شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هذا ما جناه الفيسبوك... دردشات تؤهل للصبر ولا تربّي القصيدة

هذا ما جناه الفيسبوك... دردشات تؤهل للصبر ولا تربّي القصيدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 28 يوليو 202103:46 م

في 1 يونيو 2020، وكانت الساعة تجاوزت الرابعة صباحاً، تلقيت أربع رسائل قصيرة، متتابعة، غير مسبوقة بصباح الخير، وإنما بصورة لإحدى لوحات كلود مونيه:

"سعد أنت حبيبي... لكن هل تعرف مونيه؟!"

"أنت من كبار الصحفيين الواقعيين... لكن، هل تعلم بأن عليك أن تحتفظ بالطفولة... بالدهشة... وكس رب السياسة مرات؟؟!!"

"والواقع."

"؟"

من ضرائب الصداقة الفيسبوكية احتمال أصدقاء من هذا النوع الفيسبوكي، والصبر على المكاره. ومعلوم أن اعتياد السهر يُطيل البال، وييسّر التجاوز عن أمور تحتمل وجهات نظر، ويفترض أن الطرف الآخر يمرّ بأزمة ما، وأنه في أحسن الأحوال وحيد يحتاج إلى أذن تصغي، تتلقى فقط ولا تستفسر أو تتمعن في الموضوع، لأنه لا يوجد موضوع تقريباً.

ولهذه الأسباب، لم أسأل صاحب الرسائل الأربع في ذلك الفجر، عن تصنيف "الصحفيين الواقعيين". وكتبتُ إليه: "صباح الفل".

من ضرائب الصداقة الفيسبوكية احتمال أصدقاء من هذا النوع الفيسبوكي، والصبر على المكاره

ردٌّ بهذا الإيجاز يعني، في توقيتٍ نهاريّ مناسب، إنهاء المحادثة. هذا الرد الموجز يعني، فجراً، أن "الصباح رباح يا أخي"، ويسعى إلى اصطباحة خير نور وفل وياسمين إن وجد، المهم أن تكون خالية من المنغصات. فالتوقيت والحيز الفيسبوكي كلاهما لا يلائم مثل هذا النقاش. ولكنه واصل الكتابة:

"حبي".

"أنا أحبك".

تعمدت أن يكون ردّي خاصّاً بمونيه: "رسام جميل، أعظم من رسم الطبيعة والزهور."

تمادى صديقي الفيسبوكي في الإلحاح بثلاث رسائل؛ الأولى: "جاوبني"؛ الثانية: "لا"؛ الثالثة: "واقعي جداً."

قلت: "مش واقعي، انطباعي، يرسم الطبيعة كما يشعر بها لا كما هي؛ يعيد رسم المشهد نفسه عدة مرات."

وكانت الشمس توشك أن تقتحم النافذة، وصديقي الفيسبوكي يصرّ، في هذا الشروق، على أن يلقي عليّ قولاً ثقيلًا، يبدأ بأول دروس فلسفة الفن. كتب عدة رسائل متوالية: "الاختيار أولاٌ يا سعد!"

"هو اختار".

"ونحن سميناه واقعي وطبيعي وانطباعي."

"الفنان اختيار."

"أنا أستغرب أنك مهتم بما هو واقعي طوال اليوم... وكل يوم."

"هذا الشيء متعب."

للأذن طاقة. كان لي زميل (س) يحلو له السّهر، وقضاء الليل في مكالمة متصلة تستغرق ثلاث ساعات على الأقل، وأحياناً يقسم الليل بغير عدل إلى مكالمتين اثنتين، ومن يوقعه حظه في تلقي المكالمة يدرك أن الله يكفّر بعضاً من سيئاته.

كفى الله القراء "كتابة" تدلّ عليها دردشة صاحبها

اتصل (س) بزميل آخر وأيقظه. رحب به، ووضع السماعة، ودخل الحمام، وأكل ما تيسر من المتاح في الثلاجة بعد تسخينه، وأعد الشاي، ثم عاد ورفع السماعة، وسأله باهتمام مصطنع: خير وبعدين؟ فواصل (س) ضخّ الكلام، ولم ينتبه إلى غياب الذي جاء عليه الدور لتكفير ما تقدم من سيئاته.

لستُ من السكان المقيمين في غرف الفيسبوك، وإطلالاتي سريعة. أما أن أوصف بأنني "واقعي طوال اليوم... وكل يوم" فيعني أنني مراقب. المراقِب، في حالتي، لا يترك أثراً يدلّ عليه، فنادراً ما يبدي إعجاباً مجاملاً (لايك)، أو يعلق على منشور أو مقال ولو بمعارضته ورفضه. وكانت الشمس تنبهني إلى ضرورة النوم، فكتبت إليه: "ولا يهمك".

فسألني سؤالين: "وين الفن؟"

"المخيلة وينها؟"

رأيت أن أتحول من الاستقبال إلى طرح سؤال: "أين الواقعية أو السياسة؟ مش فاهم."

يبدو أنه لم يقرأ سؤالي، وكان لديه فائض جاهز للضخّ، فكتب ثلاث رسائل: "السياسة ليست جواباً على بؤس الإنسان."

"أنا جئت من أمريكا بعد عشرين سنة إلى مصر."

"وأنا أربي نفس القصيدة."

أعجبتني فكرة تربية القصيدة، ولكنها ارتبطت بتكرار الأنا أربع مرات. وقدّرتُ أن القصائد لا تولد في الفيسبوك، ولا تُربّى في هذا الوقت المتأخر، ولا يُعلن عن هذه التربية في الخامسة فجراً. استغرق تأملي لفكرة تربية القصيدة دقيقتين، فاستعجلني بأربع رسائل، قسّم فيها علامتي الاستفهام والتعجب بالعدل: "ممكن أتصل بك سعد؟"

"؟"

"سعد!"

"أنت آخر واحد في هذا العالم كنت متوقع أنه ما يجاوب!"

عصر اليوم نفسه، كتبت هذا الرد: "صباح الخير. أجيب عن ماذا؟ الساعة الخامسة فجراً؟ من يومين لم أنم فنمت من التعب، وصحوت الآن متعباً، وأرغب أيضاً في إكمال النوم. عن كلود مونيه والانطباعية؟ عن السياسة؟ أي سياسة؟ لا أكتب في السياسة ولا إلمام لي بعلومها وتفاصيلها التي تغيب وربما لا تظهر إلا بعد جيل. أكتب في الأفكار، ولا أستنكر على من يكتب في السياسة أو الاقتصاد أو الفن التشكيلي أو الموسيقى. في الحياة سعة. صباحك فل".

قدّرتُ أن القصائد لا تولد في الفيسبوك، ولا تُربّى في هذا الوقت المتأخر، ولا يُعلن عن هذه التربية في الخامسة فجراً

أجاب: "محبتي واعتزازي بك تجعلاني افتح مواضيع وأتواصل معك... تقبل مني خالص التقدير حبيبي سعد."

من ذكريات "الهلال"

أما الدردشة الأكثر غرابة فهي سابقة على كلود مونيه فجراً؛ في يناير 2016 كتب لي أحدهم يستفسر عن النشر في مجلة "الهلال"، وكنت آنذاك رئيساً لتحريرها، وبالتبعية أتولى رئاسة تحرير سلسلتيْ "كتاب الهلال" و"روايات الهلال":

ـ الأستاذ سعد!

ـ نعم.

ـ عندي كتاب عايز أنشره في الهلال.

ـ بكل سرور.

ـ وممكن أنشر قصة أو مقال في مجلة الهلال؟

ـ ممكن.

ـ هي المجلة بتنشر قصص؟

ـ نعم

ـ هي المجلة شهرية؟ قصدي بتطلع امتى؟

ـ (لحظة صمت) أول الشهر

ـ أول الشهر بالظبط؟

ـ ...

ـ ممكن أقابل حضرتك؟

ـ طبعاً، أو ترسل ما تريد بالإيميل؟ عايز تنشر كتاب ولا قصة؟

ـ عندي حاجات كتير. أقدر أقابلك امتى؟

ـ بكرة الساعة 1.

ـ الساعة 1 الضهر

ـ ...

انتهت محادثة منحني الله فيها الصبر، وأنزل عليّ السكينة. ولم يتصل مرة أخرى، ولم يتفضّل بلقاء، أو يتكرم بإرسال قصة أو كتاب، ولا أعرف الآن من يكون، وكفى الله القراء "كتابة" تدلّ عليها دردشة صاحبها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image