شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ننشد تغيير الحال، ماديين كنا أم مثاليين

ننشد تغيير الحال، ماديين كنا أم مثاليين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 14 يوليو 202111:35 ص

يروي الأجداد والجدات في الأرياف السورية منذ زمن بعيد حكاية تختصر الكثير في فهم الحياة، وتنتقد بصورة بسيطة وواضحة طريقة التعاطي المثالي معها، لتؤكد في النهاية أن الحياة صراع ينبغي خوضه مع الناس، وبينهم، ومن أجلهم، بعيداً عن الأبراج العاجية.

تقول الحكاية التي رواها العديد من الأدباء في سياق كتاباتهم أيضاً: ذات يوم، افترق أخوان يبحثان عن الصفاء والكمال. نزل أحدهما إلى المدينة، وصعد الثاني إلى الجبل حيث جلس يتعبّد ويتأمل حتى صفت روحه، واستطاع القيام بالمعجزات. وذات يوم، قرر أن يطمئن على أخيه، وعلى الدرجة التي وصل إليها من الصفاء والنقاء والسمو والكمال. فنزل من الجبل إلى المدينة. ولم ينسَ أن يأخذ له معه سلّة من القش عبأها بالماء؛ "معجزة"، ليعرضها على أخيه. وحين وصل إلى المدينة، رأى أخاه وقد تزوج، ورُزق أولاداً، وهو يتعامل مع الناس: يبيع، ويشتري، ويجادل، ويتشاجر. رحّب المقيم بأخيه الزاهد صاحب المعجزة، وطلب إليه أن يجلس مكانه ريثما يُبلغ أهل البيت بمجيئه، ليهيئوا له غداءً لائقاً. ولم ينس أن يعلّق السلة في صدر المكان، فوق مقعد الجلوس. جلس الزاهد مكان أخيه، فجادل هذا، وساوم ذاك، وتشاجر مع الثالث، ورأى وجه الرابعة، ومسّت يده يد الخامسة. فامتلأ صدره من الغضب، والطمع، والشهوة. ولم يحس إلا والماء يتسرّب من السلة على رأسه، ليذكره باختصار بأن النقاء هو ما توصل إليه هنا، وسط "المعمعة"، وليس هناك في رأس الجبل.

أما المادية التي تقول بأولوية المادة على الوعي، فتنظر إلى أخلاق الناس بوصفها انعكاساً لواقعهم المادي والاجتماعي، ولذلك فهي تدفع أصحابها للبحث والعمل، لا في السماء، بل على الأرض

هنا تنتهي الحكاية التي تُعدّ في نظري مفتاحاً لطرح العديد من التساؤلات الفلسفية والوجودية في جانب منها، والتي ترتبط في الوقت ذاته بالحياة اليومية والسياسية للناس، ومناقشتها. ومن تلك الأسئلة ليكن هذا مثلاً: ما الفرق بين المثالية والمادية في التعاطي مع الحياة؟ واستناداً إليه؛ ماذا عن الأخلاق؟ كيف تتغير؟ وما هو مصدرها؟

في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، سنتطرق قليلاً للحقل الفلسفي في المعرفة، ولكن من بابه الأوسع والأبسط، بعيداً عن اللغو غير المفهوم، أو "السفسطة". لمن لا يعرف، فإن السؤال الأساسي في الفلسفة يتكون من شقين؛ ما يعنينا هنا هو الشق الأول منه والذي يقول: من يكون أولاً المادة أم الوعي؟ عند الإجابة على هذا السؤال، انقسم الفلاسفة إلى تيارين؛ أحدهما نادى بأولوية الوعي على المادة، وهو ما سُمي لاحقاً بالتيار المثالي، وإليه يعود القصد عند الحديث عن المثالية، ومن أبرز دعاته الفيلسوف الألماني هيغل. والتيار الآخر هو التيار الذي قال بأولوية المادة على الوعي، والذي يُعرف اليوم بكونه التيار المادي، وعلى أساسه نشأت النظرة المادية إلى الحياة، وكانت بدايات هذا التيار على يد الفيلسوفين الإغريقيين أبيقور، وديموقريط.

في الحقيقة، ينعكس الفهم المادي، وكذلك المثالي للحياة، في الحديث عن أي تفصيل حياتي، صغيراً كان أم كبيراً، وعلى أساسه يتم التوصيف، والتقييم، وتُحدد المشكلات والحلول لظواهر الحياة الطبيعية والإنسانية كلها.

"ننشد الشيء نفسه: تغيير الحال. لكن أمي كانت تطلبه في السماء، وأنا أطلبه في الأرض"

بالعودة إلى الأسئلة المطروحة، فالمثالية ترى أن المادة (الواقع الموضوعي) هي نتاج الوعي. ولذلك تعتقد بأن الظرف السيء الذي يقبع في ظلّه إنسان اليوم، هو بسبب أخلاقه، وقصر وعيه وفهمه. وعلى هذا الأساس تزعم المثالية بإمكانية تغيير العالم من خلال تغيير وعي الناس، وأخلاقهم، وما في نفوسهم. ولتحقيق هذا الأمر تلجأ إلى قوى غيبية خارج الطبيعة، وتبني جميع آمالها عليها، ما يجعلها تدفع أصحابها عند حدودٍ ما للزهد الكامل بهذه الحياة، والاعتكاف بعيداً عن الناس، والانصراف الكامل لقراءة النصوص، والآيات، والأحاديث الدينية، والاكتفاء بالدعاء والتوسل، راجين من الآلهة أن تغير الحياة والناس، وأن تحسّن ظروف معيشتهم.

أما المادية التي تقول بأولوية المادة على الوعي، فتنظر إلى أخلاق الناس بوصفها انعكاساً لواقعهم المادي والاجتماعي، ولذلك فهي تدفع أصحابها للبحث والعمل، لا في السماء، بل على الأرض، وفي هذا الواقع بالتحديد، من أجل تغييره، وتحسين ظرف الإنسان وحياته، وتالياً تحسين أخلاقه في نهاية المطاف.

يحضرني الآن ما قاله الأديب السوري الراحل حنا مينة في أحد حواراته: "حين كانت تسألني أمي ماذا تكتب يا حنا؟، كنتُ أكذب عليها وأقول: قصة القديس بولس، فترسم الصليب على صدرها وتقول: يتمجّد اسمه، برافو، لا تنسَ أن تطلب منه أن يغيّر حالتنا التعيسة. وهكذا كنتُ وأمي ننشد الشيء نفسه: تغيير الحال. لكن أمي كانت تطلبه في السماء، وأنا أطلبه في الأرض". هذا هو الحال في الحديث هنا؛ إذ يتفق التياران المادي والمثالي اليوم على ضرورة تغيير حالة الإنسان، وتحسين ظروف معيشته، إلّا أنهما يختلفان جوهرياً في طريقة تغيير هذا الحال، ويختلفان أيضاً على الأدوات اللازمة لمثل هذا التغيير. في الوقت الذي ينادي فيه المثاليون الآلهة، ويتضرعون إليها، لا بد من التأكيد مجدداً على ضرورة أن ينظم الناس صفوفهم، وأن يوحدوا كلمتهم ليعلو صوتهم، ويحصّلوا حقوقهم في العيش الرغيد، و"ألا يرتدّوا حتى يزرعوا في الأرض جنّتهم".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard