في الثالث عشر من شهر حزيران/يونيو 2020، تلقت الأوساط الحقوقية والفنية، بحزنٍ شديد، خبر الرحيل المأساوي للناشطة الكويرية سارة حجازي، التي شكّل قرارُها الشخصي بإنهاء حياتها، صدمةً فتحت مزيداً من الأسئلة عن واقع حقوق الإنسان في المنطقة، ومصائر كل من يجرؤ على التعبير عن الخيارات الشخصية خارج القوالب الصارمة للثقافة السائدة.
ما تزال آثار الواقعة تضغط على مشاعر الأفراد الذين يعيشون المأساة ذاتها في بلدها مصر، لا بل غدت قصتها الشخصية تعبيراً رمزياً لآلام العديد من المجهولين/ات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ممن يتقاسمون/ن محنة سطوة المجتمع والسلطة.
الذكرى السنوية لرحيل سارة حجازي
ارتبط اسم سارة حجازي بحادثة رفعها لعلم "الفخر" في حفل موسيقي أحيته فرقة "مشروع ليلى" في القاهرة 2017، وهو الأمر الذي كلّفها كثيراً؛ بدءاً بالتجريم، مروراً بالسجن والتغريم ثم النبذ، وانتهاءً برسالة انتحارها المكثّفة المشحونة بالعتاب والغفران.
تحيل هذه الواقعة إلى دور الفن بوصفه ساحة "ساخنة" للنزاع الفكري والاجتماعي، لا سيما في الدفاع عن القضايا عالية الحساسية مثل حقوق المجتمع الكويري.
غدت قصة سارة الحجازي الشخصية تعبيراً رمزياً لآلام العديد من المجهولين/ات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ممن يتقاسمون/ن محنة سطوة المجتمع والسلطة
لقد رسَخَت الحادثة بذاكرة المدافعين/ات عن حقوق الإنسان عموماً، وحقوق مجتمع الميم-عين خصوصاً، وشهدت مواقع التواصل استحضاراً مكثفاً لهذه الحادثة في الذكرى السنوية الأولى لرحيلها، منها الجلسة الحوارية الرقمية التي نظمتها مراكز كولمبيا العالمية Columbia Global Centers، في 22 حزيران/يونيو 2021، إحياءً لذكرى رحيل سارة حجازي.
وهي جلسة من تقديم الدكتور صفوان المصري، وأدارها البروفيسور كيندال توماس، أستاذ القانون بكلية الحقوق في جامعة كولومبيا، كما تحدث فيها كل من: حمدي خليفة (ناشط في مجال حقوق الإنسان)، رشا يونس (باحثة في برنامج حقوق مجتمع الميم عين في هيومن رايتس ووتش)، داليا الفغال (ناشطة كويرية) وطارق زيدان (المدير التنفيذي لمنظمة حلم).
محاولة لفهم أعمق
"لم أعرف سارة على المستوى الشخصي"، يقول الدكتور صفوان المصري، ويضيف: "لم أعرفها لكنني أعرف آلامها وآلام من هم/ن مثلها، أولئك الذين لا نعرف وجوههم/ن ولا أسماءهم/ن".
تطلّع الدكتور صفوان، في بداية الجلسة التي قدمها، إلى أن يخرج الحضور بعد النقاش "بفهم أعمق لما حدث ولماذا حدث، ولما يحدث الآن ولماذا. ثم ما الذي يمكن أن يكون القادم؟".
ناقش/ت المشاركون/ات دور الفن والثقافة وتأثيرهما بوصفهما أدوات مناصرة في سياق الدفاع الكويري في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بحثاً عن القواسم المشتركة والاختلافات، والوقوف على أهم الاستراتيجيات المستعملة في مواجهة التحديات، في منطقة ما تزال سلطات ثماني دول فيها تحكم بالموت على الأفراد بالنظر لتوجهاتهم/نّ الجنسية التي تخالف الثقافة السائدة.
الإطار القانوني كاستراتيجية عمل
بدأ البروفيسور كيندال توماس إدارة النقاش طارحاً فكرة "التأطير القانوني"، بوصفه استراتيجية للضغط على السلطات، ورَبْط الحراك في المنطقة بخطاب عالمي حقوقي، عوضاً عن حصر الحديث في مسألة الهوية التي أثبتت التجربة أنها لم تكن استراتيجية ناجعة.
ويشير توماس في أحد أمثلته إلى الفصل 230 من القانون الجزائي التونسي، الذي يجرّم المثلية الجنسية.
هذه النقطة تحدث عنها أكثر حمدي خليفة، حيث أشار إلى أهمية المقاربة الحقوقية، عوضاً عن المقاربة النفسية، لكنه شدّد على أن التحدي الأكبر هو تعامل المجتمع مع هذه القوانين، إذ إن الثقافة السائدة التي تنطوي على رهاب المثلية، "تشكل التحدي الأكبر الذي يجعل التشريعات في وضع صعب حتى في وجودها".
وضع مجتمع الميم-عين في المنطقة يجعل من مجرّد الوصول إلى الحقوق الإنسانية الأولية، تحدياً كبيراً يستلزم التدخّل العاجل
يشير حمدي إلى الفصل 21 من الدستور التونسي، الذي تطرّق بوضوح إلى المساواة وضمان الحقوق والحريات وأسباب العيش الكريم، وإلى الفصل 23 الذي يوجب على الدولة حماية كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وأيضاً إلى الفصل 24 الذي يوجب على الدولة حماية الفضاء السكني الخاص، ومع كل هذا فالسلطات التونسية ماتزال حتى وقت قريب تفرض الفحوص الشرجية القسرية.
بمعنى آخر، فإن هذه القواعد نافذة في سياقات مختلفة، لكن الثقافة السائدة تلعب دوراً يحدّ من كفاءتها في سياقات أخرى وتجعلها عرضة للاختراق دون حراك اجتماعي يحميها.
ويرى حمدي خليفة أن الفن والعمل الثقافي، إضافة لوسائل التعليم والإعلام، يمكنها جميعاً أن تلعب دوراً في التغيير المجتمعي الشامل وردم الفجوة بين التشريعات والثقافة السائدة.
وبدورها، تتفق رشا يونس مع طرح كيندال وحمدي، إذ برأيها لم يعد خطاب الهوية يعمل بمعزل عن خطاب حقوق الإنسان، وعليه من الضروري في الوقت الحالي، إضافة إلى الأهداف البعيدة، التركيز على الحقوق بما يخدم الأهداف قصيرة المدى، فوضع مجتمع الميم-عين في المنطقة يجعل من مجرّد الوصول إلى الحقوق الإنسانية الأولية، من خدمات وفرص، تحدياً كبيراً يستلزم التدخّل العاجل.
وفي سياق أهمية الإطار القانوني، تحدث طارق زيدان عن وضع الحراك الكويري الحقوقي في لبنان منذ عشرين عاماً، وما اعتراه من صعوبات حينها، منها استحالة إمكان التسجيل القانوني، الأمر الذي كان قد أضعف المؤسسات التي عملت في ظروف صعبة جعلتها عرضة للمخالفات وتعقيدات التعاقد وفتح حسابات مصرفية، إضافة إلى حرمانها من اغتنام فرص الدعم والمشاركة.
ومن وجهة نظرها، ترى داليا الفغال أن السرديات تتحكّم في توجيه هذه الإشكالات، وهو أمر يمكن الوقوف عليه عند مراقبة اللغة المستعملة للحديث عن قضايا الكوير، التي يتضح من خلالها أن كثيراً من الناس هم غير منخرطين في فهم السياق، وليست عندهم دراية كافية ولا فرص تعليم ملائم يراعي هذه الإشكالات.
من هنا، ترى داليا أن أهم الاستراتيجيات حالياً هي العمل على تطبيع ظهور المثليين/ات وتواجدهم/نّ في الفضاء العام الفيزيائي والرقمي، والحديث عن قضاياهم/نّ.
الفن وسيلة للمناصرة
تطرّق المتحدثون/ات إلى دور الفن والمنصات الفنية في مناصرة قضايا المجتمع الكويري ضمن إطار حقوقي أوسع.
ترى داليا الفغال، أنه ليس من الحكمة إنفاق جهد إضافي لتأسيس منصة مستقلة للحديث عن قضايا المجتمع الكويري في كل الأقطار، إذ إن الدول الناطقة بالعربية تتشارك نفس المحتوى العابر للحدود تقريباً.
وعوضاً عن هذا، ترى الفغال بأن ثمة طرائق أكثر نجاعة من الناحية الاستراتيجية، منها التركيز على دعم المهتمين/ات بالقضية من صنّاع المحتوى الكوميدي والفكري والفني، في مختلف الوسائط الرقمية المنتشرة (تيك توك، لايكي، يوتيوب، وغيرها)، لا سيما اليافعين/ات.
وتقترح داليا ضرورة دعمهم/نّ مادياً وتوفير ما يمكن توفيره لتطوير المهارات الفنية، لأجل تسهيل إرسال الرسائل، وتطبيع ظهورهم/نّ في الفضاء العام، بما يخفف حدّة الرفض والكراهية، ويهذّب أسلوب الاختلاف، ويشجّع الآخرين على الظهور وتقديم أنفسهم/نّ والحديث عن حقوقهم/نّ في إطار طبيعي، بعيداً عن الصورة النمطية.
تتحدث رشا يونس عن ابتكار لغة على الجدران، وهي الأعمال الفنية التي تجنّب الأفراد أعباء الحديث المباشر عن قضايا المجتمع، مشيرة إلى أن هذه الأعمال تثير النقاش وترفع الصوت تدريجياً حتى في أقطار ترفض حكوماتها طرح هذا الحديث في وسائل الإعلام.
تثمّن رشا دور الفن، وتذكر أمثلة منها مهرجان موجودين للأفلام الكويرية، في تونس و"هيفن فور آرت"، وهي منظمة لبنانية تحاول التركيز على دور الفن في تغيير العقلية التقليدية في الميديا.
مجتمع واحد/ صوت واحد
وعن الصورة النمطية السائدة، تشير رشا يونس إلى ضرورة تغيير خطاب الدولة كأحد طرائق العمل، لأن الناس في الغالب يتبعون ما تقول الحكومات، وما ترسخ من سرديات.
وهو الأمر الذي يدل عليه حمدي خليفة أيضاً، ويضعه ضمن مسؤوليات المجتمع المدني، مؤكداً على ضرورة اغتنام فرصة التغيير السياسي الذي شهدته المنطقة، وما يصاحبها من ديناميكية تسمح بإعادة تشكيل القيم، وأن أفراد المجتمع عموماً لا بد لهم من معرفة المزيد عن حقوقهم/نّ، وعن طرائق حماية أنفسهم/نّ، جسدياً ومعنوياً.
وتوافق داليا الفغالي التي ترى بضرورة توحيد الصوت وخلق مجتمع يتشارك الحديث عن القضايا الحقوقية في العموم، ويدعم بعضه بعضاً.
وترى فيما يخصّ الممارسات، أنه بالإضافة إلى زيادة الوعي، فالاهتمام بالصحة الذهنية والنفسية، يأتي على قائمة الأولويات حالياً، لا سيما أن كثيراً من اليافعين/ات يعانون من آثار تجربة سارة حجازي، التي على الرغم من مغادرتها مصر، لم تنتهِ محنتها.
ويوافق طارق زيدان على ضرورة الانخراط في القضايا العامة وتوحيد الصوت: "إذا كنتُ ناشطاً حديث عهد في العمل الكويري، لا يمكنني الذهاب إلى الآخرين والقول: مرحباً، أنا ناشط كويري، ماذا يمكن أن تقدموا إلي. بل الصواب هو الذهاب إليهم والقول: مرحباً، أنا ناشط كويري منخرط في قضايا الحقوق، أود العمل معكم، ما هو دوري؟". حينما تعمل المجاميع مع مجاميع أخرى يكون الصوت أعلى وأوضح ويكون الجميع أقوى.
"المثلية الجنسية كانت دائماً موجودة، لإنها جزء من التاريخ والحركة والمجتمع، لكن الحقيقة عسيرة على الناس، بخلاف الارتكان إلى الأساطير الذي يبدو سهلاً"
الأمر الآخر الذي يشير إليه طارق، بخصوص الخطاب ما بعد الاستعماري، والقراءة السائدة عن هذه الحركات أنها حركات تابعة، تستنسخ ما هو غربي من قضايا دخيلة على المنطقة، موضحاً أن قضية المثلية ليست حديثة إنما ضاربة في القدم في ثقافة المنطقة، شأنها شأن كل الثقافات.
لا شأن لمطالب الغرب بمطالب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلا في حدود الوسائل والآليات وتبادل التجارب بفضل الانفتاح الذي وفّرته شبكة الإنترنت.
بيروت قبل الحرب كانت كما هي الآن، والمثلية الجنسية كانت دائماً موجودة، لإنها جزء من التاريخ والحركة والمجتمع، لكن الحقيقة، كما يقول طارق، "عسيرة على الناس، بخلاف الارتكان إلى الأساطير الذي يبدو سهلاً".
يُذكر أن "مراكز كولومبيا العالمية" هي مراكز بحثية إقليمية أنشأتها جامعة كولومبيا في مجموعة من العواصم حول العالم، جزءاً من مبادرتها لتأسيس جامعة بحثية دولية لغرض تعزيز التعاون الدولي وتسهيله بين المؤسسات الخاصة الإقليمية والمسؤولين الحكوميين والعلماء والطلاب لمعالجة القضايا العالمية بشكل تعاوني، ودعم مشاريع البحث الجديدة، والبرمجة الأكاديمية وتعزيز التزام جامعة كولومبيا التاريخي بالمنح الدراسية العالمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين