لا يزال أثر هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1976 أو "النكسة" ممتداً على الواقع السياسي المصري والعربي. ودائماً ما يدور الحديث حول مسؤولية القيادة السياسية المصرية، ورد فعل الشعب المصري تجاه الهزيمة وما ترتب عليها. بينما يتناسى الجميع، في ظل هذا الجدل، الجنود الذين تواجدوا على أرض المعركة، وكيف كانت أيامهم في الصحراء قبل العودة إلى القاهرة. وعلى عكس ما أشيع، كان لبدو سيناء دوراً رائعاً في مساعدة الجنود التائهين في الصحراء وإرشادهم للوصول إلى القاهرة. منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا، وجدت أبي، الذي كان وقتها ضابطاً في الجيش المصري برتبة ملازم، يحكي عن رحلة عودته من الصحراء بعد الهزيمة.
قبل الحرب
يقول لي والدي أنه قبل الحرب بعدة أيام، قام قائد الفرقة بعقد اجتماع لقيادات الفرقة لمناقشة الموقف، وكانت الرتب الصغيرة حاضرة. لهذه الرتب إيجابيتها وسلبياتها. من ضمن إيجابيتها طرح الأسئلة مباشرة بدون رهبة من القيادة، ومن ضمن السلبيات عدم وجود خبرة القتال في العمليات الكبرى. وفي هذا الاجتماع، سأل أحد صغار الرتب عن سبب مجيئهم في ها المكان (الشيخ زويد)، أجاؤوا للدفاع أم للهجوم؟ وكان رد قائد الفرقة أنهم جاءوا للدفاع. اندفع الضابط في السؤال عن إجراءات الدفاع، أما نحن فكنا على الأرض ولم نستطع رؤية هذه الإجراءات مثل حفر الخنادق وإعداد مواقع حصينة وغيرها. كان موقف القائد محرجاً جداً ورده غير منطقي، إذ قال إننا جئنا للدفاع ولكن لا نريد أن نظهر للعدو أننا ندافع حتى لا يكشفنا، في حالة قيامه بالاستطلاع. وأمام هذا الإحراج صدر قرار بنقل رؤساء الأفرع إلى مدرسة تبعد حوالي أربعة كيلو مترات عن الوحدة.
اضطررنا إلى سماع إذاعة إسرائيل- فلم يأتنا إرسال الإذاعة المصرية- وتمت إذاعة حلقة بعنوان "موتى بلا قبور"؛ تتحدث عمن يموت في الصحراء بلا قبر كنوع من الحرب النفسية الممارسة علينا
موتى بلا قبور
الإسرائيليون كانوا يرصدوننا، وعرفوا أنه تم نقل القيادة إلى هذه المدرسة، وأننا ظللنا في وحدتنا لأننا كنا من المغضوب عليهم. وفي ليلة الرابع من حزيران/ يونيو، وبعد أن تناولنا العشاء، اضطررنا إلى سماع إذاعة إسرائيل- فلم يأتنا إرسال الإذاعة المصرية- وتمت إذاعة حلقة بعنوان "موتى بلا قبور"؛ تتحدث عمن يموت في الصحراء بلا قبر كنوع من الحرب النفسية الممارسة علينا.
في الصباح وصل إرسال الإذاعة المصرية "صوت العرب" وسمعنا بيانات أحمد سعيد حول إسقاط طائرة إسرائيلية. لكننا لم نر أية طائرات سقطت حولنا. وعند التاسعة صباحا سمعنا أصوات العدو، والحرب وهي تقترب، وكان بيننا وبين إسرائيل بلدة اسمها الماسورة. نزل الإسرائيليون في هذه المنطقة وقتلوا قائد الفرقة. يروى- ولا أعلم مدى صحة الرواية- أن مقاتلة إسرائيلية أمرت رئيس الأركان أن يرفع يديه، وحينما رفض وطلب رتبة مساوية له ليتحدث معها، أفرغت الرشاش فيه وقتلته.
اللواء الأحمر
على حدود منطقة الماسورة كانت هناك الكتيبة "16مشاة" من ضمنها اللواء السادس الذي أطلق عليه اللواء الأحمر. تمت هزيمة هذا اللواء بشكل كامل، حيث تعرض لهجوم كاسح براً وبحراً وجواً على يد القوات الإسرائيلية، على الرغم من وجود بطولات فردية كبيرة حدثت وقتها. وعندئذ طلب منا العقيد حسين أبو زيد أن نركب السيارات المتاحة ونتوجه للعريش. كنا صغاراً في السن ولا ندري ما هي الحرب. قيل لنا وقتها أن اللواء 114 مدرع سيأتي ليطوق منطقة العريش ويفك الحصار. الرتب الأكبر قالت إنه لا فائدة من انتظار اللواء وأكملوا مسيرتهم. وبقينا نحن الرتب الصغيرة في انتظار الفرقة 114. قمنا مع العقيد حسين أبو زيد، والذي كان رجلاً وطنياً، بإعادة تشكيل المجموعة التي معنا، وتقسيم الجنود وتوزيع المهام حتى يأتينا المدد. لم يأت المدد، فوجدنا بدلاً من الفرقة 114آرييل شارون الذي قام بتدمير العريش وارتكاب مذبحة ضخمة هناك. حينها، طلب العقيد حسين أن ينجو كل شخص بنفسه. أخذت زمزميتي وسلاحي (رشاش بورسعيد) وحقيبة "الجراية" وانطلقت أنا وثلاثة أشخاص لا أذكر حالياً من هم بالتحديد.
مساعدات البدو
في البداية قابلتنا فتاة بدوية صغيرة في السن، في حوالي الرابعة عشر من عمرها. ساعدتنا على تبديل ملابسنا العسكرية بملابس بدوية حتى لا تكتشفنا القوات الإسرائيلية. ثم وصفت لنا المخرج حتى منطقة اسمها الميدان، وهي منطقة رمال متحركة. قابلنا فيها أحد شيوخ القبائل، وكان رجلاً كبيراً في السن، ذو لحية بيضاء كبيرة. سقانا من حليب الإبل وطلب منا أن "ندب الزمازم"، أي أن نملأ زمزمياتنا. وقال لنا ألا نخجل من طلب "دب الزمازم من أي بدوي نقابله"، وأن نحذر، فالماء وإن بدا قريباً منا، من الممكن ألا نراه من يأسنا ونموت عطشنا. وقال لنا أن نضع إحدى النجمات التي تظهر في السماء من بعد الغروب وحتى الحادية عشرة مساءً فوق الكتف الأيسر ونسير معها حتى سنصل للقاهرة. كنا بالطبع على دراية بالملاحة في الصحراء ويجب دائماً أن نختار هدفاً ثابتاً للاتجاه حتى لا نحيد عن خط السير.
تحت الشجرة
أثناء المسير وجد والدي ورفاقه شجرة عملاقة جلست عند جذعها مجموعة من المصابين والجرحى العطشى. فأعطوهم الماء الذي معهم، حتى إن كانوا سيموتون، فلا يموتون عطشاً. عرفوا فيما بعد أن القوات الإسرائيلية كانت ترصدهم ولكنها تركتهم وشأنهم، فمن يسير في الصحراء سيموت عطشاً، ومن سيصل للمضايق سيتم أسره في عتليت أو قتله هناك.
وكنت قرأت في مجلة "Digest" عن عامل أمريكي كان يعمل في الصحراء. هب عليه إعصار عزله عن العالم. فاستخدم معجون الأسنان في ترطيب شفتيه وحلقه حتى جاءته فرق الإنقاذ. فأعطينا المعجون الذي معنا للباقين ليعينهم على البقاء. مكثوا تحت الشجرة حتى السادسة مساء؛ موعد ظهور النجمة، وكنا نرسل الجنود في كل الاتجاهات حتى مسافة مئة متر كي لا يتوهوا بحثاً عن الماء فلا يجدوا شيئاً. وبعد أن بدأوا المسير من جديد، على بعد حوالي ثلاثمائة متر، وجدوا نخلاً. وكان شيخ القبيلة البدوي طلب منهم أن يحفروا أسفل جذع النخلة ليجدوا الماء، وهذا ما تم بالفعل. بعد مسافة ما، وجدوا بئراً وشربوا منها وملأوا الزمزميات.
هناك سيجدون مراكب (أبو ذكري) وهي ستعود بهم إلى لقاهرة. وهذا ما حدث فعلاً، فبعد عدة كيلومترات شموا رائحة اليود، التي كانت رائحة النجاة
الوقوع في الأسر
أثناء وجودهم تحت الشجرة، تعرفوا إلى مجموعة من الضباط منهم ضباط تربية بدنية وضباط صاعقة. أحدهم طلب منه أن يترك من معه ويذهبا سوية، فالذين رافقوا والدي مصابون وسيعوقون الحركة. لكن والدي رفض، وبالفعل تركه الضابط ومشي بمفرده وتم أسره بعد عدد من الكيلومترات. ذات الشيء حدث مع الضابط الآخر الذي انضمت إليه مجموعة من الجنود الذين طلبوا الانفصال عن مجموعتنا والانضمام إليه. وتم تقسيم الطعام والأكل بينهم، ثم تم أسرهم أيضاً بعد ذلك. كان معنا في الرحلة رجل مدني يعمل نقّاشاً. ونظراً لأنه غير معتاد على أجواء الحرب، وبعد إحدى الغارات الإسرائيلية التي انبطحنا اختباءً منها على مسافات متابعدة، قرر سرقة الطعام والمشي بمفرده. لكننا استطعنا تتبعه بسبب ملابسه المميزة وسط الرمال، وأكمل معهم الرحلة. هو لم يكن خائناً، لكنه أصيب بانهيار نفسي.
الوصول إلي بئر العبد
أثناء سيرنا قابلنا شابين من أهالي (بئر العبد) وعرضا عليهم الذهاب معهما لنبتاع ما نريد من طعام من قريتهم، ثم انفصلنا إلى مجموعتين. واحدة انتظرت، والأخرى ذهبت وكانت بقيادتي. المسافة حتى القرية كانت قصيرة، إلا أننا، ومن شدة التعب، اعتقدنا أنها بعيدة وأن الشباب البدوي يضحك علينا لاستدراجنا. حتى أنني جهّزت السلاح لإطلاق النار عليهم، لولا أننا وصلنا إلى القرية بعد أن هدأ الشباب من روعنا. وفي القرية اشترينا الطعام وكل ما يلزمنا لاستكمال الرحلة. كما اشترينا خروفين، وكان لأحدهما دور في النجاة.
نهاية الرحلة
بعد أن عادوا إلى المجموعة الثانية وبدأوا المسير، قابلوا رجلاً بدوياً يعمل دليلاً. وكانت معه مجموعة يعمل على تهريبها، لولا أن ظهر له الإسرائيليون. سقوه الماء لأنه كان ظمآناً من الحرارة والجري. وكان موعد ذبح الخروف الأول للغداء قد حان. اعتقد البدوي أن الذبح هو تكريم له، وعملاً بالمثل البدوي "إذبح تربح". وبالفعل، ظل معهم حتى أوصلهم لآخر بئر للمياه وحدد لهم طريق العودة. كانوا سيتوهون بعد أن مشوا عدّة كيلومترات في الطريق الخطأ. رفض أن يأخذ منهم أي نقود على الرغم من أن الشهر كان في بدايته وكانت مرتباتهم معهم. أعطوه السجائر التي ابتاعوها من القرية لأنها لم ترق لهم، لكن الدليل سعد بها جداً.
طلب هذا منهم، بعد أن وصلوا إلى آخر بئر، أن يتجهوا نحو الغرب. هناك سيجدون مراكب (أبو ذكري) وهي ستعود بهم إلى لقاهرة. وهذا ما حدث فعلاً، فبعد عدة كيلومترات شموا رائحة اليود، التي كانت رائحة النجاة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...