بعيداً عن مشهد الأبراج الذي يصيغ الشكل العمراني لإمارة دبي، تباغتنا المباني القديمة والمتواضعة في "فريج المرر" في منطقة نايف، حيث الشوارع والمباني ما زالت تحافظ على أشكالها القديمة، لتتعرف على شكل آخر للحياة في دبي، مدينة الأبراج الشاهقة المعاصرة. شكل الحياة في هذه الشوارع بسيط للغاية، ولكنه شديد الخصوصية، فهو يعكس انصهار الثقافات بأشكالها المتعددة.
المقاهي الصغيرة في فريج المرر تنطوي على حكايات خاصة تصوغها النادلات الإفريقيات العاملات فيها. النادلات في هذه المقاهي لا يشبهن غيرهن، فهن يسعين إلى كسب ودّ الزبائن بشكل لطيف، ويتعاملن معهم كما لو أنهم أصدقاء، لحثهم على الفضفضة أو حتى أخذ فسحة من العالم الخارجي وما يحمله. هذا الأسلوب في الضيافة يحول المقهى العادي والمتواضع إلى مكان ينطوي على شيء من الحميمية، فيبدو منزلاً صغيراً ومألوفاً.
الفضاء المكاني للفريج الذي يقع وسط منطقة ديرة، يشعرنا أننا في مدينة إفريقية، من حيث الملابس والعادات والمطاعم، وغالبية المارّة والسكّان إن لم يكن جميعهم، ويرتسم ذلك ضمن ما رسمته حضارة دبي من الشوارع النظيفة، والمواقف المنظمة، ومرور سيارات شرطة الإمارة بشكل دائم حفاظاً على الأمان، وتفادياً للمشكلات.
إضاءة المقاهي غالباً ما تكون ملونة، وديكوراتها مزركشة، وألوان الطلاء الناعمة تبعث في النفس الهدوءَ والسكينة، فهذه الأماكن تدعو روادها إلى جوّ مختلف عن تلك التي يرونها في قلب الإمارة. الإضاءات البنفسجية، والكنب الملونm، كلها أجواء تحمل الكثير من الثقافات التي تعكس أشكال الحياة في إمارة دبي التي تجمع أكثر من 200 جنسية.
المقاهي الصغيرة في فريج المرر تنطوي على حكايات خاصة تصوغها النادلات الإفريقيات العاملات فيها
وليست المقاهي وحدها التي تتسم بالغرابة، فغالباً ما نجد في تلك الأسواق بضائعَ غريبة لا يسمح بوجودها عادةً في أسواق الإمارة المراقبة جيداً، مثل الأدوات الخطرة، والسّلع والموبايلات المقلدة، وكلها في ذلك الشارع ذي الاتجاه الواحد والذي يمر عبر هذا "الفريج"، وهي كلمة تعني "الحيّ" في اللهجة الإماراتية، وطبعاً جميعها مخفية بشكل جيد، ويجري تعقبها جيداً أيضاً من قبل السلطات.
يستغرب البعض التغزل بمثل هذا المكان في ظل الحياة المرفهة التي غالباً ما يعيشها سكان دبي، غير أنه كثيراً ما يسأم الشخصُ من التنظيم البالغ في الإمارة، ربما لساعات قليلة، ليهرب من ضغط الحياة إلى مكان يقبل شيئاً من عدم الانضباط والتنظيم، وعلى الرغم من أن المنطقة لا يمكن تصنيفها بمنطقة تراثية وفقاً للمفهوم العام، لكنها تفي بالغرض في دبي فهي مقصد للسياح، خصوصاً أصحاب الثقافة الفرانكوفونية، كون غالبية النادلات يُجدن اللغة الفرنسية، بالإضافة إلى العربية.
فريج المرر وكورونا
كان لفريج المرر ومنطقة نايف عموماً نصيبها من الإصابة بوباء كورونا، والذي انتشر فيها بشكل واسع نتيجة قلة استجابتها للقوانين، والتزامها بالحجر والتباعد، فهي تعج بالفئات الفقيرة التي قضى حجر كورونا على لقمة عيشها، فضلاً عن أن نسبة واسعة من سكانها من المخالفين لقانون الإقامة في الإمارات، فعزلت المنطقة بشكل كامل، وتم فصلها عن الإمارة ومنع حركة الدخول والخروج إليها، وصولاً إلى إدخال الطعام والشراب ومستلزمات الحياة بسيارات متخصصة يومياً، في ظل رقابة مشددة داخلية، حتى تم الانتهاء من الوباء.
فريج المرر في الأدب
وفريج المرر الذي سمي بهذا الاسم نسبة لقبائل المرر الشهيرة، كان له حظه في الروايات، حيث تحدثت رواية "فريج المرر" للكاتب السوداني حامد الناظر عن الفريج، ويروي فيها قصة أحد الشبان المهاجرين الغارق بقصة حبه في بلاده، ليرمي به القدر في فريج المرر، ويصف الكاتب ما رأيناه من التفاصيل، خصوصاً قصص الفتيات الإثيوبيات اللاتي يقصدن دولة الإمارات للعمل في الأشغال المنزلية، وبعد أن يكتشفن طبيعة مجتمع مدينة دبي يهربن من ربّ العمل، ويجدن أنفسهن وسط فريج المرر.
الفتيات في مقاهي فريج المرر
لا تزال الأحياء الشعبية تزخر بالروايات والحكايا، وتتسم بطبيعة سكانها الذين استقروا فيها منذ عقود، وطبعوا فيها ثقافتهم وتقاليدهم المعيشية، التي تطعمت بروح دبي وطبيعتها، فهنا متنفس لكلّ من ضاق به الحال، خصوصاً القادمين الجدد من الشبان، حيث تروى أحاديث كثيرة عن الحب المفقود، والحبيبة البعيدة في بلدانهم الأصلية؛ هي علاقة قد تطول لأيام مع النادلة التي يختارها، أو ربما لساعات، يفضفض فيها الزائر عن مكنونات قلبه ويذهب ربما دون أن يتذكره أحد.
تعمل الفتيات في المقاهي علناً، وقد يعملن في أمور أخرى سرية مثل اللقاءات الخاصة مع السيّاح والمرتادين بشكل عام، ووسط هذا الواقع تنشط جماعات أخرى تعمل في تجارة المخدرات وغسيل الأموال والاحتيال.
تجلس الفتيات الإفريقيات عند أبواب المقاهي لجذب الزبائن، الذين يكون غالبيتهم من الرجال الباحثين عن قضاء وقت ممتع في التحدث مع الفتيات، في جو مختلف تماماً عن الجانب الآخر من المدينة، أو ممن ضاقت بهم الحياة.
تتقرب نادلات المقهى من الزبون بعد إغرائه بالدخول، وبعد ذلك يختار نادلته، إذ تكون لكلّ زبون نادلة تجالسه فترة بقائه، وتقوم بخدمته وتلبية طلباته، وبالتأكيد فهي تحاول زيادة طلبات الزبون الذي سيدفع فاتورة الشخصين الرخيصة نسبياً مقارنة بباقي أرجاء الإمارة.
فخدمة الزبائن وجودة الخدمة وغيرها من المعايير التي درجت عليها مقاهي ومطاعم دبي مختلفة تماماً هناك؛ هنا يأتي الطلب على الطريقة الإفريقية، فالشاي أو القهوة تأتي في أوعية خاصة، تحضرها الرفيقة أو النادلة مع كأسين، فهي ستشرب مع الزائر طلبه، وتناديه بحبيبي منذ اللحظة الأولى على خلاف ما اعتاد عليه رواد المقاهي في دبي من كلمة (sir) أو باشا أو غيرها.
وطبعت الفتيات الإفريقيات أسماءهن على المقاهي، مثل مقهى سارة، ومقهى الأخوات، ومقهى لينا، وغيرها، وكما أن جميع المقاهي تحمل أسماء نسوية، كذلك عمالها إن صحت التسمية، فالفتيات هنا يقدمن الطلبات، والشيشة، ويبدلن "النارة". لا وجود للرجال هناك سوى من الزوار، وليس مشهد الفتيات وهن يعملن على مجامر الفحم خارج المقاهي غريباً هناك، بل إنه لا يجلب حتى التفات المارة.
لقاء سارة وبعض الزبائن
التقينا هناك بسارة، وهي إحدى النادلات، أو كما قالت فهي مديرة المكان هناك، ولا نعرف إن كان اسماً حقيقياً أو مستعاراً، فاسم سارة دارج كثيراً في الحي، كما أنه دارج أيضاً في البلدان الإفريقية.
وأخبرتنا سارة أنها تملك إقامة في دبي، فقد استفادت من قرار العفو الذي صدر عام 2018، ومنح إقامات لجميع المخالفين لمدة عام كامل على كفالة الحكومة الإماراتية، مع إعفاء من رسوم المخالفات السابقة، ولذلك فهي عنصر أساسي في المكان على خلاف زميلتيها المخالفتين.
وبعد أن طلبنا الشيشة والشاي، والتي شاركتنا فيها سارة أيضاً، سألناها عن عدد الفتيات اللاتي يعملن معها، فأجابتنا بأنها تكتفي بفتاة أو اثنتين، ولكنها تطلب تواجد الفتيات في حال زيادة زوار المقهى، لتتصل بأخريات، مبينة أن جميع العاملات هناك وهي من ضمنهن، يعملن بنظام "العمولة"، إن صح التعبير، حيث يحصلن من المقهى على نسبة من فاتورة الزبون، أو ما قد يمنحه للفتاة في حال تقديمها مزيداً من الخدمات، وأسرت لنا سارة بأنه بإمكاننا مصادقة الفتيات في حال كنا لطفاء معهن. يبدو أنها لم تثق بنا كثيراً منذ المرة الأولى.
لا وجود للرجال هناك سوى من الزوار، وليس مشهد الفتيات وهن يعملن على مجامر الفحم خارج المقاهي غريباً
التقينا هناك برجل فرنسي وزوجته، وقال إنه في زيارة إلى السوق الشعبي للاستفادة من المنتجات الرخيصة، ودخل إلى المقهى للاستراحة، حيث طلب زجاجة من الماء وبعض العصير الذي لم يكن موجوداً، فالطلبات هناك محدودة للغاية، فاستبدله بالشاي الأخضر.
وبالصدفة أيضاً، التقينا بلاعب كرة قدم يدعى جورج. قال إنه لاعب محترف قدم من غانا للعب مع أحد الفرق الإماراتية بمبلغ 10 آلاف درهم شهرياً، غير أنهم قالوا له إنه لن يتمكن من قبض أجره حتى يبدأ بلعب المباريات، لتبدأ عمليات الحجر ووقف الأنشطة الرياضية، ما دفعه للعمل في "السيكيوريتي" وتنظيم الفعاليات بعد انتظار طويل.
وأضاف جورج أنه كان بحاجة إلى مثل هذا المكان كونه يشعر بوحدة كبيرة، لافتاً إلى أن الوضع تحسن كثيراً اليوم، حيث بدأ يلعب كرة القدم مع مجموعة من الشبان من عدد من الجنسيات، ما مكنه من بناء بعض الصداقات، غير أنه لم ينس المكان الذي احتضن وحدته، والفتاة التي كانت تستمع بتأثر إلى قصته في كل مرة، وهو يأتي لزيارتها متى سنحت الفرصة.
سوق فريج المرر مكان يضج بالحكايات، والعلاقات المتشابكة والمتداخلة، من عالم غريب عن رواياتنا العربية، وهو عالم الحبشة وتاريخها وناسها الذين يغادرون بلدانهم الفقيرة ويأتون إلى الخليج العربي لتحسين ظروف حياتهم. لدى كل واحد منهم حكايته الخاصة، التي قد تتشابه مع حكايا الآخرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه