كان لانتحار سارة حجازي أن يتحول لقضية شأن عام، فهو وقبل كل شيء انتحار شابة عانت الكثير من المجتمع والسلطة في آن، وما لبث إلى أن تحول لسجال عقيم بين علمانيي الساحة العربية ومحافظيها من الأبوية الدينية متفاوتة التشدد، لكن حتمية الرغبة بنزع القيمة الإنسانية من سارة.
تعددت أوجه السجال، كان كثير منهم قد دخل في نقاش ديني عن شرعية وإجازة الرحمة عليها بعد موتها أو عدمه، والكثير شرع في صراع مع من تعاطف مع سارة وقضية حياتها وموتها، صراع حول كونها بطلة، رمزاً إنسانياً أو أيقونة نضال سياسي.
هذه الفئة الأخيرة كانت شرسة بهجومها، مثابرة على تعريف وإعادة تعريف البطولة، متمسكة بتعريفات مرتبطة بصورة نمطية ذات مرجعية أبوية، فالبطل المشغول على أسطرته وترميزه، حسب التمثيلات الأبوية للبطولة، هو البطل الذكر المغاير جنسياً، المحارب أو الأب غالباً المغاير جنسياً، وفي حال تمثيلات المرأة للبطولة، فهي تتراوح بصورتها بين الأم المعطاء للعائلة، أو المحاربة ضمن سرديات قومية أو دينية، وفي التمثلين هي مغايرة جنسية.
المعركة على تشكيل الرمز أو نفيه
في السجال المعقد بين أصحاب العقيدة الأبوية والمتضامنين مع سارة، نرى اختزالاً لهوية سارة يسعى له المهاجمون، اختصاراً لها على أنها أولاً امرأة، وثانياً مثلية. هذا الاختزال المقيت هو سلاح مكرر من المنظومة الأبوية، "نعت" سلبي واقصائي يحاول أولاً سلب ذاتها لكونها "امرأة" في هرمية اجتماعية يتزعمها الرجل، ثانياً في كونها مثلية تعيش عكس "الطبيعة". هي إذن امرأة مهددة للسلطة الذكورية والنظام الأبوي المادي المتحكم بعلاقات الإنتاج، والرمزي المنتج لعالم مغاير جنسياً.
تسعى هذه العدائية من النيل من رمزية سارة المناضلة بشكل خاص، ومن الممكن إدانتها على أنها عنف رمزي، هو حسب بيير بوردو، شبيه أو أكثر شدة بقدرته على الهيمنة وضبط قيم المجتمع السائدة، يكمن هذا العنف في وعبر التواصل وتلقين المعرفة، خصوصاً عبر التعريف والاعتراف بمشاعر أو قضية.
هذه الحرب على رمزية سارة البطولية تشن على جرأة إعلان سارة كرمز، فحراس رمزيات الأبوية يعملون على إخراس تعبيرات المكبوحين من سياسات المنظومة، أي أن معاناة ضحايا الأبوية معاناة صامتة، غير معلنة ومخبئة في البيوت، وغالباً ما تتملص من الأحكام الأخلاقية أو القانون والقضاء بكونها شأناً خاصاً.
البطل المشغول على أسطرته وترميزه، حسب التمثيلات الأبوية للبطولة، هو البطل الذكر المغاير جنسياً، المحارب أو الأب غالباً المغاير جنسياً، وفي حال تمثيلات المرأة للبطولة، فهي تتراوح بصورتها بين الأم المعطاء للعائلة، أو المحاربة ضمن سرديات قومية أو دينية، وفي التمثلين هي مغايرة جنسية
لكن عمل رفاق سارة والمتعاطفين مع انتحارها على تحويلها وقصتها لرمز، أي نقل الخفي إلى العلن، ساهم بفضح أثر الفظاعة من تعذيب وإقصاء، أما محاولة تحويل ابتسامة سارة وانتحارها إلى رمز أيقوني يرافق ألوان علم قوس قزح، يعني تحديد موقف معلن، ومحاولة ترجمة المعاناة الصامتة إلى تعبير سلوكي غاضب لا يقف عند لحظة الغضب الآنية، بل يتوسع للمستقبل بتحقيق رمزية تحاكي واقع المثليين/ات، وتدين أبوية المجتمع والدولة، الأبوية التي مارست وبررت عنفها الجسدي على سارة ورفاقها، والآن تمارس عنفها الرمزي على الأثر النضالي الذي تركته بعد رحيلها. إذن للرمز أهمية فائقة، وسجال مواقع التواصل الاجتماعي كانت ساحة للمعركة. هي معركة تضاد قيم، مكنون مشاعر مكبوحة ومساحة تضامن، هي فرض وممارسة للتهميش والعنف من السلطة، وإصرار على صياغة تعريف ذاتي بالتهميش والنضال من المهمشين.
الرمز بوصفه عنصر مقاومة وإنصاف لقيم المظلوم
دائماً ما تعمل الفئات المهمّشة على تشكيل رموز خاصة بمعاناتها، لكنه لا يتوقف على كونه دلالة على المعاناة مستمدة من حدث أو شخص في تاريخ هذه المعاناة، بل تمثّل الرموز ضرباً من الإنصاف في حال تشكيلها.
السلطة دائماً مصنع محتكر لإنتاج الرمزيات ودلالتها وتمثيلاتها، ثم نشرها في الفضاء العام والسايبري، بالتالي، مجرد إقحام رمزية جديدة غير مغايرة جنسياً، وإدخالها في الفضاء العام، يعني بعض العدل بتوزيع المعاني والدلالات في واقعنا الاجتماعي وتواصلنا الثقافي.
يمكن وصف الرموز المصنوعة من المضطهدين على أنها عناصر مقاومة، تستخدم لتلخيص قصة المعاناة وإدانة الجاني، هي أسلوب مقاومة كفوء لكونها اقتصادية فعالة، مختصرة، مركزة ومكثفة في تلخيصها لحكاية المضطهدين، في ذات الحين محتوية لتركيبة من القيم. هنا نحن نتحدث عن قيم معاكسة للمنظومة الأبوية، فسارة خالدة بقيمة المسامحة التي دونتها على دفترها قبل الانتحار، وصورتها المبتسمة قبل أيام من انتحارها، هذه القيمة معاكسة لقيم الأبوية، تلك القائمة على العقاب من أجل الغفران، على "الثأر" للشرف وغسل "العار".
المكنون العاطفي في الرمز
الرمز هنا لا يتوقف عند كونه إشارة للماضي ومحتوى للقيم، بل أيضاً كونه أيقونة تحمل مشاعر مكبوتة وعواطف مبذولة في ذلك الحدث الفظيع، يتم توظيف هذه العواطف لتعزيز معنويات أعضاء المجموعة لبعضهم البعض. لا تخلو دلالات الرمز والأيقونة من مشاعر تتراوح بين الفخر والغضب والحزن، هذه مشاعر قادرة على تحويل الجمهور لمتضامنين، التواصل معهم وتذكيرهم بالفظاعة.
وفي المقابل، يعمل حراس المجاز الرمزي، من مهاجمي سارة حجازي، على قطع عواطف التضامن، يدخلون في عوالم هاشتاغ سارة حجازي، مصممين على تخريب بعدها الرمزي، ناثرين لشتائم كتحطيم لقداستها ونزع إنسانيتها، عبر العودة إلى سردية "معاكسة الطبيعة"، بوصف الطبيعي على أنه المغاير جنسياً.
الشباب العربي المقيم في حدود أوطانه عبّر برسائل غير معلنة أنه يشعر بحزن إضافي، ذلك لكونهم ممنوعين من التعبير عن غضبهم من فاجعة انتحار سارة، فهم محاطون بحراس الرمزيات، ممن يحاولون إقصاء سارة من كونها رمز نضال في الساحة العربية. هنا نتحدث عن التضامن كفعل سياسي ممنوع، الإيماء لسارة عبر صفحات التواصل الاجتماعي معرض للمراقبة، وربما المعاقبة والتعنيف. المساهمة في ترميزها يعني تهديد الإرث القيمي الأبوي، أو مقاومة تمثيلاته المُنتجة "للحقيقة" والواقع الاجتماعي.
الحرب على رمزية سارة البطولية تشن على جرأة إعلان سارة كرمز، فحراس رمزيات الأبوية يعملون على إخراس تعبيرات المكبوحين من سياسات المنظومة، أي أن معاناة ضحايا الأبوية معاناة صامتة، غير معلنة ومخبئة في البيوت، وغالباً ما تتملص من الأحكام الأخلاقية أو القانون والقضاء بكونها شأناً خاصاً
الرمز للدلالة على ذات واعية لذاتها
عبّر الربيع العربي عن تغيرات سياسية، لكنه كان، كما وصفه المفكر نسيم البرقاوي، بميلاد الذات، حيث أصبح الفرد واعياً لذاته، ليس فقط ضمن الحسابات السياسية من الدولة القمعية، لكن أيضاً هذا الوعي للذات تضمّن الهوية الفردية، تحدي السائد من أعراف وقيم وإعادة بناء ذات سياسية صانعة لقرار نفسها وواعية لخياراتها.
يمكن النظر بذلك لمسيرة لسارة حجازي، التي اختارت هوية سياسية فعّالة في كونها، حسب وصفها لنفسها، شيوعية وناشطة من أجل حقوق المثليين. يبدو ذلك نتاج لوعي الثورة وميادين تظاهرات الربيع العربي وامتداد لظاهرة التغيير السياسي، لتطور في الإدراك الذاتي وأفق أوسع للهوية، إن كان على المستوى الجندري والجنسي والفكر السياسي.
بتشابه مع قصة سارة بتشكيلها لهويتها الذاتية، فإن عملية تشكيل سارة كرمز هو ضرب من الوعي بالذات، مشابه لما عرفته سارة، إنه القول بأننا ذوات واعية لذاتها ومدركة للعطب السياسي في واقعها، وإن الأنظمة الأبوية والاستبدادية تعمل على الاستبعاد اليومي للفئات المهمشة والأقليات السياسية المغايرة لقيم السائد، محاولةً خلق هوية العبد غير الواعي لذاته في شرط العنف المحتمل دائماً، بينما يظهر الرمز/ الأيقونة كظاهرة مرافقة أو دالة للوعي بالتهميش وعنف السلطة.
الرموز إذن هي علامة تعريف الذات واعتراف بالاضطهاد، يعمل الرمز على تأكيد الهوية، وعلى إضفاء بُعد من التذكار بالحدث أو الأشخاص أو المعاناة، ليلخّص الإحساس باحترام الذات ورحلة تطورها، يصر على وعيها بمسيرتها، هو مصدر لتأكيد فاعلية المهمشين النضالية.
حراس الرموز، محتكرو تجليات البطولة، مختزلو البعد السياسي لسارة "بالعيب" الأخلاقي لجنسانيتها، هم ذاتهم المحرضون على العنف ضد سارة عند رفعها علم الرينبو في حفل مشروع ليلى، الحريصون على وصايتهم العنصرية على النظام الرمزي/ الأيقوني لتمثيلات البطولة وعرضها، المسيطرون على البناء الرمزي من الفضاء العام إلى السايبري، هم ذاتهم حراس النظام الأبوي العنيف الذين نفوا سارة خارج بلدها ودفعوها للانتحار، يعملون بجد، كل الجد، لنفيها خارج المجاز الرمزي، يعملون على تلاشي أثرها في المستقبل، تصويراً لمعاناة المثليين/ات وإدانة العنف الأبوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...