أهلاً بكم أعزائي المسافرين على متن رحلتنا.
نحن على وشك الانطلاق في جولة لزيارة مجموعة مختارة من أعرق مطاعم مدينة دمشق.
سوف نحلق على ارتفاع حوالي 167 سم فوق مستوى سطح شوارع المدينة المتعبة.
من المتوقع أن تتصاعد من الكلمات رائحة كزبرة وثوم وحنين. يرجى أخذ الحيطة والحذر.
الرحلة على وشك الإقلاع. الرجاء فك حزام الأمان والاستعداد للطيران.
أبو بسام: فول – فتات - تسقية - لحومات
في حي ركن الدين شرق دمشق، أمضيت نصف ساعة في البحث عن مطعم "أبو بسام" المعروف للفول والفتة والتسقية، الأكلات الدمشقية الشهيرة. عندما عجزت عن إيجاده سألت أحد المارة ليخبرني بأنه أغلق منذ بضع سنوات، لأنه كبر ولم يعد يستطيع العمل بنفس الوتيرة. كاد أن يصيبني اليأس قبل أن يضيف بأن شريكه افتتح مطعماً آخر يقدم نفس الأطباق بذات النكهة القديمة.
في دمشق مطاعم ومطابخ قديمة تتصاعد منها روائح الطعام اللذيذ والحنين لأيام ماضية جميلة.
على بعد بضعة أمتار وجدت مطعماً متسعاً، بديكور زيتي اللون، تتصاعد منه رائحة الحمص المسلوق والفول. إنه "أبو إسماعيل" شريك "أبو بسام".
دخلت ليستقبلني إسماعيل، الابن البكر لأبيه، وليؤكد ما سمعته: "نعمل في هذه المصلحة منذ أكثر من خمسين عاماً. آنذاك لم يكن حينا متوسعاً ومنظماً كما هو اليوم، عدد السكان كان أقل والحركة محصورة بأبناء الحي. منذ بدايات عملنا كنا نقدم الفول والفتات والتسقية وأطباق لحومات، كالسودة المقلية والنقانق والحمص باللحمة المفرومة، وحافظنا على نفس الجودة وطريقة التقديم والكرم بالكميات".
يضيف إسماعيل: "خلال نصف قرن من العمل على مدى جيلين، مررنا بأوقات عصيبة، لكنها لم تؤثر علينا كما فعلت السنتان الأخيرتان، منذ أن بدأت الأسعار بالارتفاع الجنوني. ألغينا ما يقارب 20 طبقاً يحتوي على اللحم بسبب عدم قدرة الزبائن على مواكبة الغلاء نظراً لضعف قدرتهم الشرائية، وبقي التركيز على وجبات الفول والحمص".
أثناء حديثنا يدخل المطعم شاب صغير يبدو عليه التعب والإعياء. يقول بصوتٍ لا نبرة فيه: "جوعان وما معي مصاري". يستأذنني إسماعيل ويتجه نحو الداخل ليعود حاملاً صحن فول بزيت، وطماطم حمراء طازجة، مع صحن مخلل وخضار وكأس شاي يتصاعد منه البخار.
معجنات أنطون
يقع فرن أنطون في حي الطلياني وسط دمشق. لن تحتاج إلى GPS كي تستدل إليه. يمكنك ببساطة الاستعانة بعصبك الشمي. ما عليك إلا تتبع رائحة فطائر الجبنة البيضاء بالبقدونس، أو جبنة القشقوان المخبوزة مع المحمرة أو صفائح اللحمة مع دبس الرمان. إن تعذر عليك الأمر، اسأل من تشاء في الجوار وسيجيبك بالتأكيد، فالفرن يتم هذه السنة عامه الثاني والثمانين.
يستقبلك يوسف أنطون حلال وابن أخيه أنطون فهد حلال، بابتسامات عريضة، شهية مفتوحة للحديث وفطيرة ساخنة مع علبة عصير.
يحمل أنطون اسم جده مؤسس الفرن، الذي يعد واحداً من أوائل محال المعجنات في دمشق. تأسس عام 1939 وكان يقع في ساحة عرنوس التي تبعد حوالي شارعين عن الموقع الحالي. في عام 1967 التهم حريقٌ ضخم الفرن وبعض البيوت المجاورة، ما جعل جده ينتقل إلى العقار القائم اليوم.
يقول أنطون: "سابقاً لم يكن الفرن بنفس شكله الحالي. بيت النار كان مصنوعاً من الحديد، والجديد عمره عشرون عاماً فقط، أما نكهة معجناتنا وجودتها فهي لم تتغير على مر الزمن". يؤيده عمه ويضيف: "أعمل في هذا الفرن منذ خمسين عاماً. مرض أبي بعد الحريق فاستلمت المحل. في السابق كان العمل مقتصراً على الطلبات والتواصي الخارجية، وبقي الأمر على هذه الحال حتى عام 2000 حينما بدأت تنتشر فكرة بيع أنواع متعددة من المعجنات والبيتزا بشكل مباشر في المحل".
خلال نصف قرن من العمل على مدى جيلين، مررنا بأوقات عصيبة، لكنها لم تؤثر علينا كما فعلت السنتان الأخيرتان، منذ أن بدأت الأسعار بالارتفاع الجنوني. ألغينا ما يقارب 20 طبقاً يحتوي على اللحم بسبب عدم قدرة الزبائن على مواكبة الغلاء نظراً لضعف قدرتهم الشرائية
يحكي العم يوسف بحنين، القصة وراء أول قطعة بيتزا صنعوها وقدموها لزبائنهم، حين لم تكن أكلة شائعةً بعد في دمشق: "في أحد أيام صيف 1974، دخل الفرن أحد أقربائي المغتربين في ألمانيا. طلب مني أن أترك له بعض العجين وأبقي بيت النار مشتعلاً بعد الانتهاء من طلبات الزبائن. عندما سألته عن السبب قال إن معه في الحقيبة مكونات سحرية ستغير حياتنا.
بعد أن انتهيت من العمل اليومي أحضرت ما بقي من عجين، وإذ به يخرج قطرميزات صغيرة مليئة بالصلصة والخضار والتوابل والجبنة ويصفّها على الطاولة. قمت أنا برقّ صفائح عجين دائرية، وضع عليها هو خلطته السحرية وعيناي تتابعانه باهتمام. كانت اختراعاً مدهشاً. في اليوم التالي أدخلت الصنف الجديد للائحة الطعام لدينا، وأصبح من أكثر الأصناف طلباً".
يفتخر كل من العم وابن أخيه بأن فرنهم هو واحد من أشهر وأعرق الأفران في دمشق، وبأن زبائنهم يخلصون لهم جيلاً بعد جيل، حتى أن بعضاً من المغتربين يطلبون فطائرهم من سوريا بشكل خاص، فيقومون بخبزها وتجميدها وإرسالها لهم.
يختتمان حديثهما بأنهما كالسمك في الماء، لا يستطيعان مغادرة دمشق مهما حدث، على الرغم مما تمر به من أوضاع صعبة.
سناك الكندي
ملاصقاً لسينما الكندي وسط دمشق، يقبع "سناك الكندي" الشهير، أول من أدخل "الهامبرغر" إلى المدينة، وعلى إسفلت الطريق أمامهما بقايا سكة الترامواي الذي كان يمر من هنا حتى منتصف ستينيات القرن الماضي.
ما إن تقترب من مدخل السناك حتى تشعر أن كل ما فيه يرجعك عقوداً إلى الوراء: ديكور برتقالي "سبعيناتي" بامتياز، آلة عد نقود تبدو هاربة من أحد أفلام هوليوود القديمة، وآلة تحضير بيتزا عجيبة تحتوي على مكبس لرقّ العجين بشكل ميكانيكي ضمن صينية صغيرة. كل ما في هذا المكان قديم ومهمل، لكنه جميل بطريقة غريبة، يستدرجك لتصويره، وكأنك توثق زمن عزٍّ مرّ من هنا وغاب.
يتحدث أبو فراس، الابن الأكبر لياسين العزي مؤسس المطعم، لرصيف22 عن مشروع والده: "افتتح أبي وعمي المحل عام 1972. كان أبي مغامراً من الدرجة الأولى ومعجباً بأوروبا وآخر صيحات الموضة فيها، وخاصةً المتعلقة بالطعام.
كان عمي يقضي شهر عسله في إيطاليا، برفقة والدي ووالدتي. هناك تعرفوا إلى الهامبرغر وأعجبوا بها. قرر أبي إحضار هذه الأكلة إلى دمشق. تعلموا طريقة تحضيرها وأحضروا معهم كل المستلزمات. خلال أسابيع كان سناك الكندي مقصداً لكل أهل دمشق الذين أرادوا تذوّق هذه الأكلة الجديدة.
بعد فترة قصيرة سافر إلى اليونان وجلب معه ماكينة صنع النقانق، وماكينة خبز البيتزا التي ما تزال موجودة حتى اليوم".
يشرف أبو فراس على المطعم منذ سنوات، بعد أن أصبح والده كبيراً في السن. يبدو من طريقة كلامه بأنه معجب جداً بتجربة أبيه بكل حذافيرها، فلم يغير حتى برغياً واحداً في المطعم. ما زال يحضر الهامبرغر بالطريقة الكلاسيكية التي أتى بها والده من إيطاليا. يؤكد أبو فراس بفخر أنهم الوحيدون الذين يضعون البصل المقلي داخل السندويشة، مما يجعل النكهة لا تشبه أي هامبرغر آخر.
شاورما الصديق
"عام 1906 عاد جدي الأكبر صديق الخباز من رحلته إلى إسطنبول، بعد أن تعلم على يد طباخ تركي تحضير الشاورما على الفحم. كان يخطط لأن يصبح شيخ كار هذه الصنعة في الشام، وهذا ما حدث. فور وصوله اشترى دكاناً في مبنى العابد بساحة المرجة وافتتح "شاورما الصديق"، أول محل شاورما في سوريا، عمل فيه حتى آخر حياته الطويلة التي بلغت 105 أعوام. ها نحن اليوم بعد مئة وخمس عشرة سنة ما زلنا نحمل إرثه وننقله من جيل إلى جيل".
هذا ما قاله أنس الخباز الذي يدير مع أخوته مطاعم شاورما الصديق العريقة في دمشق، وقد ورثوها عن جدهم.
يتحدث أيمن الأخ الأكبر لأنس لرصيف22 عن مراحل تطور العمل: "كان المطعم في المرجة يقدم وجبة شاورما لحم الخاروف كما نقلها لنا جد أبي: صحن شاورما مع قرص كبة مشوية وقرص كبة مقلية، سلطة خشنة تحتوي على الخضار الموسمية، وصحن لبن بخيار. بقي الأمر هكذا حتى عام 1998 عندما قررنا تحويل منزل العائلة التراثي في القنوات إلى مطعم، نقدم فيه وجبات الشاورما ضمن أجواء شرقية بهدف استقطاب السياح والزوار، وحولنا فرع المرجة لبيع شاورما الدجاج، كونها أرخص ثمناً وأكثر ملائمةً لزبائن المطعم ذوي الدخل المحدود".
يؤكد أيمن بثقة عدم وجود منافس لهم على الإطلاق، وأن سر نجاحهم هو في محافظتهم على جودة المواد المستخدمة، إضافة للاهتمام بالزبون ومراعاة راحته.
مرطبات أبو حسن
المرطبات هنا لا تعني المياه الغازية أو العصائر التقليدية. "مرطبات أبو حسن" علامة مسجلة بحد ذاتها، وتعد أقدم مكان في سوريا (والوحيد ربما) الذي يستمر بتقديم المرطبات الدمشقية القديمة "ع أصولها"، أي بزبدية شفافة ممزوجة بالثلج المبروش، وعلى وجهها لوز مقشّر وتؤكل بالملعقة.
يقول غسان نبهان، المدير الحالي للمحل: "يعود تاريخ تأسيس مرطبات أبو حسن إلى حوالي مائة وعشرين عاماً. افتتح جدي عبدو أبو حسن نبهان محله في ساحة باب توما، وقضى فيه ستين عاماً قبل أن ينتقل بعد هدم المحلات في الساحة من أجل إعادة بنائها وتكبيرها، واليوم نكمل عامنا السبعين هنا قريباً من ساحة برج الروس".
يوضح غسان: "نقدم عصائر وشرابات مصنوعة من مواد طبيعية مئة بالمئة وهذا ما يميزنا، ونحضرها على الطريقة القديمة ذاتها. في الصيف الليمون الجامد والعرق سوس والتمر هندي وعصير الفريز والمشمش المجفف الذي تشتهر به غوطة دمشق، وفي الشتاء السحلب والتوتية والمحلاية، وهي مأكولات تقليدية دمشقية. أطمح لإدخال الفواكه الاستوائية إلى قائمتنا بعد أن صارت تزرع في سوريا".
يضيف: "على زمن والدي كانت العائلات الدمشقية تأتي إلى محلنا لتناول المشمش المجفف أو الخشاف أو الليمون، مع صحن جبنة حلوم أو قشقوان وقطعة كعك، لتكون هذه الوجبة بمثابة عشاء خفيف ونزهة في نفس الوقت. كان نهر بردى أغزر من اليوم والطقس أجمل وأكثر برودة. من المؤسف أن مثل هذه الطقوس لم تعد موجودة".
يفتخر غسان بسمعة محل عائلته الطيبة التي جعلته يستقطب العديد من الشخصيات المهمة والنافذة في سوريا منذ تأسيسه، "فحتى الرئيس الأسبق شكري القوتلي كان من زبائننا"، يقول. ويؤكد على أهمية الحفاظ على الطريقة التقليدية في تحضير المرطبات، وعدم اللجوء لتدخل الآلات أو المواد المصنعة، فالناس يكتشفون الغش بسهولة لأن النكهة ستتغير بالنسبة لهم.
أما ابنه زين الذي يبدو بأنه سيخلفه في إدارة المحل، يقول بأنه يحلم بأن يتمكن من تحديث المحل وتجديد ديكوره وتخفيف اليد العاملة مقابل زيادة عدد الآلات. يغضب غسان ويعبر عن استيائه، فيما يستنكر زين غضب والده وإصراره على التمسك بالماضي.
خمارة اسكندرون
لا تشبه خمارة اسكندرون أي خمارة أخرى، ولا حتى أي مطعم آخر. على الرغم من أنها عبارة عن دكانين مفتوحين على بعضها لا تتجاوز مساحتهما عشرين متراً مربعاً، فهي واحدة من أرحب المساحات التي يجتمع فيها الناس، لتناول اللحم المشوي المختار بعناية مع كأس عرق، وللحديث حول كل ما يخطر في البال وما لا يخطر، وتسطير الذكريات عاماً بعد عام.
يصفها طرفة فاتح، مديرها الحالي وحفيد مؤسسها، بأنها أكثر من مجرد خمارة. إنها مسرح مفتوح ومفعم بالحياة.
يقول: "أسّس جدي فاتح فاتح هذه الخمارة في الخمسينيات بعد أن جاء مع عائلته من لواء اسكندرون. اشترى العقار ضمن بناء مبني حديثاً في الزقاق الضيق الذي يصل شارع الباكستان بشارع العابد. أطلق عليه اسم 'لواء اسكندرون'، وبمرور الوقت اختُصر ليصبح 'اسكندرون'. كانت هذه المنطقة تحتوي على أكثر من خمارة، منها فريدي وأبو مرعي وأبو كرم، وهي من أقدم خمارات دمشق. ورغم أن المجتمع الدمشقي محافظ بطبيعته إلا أن جدي ووالدي لم يتعرضا لأي مضايقة، بل على العكس، كان المجتمع متقبلاً أكثر من أيامنا هذه".
يضيف: "أبرز ما يميز اسكندرون هو الحالة الخاصة جداً والمتولدة نتيجة العلاقة مع زبائننا، فتسعون بالمائة منهم هم أصدقاؤنا أيضاً. البعض منهم يأتي إلى المحل منذ أن كان طفلاً مع والده، وهو اليوم يُحضر معه أبناءه. إنه المطعم الشعبي الوحيد في قلب دمشق الذي تستطيع أن تشرب فيه كأساً من الكحول مع وجبة غداء أو عشاء شهية. نحن تقريباً أشبه بالعائلة. نتشارك الذكريات السعيدة والحزينة".
"أبرز ما يميز اسكندرون هو الحالة الخاصة المتولدة نتيجة العلاقة مع زبائننا، فتسعون بالمائة منهم هم أصدقاؤنا. البعض يأتي إلى المحل منذ أن كان طفلاً، وهو اليوم يُحضر معه أبناءه. إنه المطعم الشعبي الوحيد في قلب دمشق الذي تستطيع أن تشرب فيه كأس كحول مع وجبة شهية
يشرب طرفة شفة من كأسه، ثم يصمت غارقاً في ذكرى خطرت له. بعد ثوانٍ يضيف: "كان هاني واحداً من العائلة. أحد زبائننا المداومين. توفي، وكانت وفاته مفجعة لأنه ما يزال شاباً. تخيلي أن أصدقاءه المقربين أقاموا له العزاء هنا ورفعوا لأجله الأنخاب؟ توافد المعزون لأيام متتالية. هذه واحدة من القصص التي لا يمكن أن أنساها".
يحاول تغيير الجو الحزين الذي فرضته القصة فيضيف باسماً: "بحكم أن المكان لا يتسع إلا لثلاث طاولات متلاصقة، فالكل يسمع أحاديث الكل. أنا أحذر الزبائن باستمرار: ما حدا يغلط معي... كل واحد منكم عندي أله CV".
فلافل الشعلان
يعد فلافل الشعلان واحداً من أقدم محال الفلافل في دمشق، ومن أكثرها شهرة وازدحاماً حتى اليوم. أسسه غالب صافية عام 1955 مقابل بيت الشعلان الكبير الذي هُدم الآن، بعد أن تعلم المصلحة على يد أحد المعلمين في حي العمارة.
يتحدث ابنه ماهر لرصيف22: "كانت منطقة الشعلان في الخمسينيات أقرب إلى الحي الشعبي، لا تشبه ما نراه اليوم. معظم بيوتها عربية، البعض منها قصور. آنذاك كان أبي يقدم الفلافل كوجبة، حيث يضع أقراص الفلافل داخل رغيف مخبوز على الحجر، مع الإضافات والخضار وبجانبه كأس لبن عربي. كان النعنع أساسياً في وجبة الفلافل، أما اليوم فلم نعد نستخدمه لأن نوعيته أصبحت سيئة، فخلال ساعات قليلة يذبل ويسود لونه ويصبح غير صالح للاستهلاك.
مع الوقت بدأت الشعلان بالتغير، فهدم عدد كبير من البيوت العربية واستبدل بأبنية طابقية حديثة، إلى أن أصبحت على ما هي عليه اليوم: سوق تجارية لا تنام. هذا التطور لعب دوراً إيجابياً في استمراريتنا ونجاحنا كمطعم، ومن خلال العمل الجاد تمكن أبي من تدريسنا في الجامعات، وأنا من بعده خرّجت أطباء ومهندسين. كل ذلك من خير مقلاية الفلافل".
يفسر ماهر الإقبال الشديد على مطعمه بأنه ناتج عن طريقتهم في تحضير الفلافل والمواد الداخلة فيها ونسب التوابل والبصل والثوم. يحاول تجنب الدخول في التفاصيل. إنها أسرار المهنة.
المطعم الدوار
من بين جميع المطاعم الموجودة في مدينة دمشق، يمكن اعتبار المطعم الدوار واحداً من أكثرها تميزاً وخصوصية، وهو يشكل الطابق الخامس عشر من فندق الشام الذي يتوسط قلب دمشق التجاري في شارع ميسلون.
ما إن تنزل من المصعد الذي يوصلك إلى المطعم وتطأ قدماك الأرض حتى تشعر بشيء من الدوار اللذيذ الناتج عن الحركة الدورانية التي يقوم بها حول محوره، ببطء شديد لكن دون توقف، وكأنه مكوك فضائي سينفصل عن القاعدة في أي لحظة. ساعة وأربعون دقيقة هو الوقت الذي يحتاجه تقريباً كي يكمل دورة كاملة، بالسرعة المتوسطة. جدرانٌ زجاجيةٌ بالكامل كي تتيح للزبائن رؤية المنظر دون أي تشويش. وهل هنالك منظر أجمل من دمشق من أعلى؟
عام 1983 افتتح رجل الأعمال السوري عثمان العائدي فندق الشام بكل مرافقه، متضمنةً المطعم الدوار. يعد المطعم الوحيد من نوعه الذي يستطيع الدوران مشرفاً على دمشق، فاتحاً أمام الناظر لوحات بانورامية كاملة.
يتحدث الدكتور ربيع علاء الدين مدير الإطعام في سلسلة فنادق الشام لرصيف22: "عندما كان الفندق قيد الإنجاز أراد مالكه أن يكون سطحه مميزاً وغير عادي، فجاءته فكرة المطعم الدوار ليكون أكثر من مجرد مطعم، بل أقرب لأن يكون صرحاً سياحياً يجتذب كل زوار دمشق. وبالفعل تمكن من تنفيذ رغبته بإشراف مهندسين سوريين وفرنسيين. كان عليّ أن أضمن بأن الطعام المقدم هنا على مستوى عالٍ من الجودة والتنوع، وهذا ما كان. أولينا اهتماماً كبيراً للطعام وجودته، وخلال تلك الفترة كان المطعم مختصاً بالوجبات الشرقية، والمطبخ السوري بشكل خاص".
يضيف: "استطاع المطعم خلال السنوات التالية أن يثبت نفسه على خارطة أهم المطاعم في المنطقة، وخاصةً بعد إدراجه في قائمة ميشلان لتقييم الفنادق والمطاعم والمنشآت السياحية. الكثير من السياح في تلك الفترة جاؤوا بناءً على هذا التقييم، لأنه معروف عبر العالم بالاحترافية والنزاهة".
ويتذكر بوضوح زيارة عمر الشريف إلى دمشق في التسعينيات، أثناء مهرجان دمشق السينمائي، وتناولهما الغداء سويةً. يقول: "أردت أن أكرم الضيف بمائدة كبيرة فيها ما لذ وطاب من الأصناف، لكنه فاجأني برغبته بتناول المقبلات السورية التقليدية الخفيفة كالمتبل والمسبحة والتبولة والكشكة. قال يومها إنها تذكره بطفولته وبالأكلات التي كانت والدته تحضرها له كونه ينحدر من أصول سورية".
عام 2011 ونتيجة للأوضاع التي أضرت بالحركة السياحية، قررت إدارة الفندق القيام بخطوة لتنشيط العمل. بناءً على ذلك أصبح بإمكان زوار المطعم الدوار أن يتمتعوا بأطباق عالمية من المطبخين الياباني والفرنسي، ليكون بذلك نافذة على مطابخ العالم.
انتهت رحلتنا. شكراً لجميع من سافروا معنا. أتمنى للجميع بطوناً مليئة وقلوباً هنيئة وبلاداً كالبلاد.
*جميع الصور ضمن المادة من تصوير زين خزام
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...