يردد الناس في بلادنا أمثالاً مشفوعة بجُمل تعظم من شأن المال، مثل "المال معادل الروح"، و"اللي معاه قرش يساوي قرش"، و"هين قرشك ولا تهين نفسك"، ويردد كثير من الرجال بخشوع "المال والبنون زينة الحياة الدنيا"، ولكن ماذا يحدث عندما تختل المنظومة المالية لدينا، وكيف نتحول نفسياً واجتماعياً جراء هذه الأزمة، وكيف تصبح الحياة في ظل عدم الاستقرار المالي، خاصة عند الرجال، الذين يواجهون ضغوطاً نفسية أكبر في حال فشلهم.
يضحك عمار، عمل سابقاً إدارياً في شركات تسويق بمصر والسعودية، وهو عاطل عن العمل هذه الأيام، يسكن في مدينة بإحدى محافظات الدلتا المصرية، عندما يتذكر صديقه، ورفيق جلسات المقهى اليومية، كيف غيرته البطالة، وجعلته مبدعاً في اختراع أكاذيب وحججاً لا أصل لها، محافظاً على تمثيلية يلعب فيها دور الناجح و"النجم" بين أصدقائه.
يقول عمار: "صديقي لا يملك مليماً واحداً، ولكنه تمكن من نحت صورة لنفسه كبيرة ومهمة بالمظهر والقصص الكاذبة، يوهمنا أنه يعمل في مكان ما، وناجح، وهو يقترض كل يوم من أهله".
ما يضحك عمار أن صديقه هذا قرر أن يتزوج دون أن يدفع شيئاً، فأقنع أصدقاءه القادمين من أوروبا والخليج أنه سيقترض بعد أيام من البنك، ويحتاج إلى بعض المال لمشروع كبير، وبالفعل لم يترك صديقاً إلا وقال له نفس الحديث، حتى تمكن من جمع ما لا يقل عن ثلاثة آلاف دولار، وفوجئ الجميع بيوم عرسه.
الكثير من أصدقائه العاطلين لوقت طويل عن العمل، باتوا مبدعين في اختراع قصص وأحاديث كاذبة، يؤدون فيها دور البطل الناجح و"النجم"، مما دفع الموسرين إلى الانعزال عنهم، بل وأحياناً وصمهم اجتماعياً وأخلاقياً
يشدد عمار (38 عاماً) على أن الكثير من أصدقائه، لا سيما العاطلين لوقت طويل عن العمل، باتوا مبدعين في اختراع قصص وأحاديث كاذبة، الغرض منها الاقتراض، مع نية عدم الرد، وأن علاقات عائلية وصداقات انهارت لهذا السبب، الذي يبدو تافهاً، بل دفع العديد من أصدقائه الموسرين إلى الامتناع عن المساعدة، والعزلة اجتماعياً عن الأشخاص المتضررين مالياً، أو العاطلين، بل وأحياناً وصمهم اجتماعياً وأخلاقياً.
"أفكر في الانتحار"
على العكس من صديق عمار، يفكر سعيد رشدي (45 عاماً) من غزة، في الانتحار، وهو يجلس في قاعة الانتظار لدى الطبيب النفسي، ملابسه قديمة ولكنها نظيفة وأنيقة، وعليه علامات ثراء قديم.
وقف يتحدث معي خارج باب العيادة، قائلاً: "أنا هنا اليوم لأني أفكر في الانتحار، وهو حل غير منطقي، لكنه يراودني بعدما تعرضت لضائقة مالية جعلتني بين ليلة وضحاها مديوناً، لدرجة أصبحت أتهرب من الناس، ومن الدائنين، ولا سبيل للخروج من هذه الأزمة سوى الطبيب النفسي".
وأضاف: "أصبحت شخصاً آخر، لم أكن أتخيل يوماً أن النقود ستكون سبب تعاستي، فقد خسرت تجارتي بسبب الحصار المفروض على غزة، وكبار التجار أصبحوا يطالبون بحقوقهم المالية، والتي بسببها وصلت إلى السجن، وخرجت بكفالة، وها أنا قد أعود للسجن مرة أخرى".
"أنا أعي تماماً أني أهرب من المشكلة بتناول العقاقير المهدئة، ولكن هو السبيل الوحيد للمواجهة. لا أقوى على نظرة الناس لي، وتهربي منهم، وانعزالي الدائم"، ينهي رشدي حديثه لرصيف22.
محمد السوسي (64 عاماً) من مصر، هو الآخر يفكر في الانتحار، فلم تترك له ضائقته المالية سبيلاً آخر، بحسب رأيه بعد أن أنهى عمله كمهندس في ألمانيا وعاد إلى بلده، وعُيّن موظفاً في شركة صغيرة.
ما غيّر حياته هو تجربة مرض والدته، اضطر للاستدانة من صديق موسر، ويوماً بعد يوم زادت الديون، وزادت النفقات، والحاجة للمال، يقول: "حياة أمي هي الأهم.
دخلي الشهري لا يكفيني، والنتيجة أنني خسرت صديقي الذي أعطاني النقود بعد خلاف نشب بيننا حين طالبني بالتسديد ولم أستطع، والنتيجة أني أعيش العزلة والهروب، وأحياناً أفكر في الانتحار".
وهكذا يجد الإنسان نفسه في دوامة من المشاكل المالية التي تخلق منه شخصاً آخر، فتجده لا يخسر نقوده فقط بل المقربين منه أيضاً، وتبدأ دائرته الاجتماعية بالتقلص شيئاً فشيئاً، وتتأثر نفسيته باضطرابات قد تودي به إلى الهلاك.
"نقودي وزوج ابنتي"
"اتصل بي زوج ابنتي يريد مني مبلغاً من المال بسبب ضائقة ألمت به وعلى الفور أمنت له المبلغ ولكن دون أن يعطيني سقفاً زمنياً للتسديد، وبعد أربعة أشهر تعرض ابني لحادث، واحتجت للنقود فما كان مني إلا أن اتصلت بابنتي لتخبر زوجها بالأمر وأني بحاجة للمبلغ"، يقول سهيل انشاصي (53 عاماً) من سوريا.
ويضيف: "هنا كانت الكارثة، فلم يكن زوج ابنتي مستعداً للتسديد، وبدأت الخلافات تشتعل بينه وبين ابنتي التي يرقد أخوها في المستشفى بين الحياة والموت، الأمر الذي وصل إلى الطلاق، ولم أحصل على نقودي".
وينصح انشاصي الجميع بالقول: "خسرت نقودي وزوج ابنتي نتيجة التعامل بالدين، فالمال ليس سبباً للسعادة بل للتعاسة أحياناً كثيرة".
يعلق حسام أبو شريعة (45 عاماً)، أخصائي نفسي واجتماعي من الضفة الغربية، على تأثير الضائقة المالية على الإنسان نفسياً واجتماعياً: "قد يتعرض الإنسان لأزمات في حياته تؤثر على آدميته، وأصعب هذه الأزمات هي الأزمة المالية والعاطفية، فنجده يصاب بأمراض نفسية، منها التوتر وتشتت الذهن والقلق، ومن ثم الأرق لأنه لا يقوى على مواجهة ما حدث أو مواجهة الناس الذين تعودوا على أسلوب معين، كما يعيش محصوراً في إطاره الشخصي".
ويتابع: "عندما يكون الشخص مفصولاً من العمل أو مثقلاً بالديون فإن شعوره بالإحباط أو القلق استجابة طبيعية، لأن فقدان العمل يؤثر على الزخم النفسي، والظروف المالية بدورها قد تسبب الشعور بالضغط العاطفي، الذي يعتبر شعوراً إنسانياً شائعاً، وقد تدعو الظروف المالية إلى التفكير أو التصرف أو الشعور بطريقة غير مألوفة، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الشخص يعاني من الاكتئاب أو من اضطراب القلق".
"جهاز المناعة يضعف"
يقول أسامة الكردي، طبيب عام (55 عاماً) من الأردن: "إن التوتر الناجم عن الوضع المالي يؤدي إلى تبعات وآلام في الجسم، كما يؤثر على عمل الجهاز المناعي، فيصبح الإنسان أكثر عرضة للإصابة بالأمراض، كما أن المرء الذي يتعرض للإجهاد والضغط من جراء التفكير في المال، يعاني من تراجع في تدفق الدم على مستوى عدة مناطق في الدماغ".
ويضيف: "الشخص الذي يمر بأزمة مالية، لا يفكر كثيراً في العواقب المستقبلية، لأن الأهم بالنسبة له هو الخروج من المأزق".
"لم يكن زوج ابنتي مستعداً للتسديد، وبدأت الخلافات تشتعل بينه وبين ابنتي التي يرقد أخوها في المستشفى بين الحياة والموت، الأمر الذي وصل إلى الطلاق، ولم أحصل على نقودي"
ويوصي المختصون بنصائح تفيد في التعامل مع الضائقة المالية، فيقول إبراهيم عياد، مختص علاقات اجتماعية: "يجب أولاً الابتعاد عن التوتر، والضغط العصبي، والانفعال. فكل هذه العوامل تؤثر عليك نفسياً".
ويصيف: "إذا استطعت بيع شيء من ممتلكاتك الثمينة لتجاوز هذه المرحلة فلا تتأخر في ذلك، خاصة إذا كنت تاجراً، فسمعة التاجر بين الموردين والموزعين تقوم مقام عقد العمل، كذلك عليك استثمار وقتك وجهدك وخبرتك في تحقيق دخل إضافي خلال فترة الضائقة المالية التي تعانيها لسداد المستحقات المالية".
"كما عليك التوفير، وتقليل المصروفات قدر المستطاع، لا تشترِ الكماليات، وأجّل المشاريع الترفيهية الخاصة بك على الأقل إلى ما بعد دفع المستحقات المترتبة عليك"، ينهي عياد حديثه لرصيف22.
تذكرت وأنا أكتب نصائح عياد أن المال الذي تربينا على أنه "زينة الحياة الدنيا"، قد يكون لعنتها التي يصعب على بعضنا، خاصة في أوقات الأزمات، والاضطرابات الاقتصادية، الخروج منها سليماً معافى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع