في مساحة ضيقة لم تتجاوز 10 أمتار مربع، بدأت حكاية أشهر مطاعم الأسماك التي عرفتْها عروسُ البحر المتوسط، الإسكندرية، طوال تاريخها. "هو ده شعبان بتاع السمك إللي بيقولوا عليه"، الجملة الطويلة التي لا يتوقع من يقرأها لأوّل مرة إلا أن هناك فكاهة في الاسم، وهو ليس اسماً دارجاً يصلح أن يتمّ تداوله لمطعم شهير، لكن سخرية الاسم لم تمنع حكاية "شعبان" من أن تكتمل، وأن يصبح أحد المقاصد الرئيسية لكلّ زوّار المدينة الساحلية.
"شعبان"، الجدّ الكبير وصانع الأسطورة، تعود انطلاقته الأولى إلى بدايات القرن العشرين، في الفترة التي شهدت اندلاع الحرب العالمية الأولى، تحديداً عام 1917، لم يكن الرجل يملك محلّاً في البداية، بل كان الأمر يتلخّص في عربة صغيرة لبيع الأسماك مزودة بمقلىً حوّل اسمه إلى أيقونة في منطقة المنشية بالقرب من محطة الرّمل في وسط المدينة.
الحارة المتوارية بين جامعة سنجور وشارع كريت التي تتصاعد منها رائحة الأسماك المشوية تحوّلت إلى مقصد لكل "السكندريين" وروّاد المصيف، والعربة الصغيرة القريبة من لوكاندة "كنال السويس" العريقة، والتي كانت تضمّ مقلى بيع الأسماك للمارّة، تحوّلت لمحلّ ثمّ لمجموعة محلّات متجاورة، وجاء بعدها بسنوات الأحفادُ ليواصلوا المسيرة بتأسيس فرعٍ كبير بمنطقة "المكس"، لينجح الجدُّ وأحفاده في اكتساب شهرة طاغية، وصناعة منظومة تحوّلت لعلامة تجارية ذائعة الصيت.
كان أحمد زكي على علاقة وطيدة بالمطعم والعاملين فيه، وينتهز أيّ فرصة يتواجد فيها بالإسكندرية للقدوم إليه
والسرُّ في الخلطة التي جعلت "شعبان" أنجح مطاعم الأسماك الشعبية، وذلك على الرغم من انتشار العديد من مطاعم المأكولات البحرية في المدينة، وبعضها تنتنمي للسّلاسل الفارهة متعددة الفروع التي تطلّ على البحر مباشرة، وتقدّم أفخر أنواع الأسماك، إلا أن زبائن شعبان الذين يفضّلون الاستمتاع بالمذاق على الطريقة الشعبية القديمة حافظوا على الصدارة للجدِّ وأحفاده.
أسعار جاذبة وجودة عالية
أشتهرت "أسماك شعبان" تاريخياً بانخفاضِ مستوى الأسعار والحفاظ على طابعه الأساسيّ كمطعم شعبيّ، وهو الأمر الذي لم يتعارض مع الوصول لمستوى عالٍ من الجودة. ومن أهمّ ملامح تلك الجودة هو مبدأ الابتعاد تماماً عن الأسماك المجمّدة، حيث يعوّل المطعم على نجاحه في اجتذاب أعدادٍ كبيرة من الزبائن يومياً بالشّكل الذي يغطّي كمية الأسماك الطازجة التي يتمّ جلبها إلى المطعم فجر كلّ يوم من "حلقة السمك" الشهيرة في عروس المتوسّط، وإذا انتهت بضاعة اليوم يتوقّف المطعم عن تقديم الطّعام لزبائنه انتظاراً ليوم جديد.
لم يكن الرّجل يملك محلّاً في البداية، بل كان الأمر يتلخّص في عربة صغيرة لبيع الأسماك مزودة بمقلىً حوّل اسمه إلى أيقونة في منطقة المنشية بالقرب من محطة الرّمل في وسط المدينة
وقد تمّ الحفاظ على هذا المبدأ سواءً في الفرع القديم للمطعم، أو في فرعه الجديد بمنطقة المكس في الإسكندرية الذي يقع على مساحة كبيرة على البحر مباشرة، ويتكوّن من ثلاثة طوابق.
نجم الدراما المصرية الممثل مراد مكرم، قام بزيارة خاصة للمطعم في إحدى حلقات برنامج "الأكيل" الذي يقدّمه على شاشة أحد الفضائيات، وذلك في محاولة لاكتشاف أسرار الخلطة التي كانت أبرز ملامحها في شوربة الجمبري المميزة التي يقدمها المطعم الذي يستمدّ تفرّده من طهي الأسماك على الطريقة البيتي، ولا توجد قائمة محدّدة للطّعام، فكلّ الاختيارات متاحة طبقاً لاختيارات الزّبون، وهناك العديد من الأصناف التي يشتهر بها المطعم بين زبائنه، من أبرزها أسماك البوري والبربون والجمبري المشويّ بخلطة شعبان السرّية والسنجاري والبوري المشوي المتبّل.
المطعم نجح في اجتذاب الأجانب أيضاً في ظلّ أجوائه الشعبية المصرية، ويأتي إليه بصفةٍ دائمة الكثيرُ من الأفواج السياحية في رحلات جماعية. وما يضفي المزيد من الجاذبية هو طبيعة الموقع بجوار السّوق الفرنسيّ، وهو المكان الذي يحمل طابعاً تاريخياً خاصّاً يعود لبدايات القرن التاسع عشر، حيث تمّت إقامته على أنقاض سوق حملة نابليون بونابرت ورجالها القادمين من أوروبا، فيتذكّر بعضُ أهالي الحارة من كبار السنّ، وضعها القديم عندما كانت مزدحمة بمحلّات الحدّادين والسروجية والجزّارين والسمّاكين والمنجدين، في الوقت الذي كان الجدُّ "شعبان" يبدأ رحلته بـ"المقلاية" الصغيرة التي يبيع عليها الأسماك التي يقوم بصيدها بنفسه للمارّة.
رحلة البحث عن الأسماكِ الطازجة
يوم العمل في المطعم القديم بالمنشية يبدأ مبكراً قرب أذان الفجر، عندما يتوجّه الطّهاة في الساعة الرابعة فجراً لبدءِ رحلة البحث عن أشهى الأسماك في حلقة السّمك بمنطقة الأنفوشي، أو لدى الصيادين في أبوقير، أو يقومون بإحضارها بالمعدية من منطقة إدكو، لتكون الأسماك الطازجة حاضرة في المطعم بالمنشية عندما تدقّ الساعة السابعة صباحاً. ويبدأ المطعم في استقبال زبائنه عند الظهيرة، وتختلف تلك المواعيد مع قدوم شهر رمضان، حيث تفتح صالات المطعم أبوابها لاستقبال الصائمين قبل أذان المغرب.
شهرة "شعبان" الكبرى بدأت من بعيد، بين الزوار القادمين من خارج الإسكندرية لقضاء إجازات الصيف أو لخطف راحة سريعة على شواطئ المتوسط. ولذلك اشتهر المحلّ في أوساط القاهريين قبل أن يعرفه السكندريين
الحفيد الأول لشعبان الذي يتولى إدارة المطعم حالياً، "خالد إيسا"، تحدث لـرصيف22 أثناء جولتنا في المطعم، وقال إن عائلته تنتمي لمنطقة المنشية التي يقع فيها المطعم القديم، وتذكّر ما حكى له والده عن "قلاية" الجدّ الصغيرة التي فتحت الطريق للشهرة، وعن خطى الجدّ التي مازال الآباء يسيرون عليها.
كلُّ ما تغير فقط هو أن العربة الصغيرة كانت قاصرة على البيع "تيك أواي" في قديم الزمان، لكن التوسّع وشراء عدة محلات متجاورة أصبح يسمح باستقبال الزبائن. وما ساعد على ذلك أن شهرة "شعبان" الكبرى بدأت من بعيد، بين الزوار القادمين من خارج الإسكندرية لقضاء إجازات الصيف أو لخطف راحة سريعة على شواطئ المتوسط. ولذلك اشتهر المحلّ في أوساط القاهريين قبل أن يعرفه السكندريين، ويعتبر "الطاجن الأبيض" هو أشهر الأطباق التي يطلبها المترددون على المكان حالياً، وهو عبارة عن كوكتيل من الجمبري والسبيط وأشهى المأكولات البحرية.
النجوم في المطعم
قال خالد إيسا إن الرّاحل الكبير أحمد زكي كان على علاقة وطيدة بالمطعم والعاملين فيه، وكان ينتهز أيّ فرصة يتواجد فيها بالإسكندرية للقدوم إلى هنا لتناول الأسماك البحرية والجمبري والكابوريا التي يحبّها. وبالإضافة إلى زكي كان هناك النجوم يونس شلبي وسوسن بدر، ونقيب الموسيقيين المطرب هاني شاكر، ولاعب الكرة وائل رياض، والفنان الكوميدي بيومي فؤاد، والفنانة منة فضالي، كما أنّ الممثلة نهال عنبر تبقى من أهم الزبائن التاريخيين في المطعم.
وعن شريحة الزبائن وتحولاتها عبر العقود، يقول حفيد شعبان الكبير، بأن الزوار مازالوا يأتون خصيصا من القاهرة و المحافظات المجاورة لتناول وجبة الأسماك لدينا في المنشية، لكن هناك بعض التغييرات التي تواكبت مع إفتتاح الفرع الجديد بمنطقة المكس، وذلك لأنه يخاطب شريحة مختلفة عن زبائن المطعم القديم، ففرع المكس يستهدف الشريحة العليا من الزبائن والطبقات الراقية، من خلال صالة طعام كبيرة مكيفة تطل على البحر مباشرة، ولكن ذلك لا يعني عدم الحفاظ على تقاليدنا القديمة، فمازلنا لا نفرض قائمة محددة للطعام، ونقدم ما يرغب فيه الزائر، بطريقة الطهي التي يفضلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...