجه جديد فاعل، بات له حضور طاغٍ وسط أمكنة السياحة التقليدية بمصر، خصوصاً أن هذا الوجه دائم الابتسام لمن يتطلع إليه، في الصيف وفي الشتاء على السواء، فمن سمات العين السخنة الجوهرية أنها استراحة القلب والروح الملائمة على مدار أيام العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه