مجاز الحلم، مجاز النائم في هوى المنحدر
أتذكر لقاء لا ينسى بيننا، ملؤه الشغف والفوضى، وكان في حضرة بهاء طاهر ويوسف زيدان. الأمر لا يبدو رومانسياً أبداً، لكنه كان قادراً على خلق حالات من الروعة والجدل.
كان يحمل معه رواية "خالتي صفية والدير"، ينظر نحوي بعمق وبابتسامة شقية شغوفة، ويده الحريرية تداعب يدي. يتحدّث عن الشراسة التي تولد في حضرة الجمال، عن الشرّ الذي يكمن في روعة الأوقات، عن جنون امرأة تدرك كم هي جميلة وكم هي مجروحة، يتأمّل عمق عيني ويصف صفية "أجمل بنات القرية" وكيف تنتقم من رجل اسمه حربي، خطيئته أنها وقعت في حبه دون علمه، وعنفوان جرحها الذي سالت منه دماء صبغت تفاصيل رواية تقترب من مئة صفحة.
لم أقرأ الرواية، ولم أتذكر أحداث المسلسل الذي اقتُبس منها، لكنني أتخيل صفية الجميلة المجروحة، والذي استطاع أن يجسّدها أمامي وهو ينقر بأصبعه على بطن يدي، ليخيطني إليها، ويجرّني نحوها لنرتدي معاً جسداً دامياً. ولا أعلم حتى الآن إن كان هناك رابط حقيقي بيني وبينها أم أنها مجرد حياكة وهمية لأعيش مع أبطال حكاية أحببتها، لأنني أحب الحكايات وأقدّس قيمة التجربة. وقد أدرك هو ذلك.
اعتدلت في جلستي لأخبره وعيناي تلمعان بأنني مفتونة بشخصيات رواية "عزازيل" وبتحفّظ كبير ودون التطرّق لتفاصيل الرواية أو الشخصيات حتى لا يتهمني بالسطحية أو الوقاحة والجرأة وانعدام الحياء. أخبرته بأنني لمست تفسيراً يبدو منطقياً لتناقضاتي وحيرتي، من خلال مسيرة الراهب هيبا، منذ أن خرج لدراسة الطب واللاهوت، وصراعه النفسي حول العقيدة والمجتمع، حتى قرر أن يخرج من الدير ويتحرّر من جميع مخاوفه.
أعطاني كأساً من النبيذ الأحمر، وقال لي وهو ينظر في عينيّ بشكل مباشر: "أوكتافيا، اسقني أطيب نبيذ سكندري، فأخذت خده الأيمن على نهدي الأيسر، وسكبت النبيذ على فمه وأغمضت عيني لأشعر بكل شيء أكثر... مجاز في رصيف22
رفع حاجبيه وبنصف ابتسامة وغرور قال: "أنا لا يفتنني هيبا ولا صراعاته تعنيني، ولا انبهاره بهيباتيا كمعلمة ومفكرة يثيرني. حتى حزنه عليها لم يدم داخلي"، ثم خفض صوته واقترب من وجهي وهو يقول: "أحببت المرأة الوثنية أوكتافيا، خادمة السيّد الصقلي التي لقيت هيبا الراهب صدفةً عند البحر، وأدخلته جنتها ثلاث ليالٍ"، وبواقعية وبشاعرية وبسريالية، كانت تفاصيل حكاية هيبا وأوكتافيا تتجسّد أمامي، فشعرت حينها أنه غراب قابيل الذي أُرسل إليّ ليعلمني كيف أبحث في الأرض لأواري سوأتي، أو ما تستطيع الحياة إقناعي بأنه سوأة.
ابتسمت وفي داخلي تضطرب تفاصيل شخصيات نساء الحكاية، واضطراب أفكار هيبا وصراعه مع عزازيله. رأيت عزازيلي مقتولاً على طاولة النقاش هذه، رأيت عزازيلي بقضيب مرتخ ووجه مستسلم. وجعلني هذا لا أخشى نظرته أو أفكاره أو أذيته أو أي شيء، عدت لنفسي القديمة الحرة التي لا تخشى سوى أن تكون غير حقيقة، فرحت ألوّح بربطة عنقي لكل شيء أخافني حد السجن.
وفي آخر تلك الليلة، وعبر نسمات الفجر المنبعثة منها رائحة الملح والماء وتاريخ الإسكندرية، قصّ الفصل الرابع من رواية "عزازيل" والمدوّن باسم "غوايات أوكتافيا". كان يتأمل انضمام نهدي ويتحسّسهم من فوق سترتي المكشوفة، ويتأمّل عيني ليتأكد بأن فتنته بي ملأتني، يهمس بأذني بوهن بالغ: "خلق الله نهود النساء كي يرضعن بها، فلأي سبب آخر خلق هذين النهدين!".
أظن أنني توقفت عن التنفس لحظتها، وعن الألم والتفكير، واختفت من ذاكرتي تجربتي السابقة التي جعلتني أبتعد عن الجنس والرجال، بعدما اعتبر حبيبي الأول طلبي تقبيله إثماً وعاراً لا يليق بامرأة "عفيفة". عشت سنوات تحت وطأة هذا الذنب والخشية من تكراره. أتخبط بين الحب وسطوة المجتمع أرهق دماغي في البحث عن وسيلة للتحايل حتى أجمع بين الاثنين. عاد يتحسّس جسدي وهو يقبّل عنقي ولسانه يقيس المسافة من أذني حتى أسفل خدي، ثم يسكب سؤاله عن نهديّ مرة أخرى في أذني الثانية بوهن أكبر.
عدت للحياة مع تكرار سؤاله، وكنت غير قادرة على القيام بأي رد فعل، أئنّ فقط وأنتظر ما فعله هيبا بنهديّ أوكتافيا، بعدما سأل نفسه نفس ذات السؤال، وهو يراقب انضمام نهديها. أنا أيضاً أحفظ الفصل الرابع جيداً، وكان لي ما كان لأوكتافيا.
أعطاني كأساً من النبيذ الأحمر، وقال لي وهو ينظر في عينيّ بشكل مباشر: "أوكتافيا، اسقني أطيب نبيذ سكندري، فأخذت خده الأيمن على نهدي الأيسر، وسكبت النبيذ على فمه وأغمضت عيني لأشعر بكل شيء أكثر.
قَوّادة لغراب قابيل
ظللنا في لعبة غوايات أوكتافيا وألعاب أخرى شهوراً وشهوراً، وبعيداً عن الغواية والجنس والقبلات التي كنا نقتطف جمالها من فوق جلود الأشياء، من بين الظلمة والتعرّق والقبلات واللهاث المتحرّق. كنت أشعر بالتعب والضياع، وبشيء من فقدان الهوية الجزئي، وعدت أغرق في ظلمة بطن حوت: من أنا ومن أكون وما الذي أريده؟ أدركت جيداً أنه قوّاد يتاجر بأحلامي لينتشي ويسعد، وليصبح كبير سوق النخاسة الذي ولّى زمانه. كنت أشعر بأن أحلامي تترامى أمامه وتتراقص كعاهرات محترفات، وهو يختار أكثرهن بريقاً وأشدهن التماعاً، ليبيعها في سوق نخاسته.
كان يحب الشعر جداً وكنت أكره الشعر جداً ولا يجمعني به سوى مناهج المدرسة العقيمة، وفي عيد ميلاده، قرّرت أن أحاكي قصيدة يحبها لبدر شاكر السياب اسمها "غريب على باب الخليج"، ورغم كارثية وسوداوية قصيدة السياب، إلا أنني قررت كتاب قصيدة تشبهها لكن بشيء من الفرح والإثارة يناسبان احتفالنا بذكرى ميلاده، فشبّهني يومها بمي زيادة.
قال لي إنني جميلة ومثقفة، لكنني لا أصلح كشاعرة، وكلامي الجميل لا يمكن أن يكون شعراً، فقلت له بغضب: وأنت مثل جبران خليل جبران، تحبّه مي زيادة وتترك كل رجال واقعها لأنه مجرد حلم، ترسل جرعاته الوردية عبر رسائل آتية من نيويورك، تقصّ عليها حياته التي لا يمكن لها أن تعيشها معه في أي يوم مهما عشقتها، وكان هذا أول حوار حاد يحمل رسائل غير مباشرة من العتاب والغضب.
كنت أستشيط غضباً من نفسي لأنني أتحمل ثلاث استعارات، لأني أضيف إلى جسدي جسد ثلاث نساء لأعجبه، وأنا بالكاد أطيق جسدي الذي أحمله، لأنني تطوّعت بشكل أحمق لأحقق أحلامه وليس أحلامي... مجاز في رصيف22
قالت لي صديقة ذات يوم بعد نقاش تحليلي: "أنت مسرّحة نفسك لحسابه"، أي أنني أتاجر بنفسي لأجله. شقّت جملتها قلبي، شعرت بأنني لعبة برمجها وتركها تنفذ أوامر إلى ما لا نهاية. في المساء اقتلعت الرموش المستعارة الكثيفة التي سببت مرضاً لجفوني لفرط استخدمها، ونزعت عن رأسي وصلات الشعر السوداء البلاستيكية المموجة، التي تعطي لشكلي الطابع الغجري الذي يهواه، ومزّقت بمقصي الشورت المبطن بالإسفنج الذي ارتديه تحت التنانير الضيقة، حتى يضيف لمؤخرتي استدارة أكثر، ويضيف لجلدي التهابات أكثر وأكثر.
كنت أستشيط غضباً من نفسي لأنني أتحمل ثلاث استعارات، لأني أضيف إلى جسدي جسد ثلاث نساء لأعجبه، وأنا بالكاد أطيق جسدي الذي أحمله، لأجل حلم أبله رأه بعد أن شاهد مسلسلاً مكسيكياً سخيفاً، قصّه عليّ بشكل عابر وبدون إشارة لشيء، لكنني تطوّع كأي حمقاء لأحققه. رأى في منامه الملعون فتاة بشعر غجري مموج أسود ورموش طويلة وكثيفة، تُرقّص مؤخرتها المرتفعة المستديرة على لحن سريع مجنون، داخل ثياب تشبه ثياب الهنود الحمر، بقرب موقد من النار فوقه قدر كبير يغلي بحليب يفيض حتى يطفأ الموقد مع انتهاء اللحن والرقصة، فيلحق بها إلى خيمة بعيدة.
بكيت وعدت أشعر بالغرق والاكتئاب والتيه. كان تسلطّي على ذاتي قد جعل بنات أفكاري وبنات جسدي وبنات مشاعري عاهرات لغراب قابيل. نعم عاهرات مؤجرات مدى الحياة بثمن بخس. ذنب يشبه ذنب الخيانة والقتل، أصبحت في حيرة مسمومة وبتّ لا أعلم إن كنت فعل هذا بدافع الحب أم بدافع الكره.
انتهت فصول حكايتنا مع الفصل الأخير من عرض مسرحي قامت بتقديمه فرقة مسرحية محلية أعمل كممثلة داخلها منذ سنوات، كان العرض مقتبساً عن رواية غادة الكاميليا، قدمت فيه الدور الأساسي، دور مارغريت أو المحظية مارغريت، كان له دور أيضاً في ذلك العرض، وقد تم اعتماده بناء على رغبتي وإلحاحي منذ وقت طويل، حين كان العرض مجرد اتفاق، فأُعطي له دور القسّ الذي من المفترض أن تقوم مارغريت، وهي تواجه الموت وحيدة بعدما تركت حبيبها بناء على رغبة والده، لأنها عاهرة لا تناسب مجتمعه "المخملي"، بالاتصال به لكي تعترف له بخطاياها قبل الموت.
وعندما يعلم القس أنه سوف يذهب إلى بيت بغي، يتردد ويتشتت كثيراً. وعندما يذهب ويمضي معها آخر ساعاتها، يخرج من بيتها قائلاً: "مارغريت عاشت عاهرة وستموت قديسة". وحين نطقها وهو في رداء القسّ وأنا ممددة بجواره ميتة، قرّرت أن تصبح الجملة وفكرة موتي من حياته حقيقة، بعد أن تسدل الستائر لتفصل بيننا وبين الجمهور، فلم أعد أطيق بعد الآن العهر وإن كان جزءاً من مسرح الحياة، وسيغرب عن وجهي وعن حياتي غراب قابيل وسأواريه إلى الأبد كما علمني أن أفعل مع سوءاتي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع