في 13 يونيو 2021 أغلق القوس الأخير على حياة سعدي يوسف، سليل صعاليك لا يأبهون لسلطان، ولا يتكسبون بالشعر، بل الشعر جسر إلى خسارات، وما أكثر معاركه مع حكام وأنظمة وأصدقاء، وفيها أنصت إلى ضميره، ولو قال اليوم شيئاً وعكسه غداً، مثل موقفه من ثورة 25 يناير في مصر، ففي كلا الموقفين يحضر صدق سعدي الذي يلحق باسمه أفعل التفضيل: أكثر أبناء جيله موهبة وغزارة، واجتراحاً للمقال الذي لا يقل حساسية عن نصه الشعري، والأقل حظاً من الرضا الرسمي؛ فعلى كثرة الجوائز التي يطوف بها وكلاء الشيوخ والقذّافين، ويخرجون من جوف الصُّرر عطايا للمأمونين، فلم تضلّ أي هذه الجوائز طريقها إلى سعدي.
الجائزة العربية الشعرية الوحيدة التي ذهبت إليه منحتها مؤسسة أهلية، جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في دبي، في دورتها الثانية عام 1990، وهو أول شاعر يفوز بالجائزة التي تخلو قائمة الفائزين، في موقعها الإلكتروني، من اسم سعدي يوسف لأنه شاء ألا يحتفظ بالجائزة.
ففي نوفمبر 2004، عقب وفاة الشيخ زايد، نشر في مدونته ـ تحت عنوان "رحيل أحد الحالمين بنخل العراق" ـ مقالاً بخبطات فرشاة سريعة لفنان يرسم لوحة قبل الصعود إلى الطائرة: "مع رحيل الشيخ زايد، ممول وحبيب الليبراليين العراقيين، والشيوعيين السابقين، والقوميين الأقحاح، وحاملي أختام السنة والشيعة، والأكراد... مع رحيل هذا الشيخ السخيف، سوف نجد أيتاماً لا يدرون ما يفعلون (أعني لا يعرفون ممن سيقبضون)... سوف يحارون ممن سيقبضون والحق أن الشيخ السخيف الراحل (تغمده صيب من الصلوات!)، كان أغدق على من يسوى ولا يسوى (حسب التعبير الشعبي الدقيق)، أموالاً أرى أن شعب الإمارات كان أحق بها من المحتالين الدوليين العراقيين الذين أقنعوه بتمويل اجتماع ملفق في لندن، لـ(المعارضة العراقية!) كي تقدّم مقترحها السامي بتنحي صدام قبل يومين فقط من بدء الاجتياح الأمريكي، بينما هؤلاء المحتالون العراقيون الدوليون يعرفون جيدا بموعد الاجتياح.
على كثرة الجوائز التي يطوف بها وكلاء الشيوخ والقذّافين، ويخرجون من جوف الصُّرر عطايا للمأمونين، فلم تضلّ أي هذه الجوائز طريقها إلى سعدي
وتابع سعدي: "الشيخ السخيف الراحل (هل سمع أحدكم أو رأى حِكَمه؟)، كان يأتمر بما يراه أسياده الذين نصبوه حارساً على آبار النفط... قالوا له: نحن لا ندفع كل شيء، فادفع أنت أيضاً... الشيخ زايد، رحمه الله، ربما صدع بما أمر، فأعطى وأغدق... لكنني أزعم أنه بحصافته الفطرية كان يعرف أنه يعطي، مرغماً، قوماً لا يستحقون حتى البصقة."
ويتابع الشاعر: "في إحدى زوراتي الإمارات، حرصت على أن أشهد يومياً (سوق التمر) هناك. إنه أجمل سوق تمر شهدته في حياتي، لا نهاية لأصناف التمر، ولا نهاية لجودة هذه الأصناف ومصادرها... أنا أعرف حرص البدوي على حلمه الأثير: أن يكون له نخل بالعراق، وأن يكون عند ماء... هؤلاء المحتالون الدوليون العراقيون، صرفوا حلم الشيخ زايد، الطاهر، سُحتاً حراماً. فليظلوا ملعونين، إلى أبد الآبدين."
قامت القيامة، وحذف سعدي يوسف مقاله من المدونة، ولكنه سرى عبر الشبكة العنكبوتية، وصار أكبر من قدرة سعدي وغير سعدي على السيطرة عليه. وتوالت اتصالات المؤسسة بالرجل، مباشرة وعبر أصدقاء، بهدف الحصول على إجابة تلخصّها كلمة واحدة: هل كتبت هذا المقال المنسوب إليك؟ فلم يردّ. لا أكد، ولا أنكر. فأصدرت المؤسسة، في 16 نوفمبر، بياناً يؤكد نزاهتها واستقلاليتها، "بإرساء العمل المؤسسي"، وجاء في البيان: "وكان لسياسة التسامح وإعلان شأن الحرية للدور المتوازن في العلاقات العربية والدولية التي أرسى دعائمها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ باني وحدتنا ومؤسس دولتنا الحديثة، الأثر العميق الذي مكن جائزتنا الوليدة ومؤسساتنا الثقافية (مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية) من أن تلعب دورها الثقافي المرجو بكل حيادية ونزاهة… ."
وأبدت المؤسسة "أشد الأسف لما بدر من الشاعر مؤخراً من إساءة بليغة وبلغة منحطة لرمز من رموزنا الوطنية والقومية ولشخصية أجمعت عليها الأمم والشعوب بوصفها من رواد الوحدة العربية، ومن دعاة التضامن العربي والعاملين من أجله بلا كلل ومن الذين عملوا من أجل السلام العالمي، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ وذلك عبر مقال منشور في أحد مواقع شبكة الإنترنت، ولإيضاح الحقيقة فإن المقال المذكور لا يدخل ضمن الرأي الذي يمكن الاتفاق عليه كمقال نقدي قابل للحوار والاختلاف، ولا في إطار التعبير الحر عن رأي الكاتب النزيه بل في إطار الإسفاف والانحطاط الذي نأسف له والذي هبط إليه الشاعر فأثار غضب وحفيظة ومشاعر كل من اطلع عليه، كما أثار غضبنا وجرح مشاعرنا لتعرضه لمؤسس دولتنا وباني نهضتها وازدهارها بما لا يليق، وهو الرائد المؤسس الذي نعتز بدوره وبقيادته وبذكراه العطرة بيننا."
قررت المؤسسة سحب الجائزة من سعدي يوسف، "واعتبار فوزه بالجائزة عام 1990 كأن لم يكن، وشطبه من سجل الفائزين بها
وقررت المؤسسة سحب الجائزة من سعدي يوسف، "واعتبار فوزه بالجائزة عام 1990 كأن لم يكن، وشطبه من سجل الفائزين بها... الشاعر لم يترك فرصة أخرى لغير مثل هذا القرار الذي نعتبره حقاً طبيعياً لمؤسستنا، إزاء تجاوز الشاعر لمفاهيم حرية التعبير وحق الاختلاف ولكل المفاهيم الأخلاقية في الحوار، كما أننا ونحن نعلن هذا القرار للساحة الثقافية العربية، لنؤكد لها استمرار العمل بالمفاهيم والأسس والمبادئ التي قامت عليها الجائزة، مبادئ النزاهة في المنح والحيادية في العطاء، وإعلاء شأن الإبداع وحده… ."
لا أتخيل سعدي يوسف فوجئ بالقرار، ولا آلمه سحب الجائزة، لا شأن للقادمين من الأساطير والمقيمين فيها، بأي أمان مشروط. في مقدمة الجزء الأول من أعماله الشعرية، يتذكر سعدي واقعة القبض عليه عام 1963: "أُخذت من المنزل، إلى مركز الشرطة، وبعد ليال هناك، ذهب بي الشرطي، وأنا مغلول إلى محطة القطار، القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد حيث سأحاكم. كنا راجليْن، أنا والشرطي، والطريق بين مركز الشرطة ومحطة القطار يمرّ بكل الأماكن التي أعرفها، ويعرفني الناس فيها: السوق، المقاهي، المكتبة، كان الناس يضطربون مضطربهم اليوم... وأنا أسيرُ بينهم مغلولاً. لم يقل لي أحد: سلاماً... كان الناس مشغولين بشؤونهم، وما أنا من هذه الشؤون، يا لوحشة المسعى!"
مهما يكن الطريق موحشاً فهو اختيار السالك.
امنحني، يا ربَّ النخلةِ
قامةَ نخلةْ
وقد ظل الشيوعي الأخير يتمثل قول الإمام علي: "لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلة سالكيه". كان يقول كلمته ويمضي، وفي رثائه لمحمد مهدي الجواهري (1899 ـ 1997)، يخاطبه: "يا أبا فرات! إلى أين نمضي؟ إلى أين تمضي بنا؟ تركت لنا، أيها الشاعر، ما لا نُطيق: لغةً عرفتَها ونحن جاهلوها، وأرضاً سكنتها ونحن مفارقوها، ومعاصي اركتبتها ونحن لها هائبون. تَقيّتك فضيحة، وتَقيّتنا سكون. أيّانَ سنتمثلُ لك، إذاً؟ لقد تركت لنا ما لا نُطيق. ترى، ماذا سنفعل؟ كيف لنا أن نكون، مثلك، معارضين، قرناً كاملاً؟ من فيصل الأول حتى موبوتو الثاني، وأنت المعارض. أنت الشعر المعارض. ونحن؟ نحن المهيئون للفساد في كل لحظة، نحن الملولون، مقلوبو السترات، ذوو المسافات القصيرة كأنفاسنا".
كتب سعدي قصيدة عنوانها "صلاة الوثنيّ"، وأهداها إلى عبد الرحمن منيف. قراءة هذه القصيدة أعادتني إلى مناجاة أبي نواس، وهو يطوف بالكعبة، "لبيك إن الحمد لك". وسعدي يوسف، في ثلاثة مقاطع، يناجي الله، رب النهر، رب الطير، رب النخل.
يا ربَّ النخل، لك الحمد
امنحني، يا رب النخل، رضاك، وعفوك:
إني أبصر حولي قامات تتقاصرُ
أبصر حولي أمطاء تحدودبُ
أبصر من كانوا يمشون على قدمين انقلبوا حيات تسعى...
يا رب النخل، رضاك وعفوك
لا تتركني في هذي المحنة
أرجوكَ!
امنحني، يا ربَّ النخلةِ
قامةَ نخلةْ...
كتب هذه القصيدة في 26 يناير 2004، وفي العام نفسه توفي الشيخ زايد، ونخل العراق شامخ في خياله، خيال سعدي، فكان ما بدأتُ به هذا المقال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...