دقائق قليلة ويصدح ميكروفون المسجد، الذي يبعد عن منزلي بضعة أمتار، بالأذان. الجميع يستعدون لتلبية النداء، بينما أنا أحاول أن أشغل نفسي بأي شيء؛ أعبث بهاتفي، أو أسرح في خيالي، أو أبتعد قدر الإمكان إلى أي نقطة يصعب سماع الصوت فيها. ما يشغلني حينها هو الهروب، الهروب من صوت المؤذن، ومن علو صوت الميكرفون الممزوج بصافرات عشوائية تظهر وتختفي بسبب رداءة المعدات، حتى سئمت حالي، وسئمت أصوات المؤذنين.
إذا كنتَ من الملحدين، فلعلك وصلت إلى هنا أملاً في كسب صديق، أو الحصول على حُجة جديدة لتقنع بها هؤلاء الذين يعارضونك دائماً، ويحاولون ردك إلى الدين، وإقناعك بوجود إله. أما إذا كنت من المتدينين، فلعلك متواجد هنا أيضاً لمعرفة صاحب هذه الكلمات، لتحاول إنقاذه من طريق الإلحاد الذي ترى أنه على مشارفه. فرفقاً بي، وارفعوا أيديكم عن قلمي. من يعرفني من قرب، سيعلم أنني لست شخصاً متديناً، وأعدّ نفسي من الطيبين الذي يعرفون عن دينهم ما يرضيهم. أصلي وأصوم وأقرأ القرآن، وأستمع إلى الأغاني. أُبعد نفسي عن أي أسئلة تجرّني إلى التفكير في الذات الإلهية، وأحاول قدر الإمكان تجنب الشُبهات، وأخوض أحياناً في نقاشات توحي لك أني كافر بوجود الله. لكني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأؤمن بأن من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وأن لي رباً يعلم ما في قلبي، وسيحاسبني على ما أفعل، وليس على ما يراني الناس عليه، أو يظنونه بي.
كنت أجلس مع أحد الأصدقاء، فشكوت له نشاز أصوات المؤذنين، والمعاناة التي أعيشها، وما أفعله لإلهاء نفسي عن سماعه، وتأنيب ضميري، وخوفي من أن أكون مذنباً
يقع ميكروفون المسجد على بعد أمتار من شُرفة غرفتي. صوته عالٍ، وأحياناً مُزعج. وما يزيد الطين بلة، هي أصوات المؤذنين السيئة والناشزة. كما أن طريقتهم في قول الأذان غير صحيحة. لست أعلم على أي أساس عينتهم وزارة الأوقاف المصرية ليتولوا هذه المهمة؟ هل قامت بتوفير تدريبات لهم ليقولوا الأذان بطريقة صحيحة؟ من الواضح أنها لم تفعل، وكأنها توظف أصحاب الأصوات السيئة فحسب.
كنت أجلس مع أحد الأصدقاء، فشكوت له نشاز أصوات المؤذنين، والمعاناة التي أعيشها، وما أفعله لإلهاء نفسي عن سماعه، وتأنيب ضميري، وخوفي من أن أكون مذنباً. فضحك وأكد لي أنني لست وحدي، وأنه يعاني أيضاً من هذه المشكلة، وأنه حاول مراراً وتكراراً الحديث مع الموظف المسؤول عن المسجد الذي يسكن بجواره لإطلاعه على الطريقة الصحيحة لقول: "الله أكبر الله أكبر". حاول إقناعه بأن طريقته خطأ، ويجب تصحيحها. ردد الأذان أمامه حتى يرى الفرق. لكنه لم يستجب، بل أكد له أنه غير مخطئ. أصابني الذهول وعجزت عن الرد. تركت صديقي، ورحل كل منا إلى وجهته، وبقيت المعاناة.
سألت العديد من الأصدقاء والجيران، ووجدت أن بعضهم يعاني، والبعض الآخر لا يكترث. ومنهم من دعا لي بالهداية، والبُعد عن طريق الضلال. هل الحديث عن بشاعة أصوات المؤذنين ضلال يدعو إلى الخوف، والقلق علي؟ لم أخض نقاشات مع المعارضين لكلامي، واكتفيت بالصمت، والرحيل من أمامهم.
متى نشعر بقول النبي صلى الله عليه وسلم "أرحنا بها يا بلال"؟ متى أرتاح عند سماع صوت المؤذن؟
هذا الموضوع ليس وليد اللحظة، فقد اشتكى منه العديد من الأشخاص على مدار السنوات الماضية، حتى "أعلن وزير الأوقاف المصري الحالي الدكتور محمد مختار جمعة، إطلاق مشروع ‘الأذان الموحد’ في شهر كانون الثاني/ يناير عام 2019"، وفقاً لما نشرته صحيفة اليوم السابع المحلية بتاريخ 12 كانون الثاني/ يناير 2019، مشيرة إلى أن المشروع شهد تاريخاً جدلياً ومتعثراً في ولاية ستة وزراء أوقاف. لكن حتى الآن لم يتم البدء به، وما زالت مكبرات الصوت في المساجد تضج بالأصوات السيئة والمزعجة، وكأنها سبيل لأي عابر.
متى نشعر بقول النبي صلى الله عليه وسلم "أرحنا بها يا بلال"؟ متى أرتاح عند سماع صوت المؤذن؟ متى أشعر بأنني على ما يرام، وغير عابس عند فتح مكبر الصوت في المسجد؟ متى أتوقف عن الهروب، وإلهاء نفسي عندما يقول المؤذن "الله أكبر الله أكبر"؟ متى ستتوقف وزارة الأوقاف المصرية عن توظيف من ليسوا جديرين بالمنصب؟
كانت جدتي تترك الراديو مفتوحاً على إذاعة القرآن الكريم، ليصدح في المنزل ليلاً ونهاراً. تربينا على صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وكروان الإنشاد الديني طه الفشني، وعبقري المقرئين مصطفى إسماعيل، والشيخ الحصري، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وسفير القرآن محمود علي البنا، وغيرهم من القراء الذي نحب أصواتهم، ونشعر بسكينة عند سماعها. فلماذا تُصر وزارة الأوقاف على تلويث أسماعنا بتعيين أشخاص ليسوا أكفاء. في جيلنا ثمة العديد من القراء ذوي الأصوات الرائعة. لماذا لا تعجّل وزارة الأوقاف المصرية ووزيرها بمشروع "الأذان الموحد"، وتستعين بتلك الأصوات في مشروعها حتى ترحم آذاننا من التلوث السمعي الذي نعاصره يومياً؟ ما أريده كله، هو أن أردد الأذان بهدوء، وألا أهرب عند سماعه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون