"كانت رحلة العودة صعبة... إجراءات كثيرة، وتوتر أكثر، وللمرة الأولى لم أكن أعلم ما إذا كنت سأعود إلى هناك، أم لا. فصحيح أن المستقبل بيد الله، لكنه هذه المرة بيد المسؤولين أيضاً". هكذا عبّرت سميرة، وهي عاملة مغربية في إحدى الضيعات الإسبانية عما يجول في خاطرها عن مخلفات الأزمة السياسية بين وطنها المغرب، وبلد هاجرت إليه بحثاً عن فرصة عمل براتب محترم.
عودة حزينة
سميرة (42 سنة)، والتي تتحدر من مدينة بني ملال، هي واحدة من بين 630 عاملة مغربية عدن إلى المغرب عبر رحلة من ميناء الجزيرة الخضراء "قادس"، إلى ميناء المتوسط، وذلك تزامناً مع استبعاد الموانئ الإسبانية من قائمة المعابر البحرية الرابطة بين المغرب وإسبانيا ضمن عملية استقبال المهاجرين، والتي يُطلق عليها "مرحبا".
رحلات عودة سميرة، وزميلاتها العاملات، جاءت حسب صحيفة "بوبليكيو" الإسبانية، بعد اتفاق بين المغرب وإسبانيا يقضي بإجراء أربع رحلات في الأسبوع بدءاً من منتصف شهر حزيران/ يونيو، وتموز/ يوليو، وتؤكد العاملة الأربعونية لرصيف22 أن السلطات الإسبانية أخدت أمر نقلهم بـ"جدية أكثر"، إذ تم توفير وسائل نقل مجهزة، "بل ومنحت لبعضهن حوافز مالية من أصحاب الضيعات".
تخشى العاملات الزراعيات المغربيات في إسبانيا أن يتحولن إلى حطب يحترق في نيران الأزمة الدبلوماسية بين الرباط ومدريد
وتضيف المتحدثة، التي تم إخضاعها، وبقية العاملات، لفحوصات كورونا في مستشفى خوان رامون خيمينز، أو في وحدات صحية متنقلة وفرتها جمعيات مهنية: "أنا ابنة منطقة تختص بالفلاحة والزراعة، وأتقن كل عمل مرتبط بالأرض والضيعات. قررت العمل في إسبانيا لأن الرواتب هناك جيدة مقارنة بما يتم منحه لنا في بلدنا، فعلى الرغم من الغربة، والحنين إلى العائلة، و"سير وجي" (اذهب وعد)، إلا أننا فخورات بأنفسنا، والأهم بالعمل الحلال".
وعن أوضاع العاملات المغربيات في حقول جني الفواكه الحمراء، وبالأخص فاكهة الفراولة في حقول الجنوب الإسباني في إقليم الأندلس (منطقة هويلفا)، ضمن برنامج التوظيف الخاص للعمل الموسمي، واللواتي بلغ عددهن حوالي 12،700 خلال 2020، وذلك حسب صحيفة "الباييس"، تقول نعيمة لرصيف22: "كانت الأمور بخير طوال الموسم، خاصة عقب أزمة اليد العاملة في فترة الحجر الصحي، وانتشار فيروس كورونا، وحاجتهم إلينا. إلا أنه وبمجرد بدء الأزمة بين البلدين، بدأنا نسمع أخباراً من هنا وهناك عن إمكانية استبدالنا بعمال من بلد آخر، وهو ما جعل مستقبلنا غير مضمون، وعلى كف عفريت".
وعلى الرغم من أن متتبعي العلاقات المغربية الإسبانية كانوا يؤكدون "فتورها"، خاصةً عقب تأجيل زيارة رسمية لرئيس الوزراء الإسباني، لأكثر من مرة، وبأوامر ملكية حسب ما أشارت إليه تقارير صحافية متفرقة، بسبب أن الملك محمد السادس لا يحمل الود لبيدرو سانشير منذ عام 2011، عندما وصف الأخير، والذي كان مراقباً للانتخابات التشريعية في المغرب، ممثلاً لمنظمة المعهد الديمقراطي الدولية (غير حكومية)، الانتخابات بأنها غير ديمقراطية، إلا أن علم المخابرات المغربية باستقبال زعيم البوليساريو إبراهيم غالي، جعل الأزمة بين البلدين تشتد، وتتحول من أزمة دبلوماسية صامتة، إلى أزمة أبطالها وزراء وسفراء.
أزمة دبلوماسية
نعيمة تقول إنها، والمئات من المهاجرين المغاربة في إسبانيا، تابعوا أولاً بأول مستجدات الأزمة "في نشرات الأخبار، ونتبادل الروابط لمقاطع فيديو ومقالات تكشف جديدها. ونساعد بعضنا في فهم الأمور والترجمة، فرزقنا في إسبانيا، ويهمنا أن تكون الأمور جيدة".
وفي السياق نفسه، يوضح الفاعل عبر الجمعيات في منطقة الأندلس عبد الحق بنعبدون أن "إسبانيا بالنسبة إلى البعض بلد أوروبي جار، لكنه بالنسبة إلى عاملات الضيعات المغربيات بلد أنقذهن من البطالة، والراتب الذي يتقاضينه يساعدهن في إعالة أسرهن، والشائعات التي كانت تتحدث عن قطيعة بين البلدين مع بداية الأزمة، جعلت البعض منهن في حالة نفسية سيئة".
انعكست الأزمة على أوضاع العاملات المغربيات في المزارع الإسبانية. هل تفسد السياسة مصدر رزق نسوة يعملن بعرق جبينهن؟
ويضيف بنعبدون في حديثه لرصيف22: "صحيح أن الأزمة السياسية قد تلقي بظلالها على الجانب الاقتصادي، لكن أظن أن منطق المصالح سينتصر في نهاية المطاف. الضيعات هنا تحتاج إلى العاملات المغربيات، وعلى الرغم من أن إسبانيا وقّعت في أيار/ مايو اتفاقية مع الهندوراس، الهدف منها جلب عمال فلاحين للعمل في المزارع والحقول، إلا أننا لم نتوصل بعد إلى أي إشارة من المهنيين تشير إلى إمكانية التخلي عن اليد العاملة المغربية، فهي منظمة بمقتضى اتفاقية ثنائية وقعها المغرب وإسبانيا سنة 2001، وبمقتضاها تم التفاهم على تيسير سفر عمال زراعيين موسميين، للعمل في جني محاصيل الفواكه".
ويختم حديثه: "لا أظن، ومن منطلق خبرتي، أن الإسبان سيعجبون بعمل العمال الجدد. العاملات المغربيات يتميزن بالانضباط، ولهن خبرة في المجال، ورواتبهن أقل".
هل تنتصر المصالح؟
وكان الموقع الإسباني booth popoli قد نشر تصريحاً لممثل المزارعين الفيدراليين الإسبان يؤكد فيه أن السبب الحقيقي لتوقيع اتفاقيات مع هندوراس والإكوادور، هو تأزم العلاقات مع المغرب، و"غموضها" في الفترة الأخيرة، ملمحاً إلى عدم التزام المغرب، إذ "نطلب منهم 20 ألف عامل، ويأتي 14 ألف فقط".
ويرى المحلل الاقتصادي مهدي فقير في تصريح لرصيف22، أنه لا يمكن الحديث عن قطيعة اقتصادية بين المغرب وإسبانيا كون الأخيرة هي الشريك التجاري الأول بالنسبة إلى المغرب، مع رقم مبادلات تجارية يعادل 15 مليار دولار، والمغرب هو بوابتها الوحيدة، والأقرب إلى إفريقيا، بالإضافة إلى استقرار أكثر من ألف شركة إسبانية على الأراضي المغربية.
"لا أظن، ومن منطلق خبرتي، أن الإسبان سيعجبون بعمل العمال الجدد. العاملات المغربيات يتميزن بالانضباط، ولهن خبرة في المجال، ورواتبهن أقل".
وأشار فقير إلى أن الحديث الذي تدور رحاه حول أن عاملات الضيعات، أو المهاجرين، سيكونون الخاسر الأكبر خلال هذه الأزمة، قفزٌ على الاستنتاجات، فالعلاقات بين البلدين ليست بعضاً من كل، وإنما هي كل من كل.
وتوقع المتحدث أن الأزمة ستجد طريقها إلى الحلحلة، خاصةً أن الأزمات المتوسطية هي أزمات قصيرة الأمد، ولعل أبرز مثال على ذلك، أزمة تركيا واليونان، لأن المصالح بين هذه البلدان أكبر من أن تتأثر بشكل دائم.
بدوره قال أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية الحسن أشهبار، في تصريح لرصيف22، أن الأزمة لم تكشف بعد عن أسرارها كلها، "في ظل موقف إسباني أصبح يميل إلى إظهار العداء للمصالح العليا للمملكة، خاصةً بعد أن اعترفت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادة المغرب على الأقاليم الصحراوية. وهو الموقف الذي لم تستسغه الدولة الإسبانية، التي تخشى أن يؤدي تزايد الدعم الدولي للوحدة الترابية للمملكة، وإنهاء النزاع المفتعل حول قضية الصحراء، إلى انخراط المغرب بشكل رسمي في سيرورة استرجاع سبتة ومليلية المحتلتين".
وأوضح أشهبار أن مستوى التوتر الذي وصلت إليه العلاقات المغربية الإسبانية، هو حصيلة منطقية لتراكم مجموعة من الملفات، لعل من أبرزها الخلافات ذات البعد الاقتصادي، فالبلدان يرتبطان بعلاقات اقتصادية إستراتيجية، تجعل من إمكانية تصور القطيعة بينهما أمراً مستبعداً جداً، إذ يكفي أن نشير إلى أن المغرب يحتضن السواد الأعظم من سفن الأسطول الإسباني المتحرك في دول العالم النامي، وتصل كلفة عملية إعادة هيكلة هذا الأسطول في حالة رفض المغرب تجديد توقيع اتفاقية الصيد البحري معها، إلى مليار و760 مليون يورو. في المقابل، يتخذ الحضور الاقتصادي الإسباني في المغرب أوجهاً عدة، إذ تُعدّ إسبانيا ثاني زبون، وثاني مستورد بالنسبة إلى المغرب، غير أن الرابح من المبادلات التجارية البينية هي إسبانيا في ظل وجود عجز تجاري مهم لصالحها. وتُعدّ إسبانيا ثاني مصدر للسياح الأجانب القاصدين المغرب، ومصدراً مهماً لتحويل العملة الصعبة من العمال المغاربة المقيمين فيها. لكن الشيء الواضح، هو أن المغرب له من الأدوات والأسواق البديلة ما يسعفه على تجاوز الآثار المحتملة التي قد تترتب عن اتخاذ إسبانيا إجراءات اقتصادية انتقامية ضد المغرب، كلها، لعل أهمها السعي الصيني الحثيث للتواجد بقوة في سوق الصيد البحري المغربي، وهو ما يمكن للمغرب استغلاله للضغط أكثر على إسبانيا، كما أن المنتجات المغربية أصبحت موجودة بقوة في مختلف أسواق العالم، خاصةً في إفريقيا وروسيا، مستفيدة من سياسة تنويع الأسواق التي انخرط فيها المغرب، تماشياً مع الديبلوماسية الجديدة التي أسس لها الملك محمد السادس".
لكن خارج حديث السياسة، تعوّل العاملات في المزارع على المستجدات الأخيرة، ومن ضمنها إعفاء وزيرة الخارجية الإسبانية من مهامها خلال تعديل حكومي، وبعث إشارات عدة من طرف مدريد لإعادة مدّ الجسور بين الجانبين، فالأزمة لن تؤدي إلا إلى خسارات للطرفين، وقد يتحول العمال المغاربة في الضيعات الإسبانية إلى حطب في نيران التصعيد بين المملكتين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...