تصلنا الأخبار، منذ ليلة أمس، من الشمال إلى الجنوب: قطع الطرقات في بيروت بدواليب مشتعلة احتجاجًا على الوضع المعيشي، قطع دوّار كفرمان – النبطية بالعوائق الحديدية. صباح اليوم، محتجون في طرابلس يجوبون شوارع المدينة مهدّدين بإقفال محال الصيرفة في حال استمر الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. ويصلنا المشهد من الشاشة ليقول لنا: "عودة الناس إلى الشّارع".
هذه العودة لا تشبه بداية 17 تشرين حين قصد الناس الساحات من أجل استرداد حقوقهم المعيشية وإنقاذ أنفسهم من الانهيار الذي تفرضه السلطة عليهم. أمس كان خروج اللبنانيين إلى الشوارع وسيلة أخيرة للخروج من الانهيار الذي يقبعون فيه، داخل منازلهم، ومؤسّسات عملهم، وفي كل مكان. الانهيار حلّ علينا جميعًا، وسيطر على كل جوانب حياتنا.
تصوير مروان طحطح
من ضريبة الواتسآب إلى الدولار بـ 10,000 ليرة
حدث الكثير منذ 17 تشرين حتى اليوم، وقائع وقصص عامّة وفردية ستحتاج مجلّدات كي نرويها، فهذه الحكايات المأسوية التي صنعتها المنظومة الحاكمة غيّرت حياة كل من نعرفه.
أمرّ في شارع الحمراء أمام مقهى "دانكن"، ولا أرى الطاولات أو الناس. يتوجّه نظري تلقائيًا نحو البلاط قرب الدرج الصغير، وأسترجع جثّة "علي محمد الهق". هذا الرجل الخمسيني قصد المقهى في 3 تمّوز/يوليو، احتسى قهوته أمام الجميع، حضّر ورقة نعيه المؤلّفة من إخراج قيد يظهر صورته ويؤكّد أن لا حكم عليه، والعلم اللبناني، وورقة بيضاء صغيرة كتب عليها بخط يده: أنا مش كافر. وضع علي الورقة أمامه، غطّى رأسه ووجّه المسدّس نحوه، ليُردى قتيلًا أمام عيون الجميع. هناك في المساحة الصغيرة قرب الدرج والمقهى، انتحر علي لأن الدولة قتلته قبل تلك اللحظة، وحاول أن يقول لنا نحن الذين سنشاهده، أنه ليس مجرمًا، وليس كافرًا، بل هو مجرّد رجل يبحث عن وطن لم يعد يريده. ولذلك كان خيار الرحيل من أجل ما تبقى من كرامته. في ذلك اليوم نفسه، عثرت الشرطة على جثمان المواطن سامر حبلي، مشنوقًا في منزله في منطقة وادي الزينة بالقرب من مدينة صيدا جنوب لبنان، وعُلم أن سامر كان يعمل سائق حافلة عمومي ويعاني ضائقة مالية في الفترة الأخيرة وهو متزوج ولديه ابنة.
هذه السلطة مديونة لنا بالدماء، بالخبز، بالمال، بالهواء، بالماء والكهرباء، مديونة لنا بحياتنا، التي صارت مسجونة داخل البلد الذي صنعته ونحن وحدنا ندفع الثمن، وخياراتنا صارت محصورة بالهرب من هذا البلد أو النزول إلى شوارعه واسترداد ديننا من حكّامه.
ليلة أمس، وأمام الكاميرا استعان رجل عجوز بالميكروفون، ليحكي قصّته: "أقصد كل يوم مكان عملي من الشمال إلى بيروت، لأعمل في شركة بيع للمفروشات، لم أعد قادرًا على شراء ربطة الخبز التي صار سعرها 3,000 ليرة لبنانية ووزنها أقل عما كانت عليه". يصنع الرجل حركة دائرية بيديه، ينظر إلى المحيطين به ويسألهم: "شفتوا قدّي صارت الربطة زغيرة؟". وأفهم منه أن الكادحين الذين صاروا يشكّلون النسبة الأكبر من اللبنانيين لا تفوتهم التفاصيل الصغيرة، فالفقراء يعرفون وزن ربطة الخبز لدى النظر إليها. والخبز ليس ترفًا بل يقع في سلم الحاجات اليومية في المرتبة الأولى والعادية جدًا ما قبل وجبات الطعام. الناس في لبنان صار عليهم التفكير وحساب سعر هذا الحق. هذا الرجل حتى اللحظة لا يزال يحارب بطرقه الخاصّة، لم تنته وسائله، فهو يترك منزله الشمالي، يتوجّه نحو بيروت ليعمل، ليقطع الطرقات، ويحتج، ويحمل الميكروفون بدلًا من المسدّس ليوصل وجعه. في مقابلة أخرى يقول الشاب جملة تختصر كل شيء: "الدولار بيعلى وكرامة المواطن اللبناني بتنزل".
في العام 2019، استخفّ الكثير من أهل الإعلام بالناس من خلال سؤال: "يعني إنت نزلت كرمال الضريبة على الواتسآب؟" ووضعوهم في إطار تسخيفي، جعلهم يحاولون تبرير أنفسهم وشرح كل الأسباب التي جعلتهم يقصدون الشارع، لكن في الواقع، ضريبة الواتسآب لا تختلف عن سعر ربطة الخبز، أو وصول سعر صرف الدولار الواحد إلى 10,000 ل. ل. فقرار الحكومة حينها بفرض ضريبة على خدمة الواتسآب عنى انتشال حق التواصل من يد الناس.
في سيارة الأجرة، التي يستأجرها أسبوعيًا بمبلغ 800,000 ليرة لبنانية، يطلب حسين الأحمد (48 عامًا) من زبائنه أن يتواصلوا معه عبر تطبيق واتسآب، ويقول بخجل: "خطّي محروق، بشرجه الأسبوع الجاية". وذلك لأنه مثل الكثيرين لا يقدر على تشريج خطّه بـ40,000 ليرة شهريًا، فبالتالي حين تتراكم فواتير الهاتف، التي تعتبر الأعلى في العالم، وتنتهي صلاحية الخط، لا يبقى له سوى تطبيق واتسآب للتواصل مع زبائنه وتأمين لقمة عيشه. هناك أيضًا الشباب العاطلون عن العمل، والأمهات غير العاملات، وأبناء الطبقة الفقيرة، الذين لم يبقَ لهم من حقّهم بالتواصل اليومي سوى هذا التطبيق. كان هذا الأمر في العام 2019، اليوم في العام 2021 فرضت الدولة كل الضرائب على الشعب، ومنها ضريبة الدم، التي دفعت بأرواح أكثر من 204 أشخاص في انفجار 4 آب/أغسطس، ضريبة تشرّد العائلات، وضريبة الجوع، وضريبة العمل من أجل حدّ أدنى للأجور، صارت قيمته توازي الـ 60 دولارًا أمريكيًا.
إطلاق نار في الضاحية وقطع الطرقات والكهرباء
انتشر ليلة أمس، عبر مواقع التواصل الإجتماعي، مقطع مصوّر يوثق إطلاق رصاص في محلة معوض في الضاحية الجنوبية، وفي التفاصيل، إن دورية من فرع المعلومات حاولت القبض على عصابة أقدمت على سرقة منزل في إحدى القرى الجنوبية، وأن الدورية أبلغت حزب الله بالأمر، لكن سوء التنسيق بين الطرفين أدى إلى حصول اشتباك قبل أن يسوى الإشكال وتوقف الدورية أحد السارقين.
هناك أشخاص كان بإمكانهم أن يخسروا حياتهم، لأن سوء تنسيق حصل بين الدورية والحزب، من أجل القبض على عصابة سرقة. وكل هذا يحصل في وقت يقطع الناس الطرقات في كل المناطق لإيصال صوتهم، ويعيشون من دون كهرباء منذ حوالى الأسبوع لأن الدولة عادت إلى التقنين، مثلما كانت تفعل في الصيف الماضي وقبل انفجار المرفأ، حيث حرمت الناس من حقّهم بالنور، وبالحفاظ على مأكولاتهم القليلة داخل البراد، ومن غسل ملابسهم، ومن المياه الساخنة، ومن العمل بطريقة منظّمة ومن التدفئة.
عودة الناس إلى الشّارع في أنحاء لبنان
الغريب كيف أن الكهرباء عادت بأعجوبة إلى بيروت عقب الانفجار، بعد أن كانت لا تصلنا إلا ساعات قليلة ومحدودة، وكأن الدولة تلعب مع المواطنين لعبة: سأعطيكم القليل خلال المصائب الكبرى، لأعود وأحرمكم منه بعد أن تبدأ عملية النسيان وتعوّدكم على هذا الواقع.
يفقد النائب إيلي الفرزلي أعصابه في مقابلة مباشرة على الهواء، ويعلمنا أن الطبقة السياسية الحاكمة ستأخذ كل شيء بالقوة من درب الشعب، وأن الأخير لا حق له بالاعتراض، وعليه أن يخضع.
في هذه الأثناء، يفتح الجيش الطرقات من جهة ليعود المحتجّون ويقفلونها من جهة أخرى، أغلب من قصدوا الشوارع قبل أكثر من عام، يجلسون أمام شاشاتهم ويتابعون الأعداد القليلة التي تحكي بأصواتهم عن معاناتهم الخاصّة أيضًا. إذا أردنا الاعتراف بالواقع، فإن هذه السلطة شرسة جدّا، والناس محبطون جدًا، فكل جوانب حياتهم تمّ تدميرها، بخطط وسرقات ومحاصصات، من قبل ميليشيات وضعت خططها قبل عقود، وهذا العام تحديدًا شهدنا نتائجها. هذه السلطة مديونة لنا بالدماء، بالخبز، بالمال، بالهواء بالماء والكهرباء، مديونة لنا بحياتنا، التي صارت مسجونة داخل البلد الذي صنعته ونحن وحدنا ندفع الثمن، وخياراتنا صارت محصورة بالهرب من هذا البلد أو بالنزول إلى شوارعه واسترداد ديننا من حكّامه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع