"وجدنا مريم.
لكن ما الذي جعلها تذهب إلى 'بيت الأمان' عند أول فرصة تمكنت فيها الهروب من المنزل؟".
هذا التساؤل طرحته ولاء السطري، صديقة شابة فلسطينية من قطاع غزة المحاصر تدعى مريم عاشور (21 عاماً)، فُقدت في 27 أيار/مايو، وعُثر عليها في 31 أيار/مايو في "بيت الأمان للرعاية الاجتماعية للنساء"، الذي يُعرّف عن نفسه بأنه "مؤسسة حكومية إيوائية تعمل على حماية النساء المعنفات وإعادة حقوقهم المسلوبة".
لكن هذه المؤسسة أعلنت عن وجود مريم فيها، وسلّمت مريم لوالديها. ووُثّقت عودة مريم إلى المنزل بكاميرا شقيقتها التي نشرت سلسلة فيديوهات على انستغرام لتزفّ الخبر.
الجدير بالذكر أن مريم وُصفت بـ"المضطربة نفسياً" عند إعلان فقدانها وهو ما تنفيه صديقاتها اللواتي تحدثن عنها على مواقع التواصل الاجتماعي وأعربن عن قلقهنّ تجاه مصيرها بعد انقطاع أخبارها عنهنّ لأشهر عدة. وأشرن في منشوراتهن إلى أن مريم كانت تتعرض للتعنيف في منزلها، وكانت تحكي العنف الذي تتعرض له في مجموعات آمنة ومغلقة. وكتب بعض روّاد التواصل الاجتماعي عن تخوفهم من تكرار سيناريو قتل الشابة الفلسطينية إسراء غريّب إذ تتشابه عدة تفاصيل بين الاثنتين.
حساب مريم على فيسبوك كان شاهداً على صرخاتها المستترة. فهي تحب الكتابة والشعر واستغلت موهبتها فيهما لتحكي ما يجول في خاطرها. ولكن مع عودتها إلى المنزل أُغلق هذا الحساب، وهو ما يطرح علامات استفهام كثيرة.
"مريم مش معنَفة"؟
بدأت الحكاية حينما نشرت إحدى عضوات مجموعة "Gaza on line" على فيسبوك منشوراً تعلن فيه فقدان مريم محمد يونس عاشور، منوهةً بأنها "تعاني اضطرابات نفسية".
اللافت أن شقيقة مريم، عائشة، نشرت عبر حسابها على انستغرام، بعد أن تحول الموضوع إلى قضية رأي عام، وثيقة متابعة علاجية، تزعم أنها لمريم، ويُزعم فيها أنها مضطربة نفسياً، قائلةً إنها عام 2019، شُخصّت باضطراب ما بعد الصدمة، وأن أعراض اكتئاب ظهرت عليها في الأيام الأخيرة. وأطلقت عائشة هاشتاغ: "#مريم_مش_معنفة".
ومع شرح عائشة، قال البعض إن هذه قد تكون تأكيدات على أن مريم ليست في مكان آمن ولا بدّ من مساعدتها.
واتهمت عائشة ولاء السطري وهي من صديقات مريم المقربات بأنها "تنشر الإشاعات" وأن مريم نفسها تقدمت بشكوى رسمية ضدها. ونشرت كذلك فيديو لخالها وهو يتحدث عن حسن أخلاق الأهل وأنهم لا يعرفون العنف في المنزل.
وظهرت مريم في فيديو من منزلها وهي تتحدث بالعربية الفصحى عمّا جرى قائلةً إنها "خرجت من المنزل يوم الخميس لأنها كانت في ظرف معين لحل بعض الأمور بطريقة ودية وقانونية وعادية وليس بالبلبلة"، مضيفة أنها فوجئت ببعض الأشخاص الذين استخدموا اسمها لنشر الفيديوهات والمنشورات التي "لم تسمح بها".
وطالبت "كل من جعل من اسمها رأياً عاماً بحذف جميع الكلمات التي مسّت عائلتها، والدها ووالدتها على الأخص". وقالت: "أنا لا أمر بكل ما قيل عني. ولكن كانت ظروفاً مؤقتة، وأنا اليوم سعيدة ومرتاحة ولا يتم تشكيل أي ضغوط علي لتصوير هذا الفيديو ولكن من الضروري أن يشاهد الناس أنّي بخير وأنّي لست محبوسة".
وختمت: "أشكر هذه القصة، أو هذا الموقف المرير الذي أظهر لي وجوه الناس الذين كنت أحسبهم أصدقائي والذين قد أحدثوا هذه البلبلة وبدأوا بها. وكل شخص لا يحذف كلماته، سيتم محاسبته قانونياً كما قدمت اليوم أول شكوى ضد أول شخص بدأ بهذه البلبلة. من قال إني أريد أن أصبح رأياً عاماً؟ أستطيع حلّ مشكلاتي بنفسي".
الفيديو نشرته والدة مريم. ومن التعليقات عليه كُتب: "سكروا الصوت واتطلعوا على ملامحها وهي بتحكي". وعلقت صديقة لها تدعى ملك أحمد: "أحب ما على قلبنا تكون صادقة وتكونوا مناح معها بس الله لا يسامحكم إذا بتحكي هيك لأنكم بتهددوها. وخير؟ وين حسابها؟ وين تليفونها؟".
وكتبت خالة مريم في أحد الردود على التعليقات: "الله يسامحها بنت أختي، هي اللي خلّتنا نعطي أمثالك حجم أكبر من حجمكم".
وتلقى "بيت الأمان" في غزة الكثير من الانتقادات لتعامله مع قصة مريم، وكان المبرر: "تبليغ الأهل وتطمينهم خطوة مهمة وضرورية عند استقبال حالة الإيواء في مؤسسة بيت الأمان". ومما كُتب للقائمين على المؤسسة: "وين المنطق لمّا تبلغوا أهل المعنَفة اللي بتكون هربت من عندهم لعندكوا بهدف 'الأمان'؟ لما تبلغوا معنّفها بمكانها وتساهموا بإرجاعها للخطر والتعنيف. تصرفوا كبيت أمان عنجد. مش بيت تواطأ مع المعنِفيين". و"هو بيت أمان لأهل المعنَفة".
"بالوقت يلي كلنا عم نعيش هبّة وعم نراكم وعي جديد ع مين إحنا كشعب وشو بدنا، بطلعوا أهل مريم، وبخونوا هبّتنا، وبفكروا إنه إحنا رح نسكت. مش رح نسكت. لا وطن حرّ دون نساء حرّة"
رفض مقابلة مريم
"اليوم ع أساس كنا نروح لبيت مريم عاشور. تواصلنا مع والدتها وحكينا معها أنه إحنا جايين لنشوف مريم ونتطمن عليها لكن أمها نكرت وكذبت وقالت الرقم غلط وهاد مش بيت عاشور ولا تتصلوا تاني. مريم لو جد بخير كان ما كذبت أمها. كان سمحت إلنا نيجي ع البيت".
هذا ما زعمته إحدى صديقات مريم، وتدعى ياسمين أحمد. تقول إنه يجب أن يكون في غزة قانون يحمي الفتيات من الأهل لأن هناك الكثيرات ممن يعشن داخل سجون وليس منازل. "لا قانون ولا مؤسسات قادرة تحمي بنات غزة. مش إنسان وما إلها أي حقّ".
ولفتت إلى أن كل يوم يمر على مريم في المنزل يشكل خطراً عليها وأن مريم "تحتاج لنا".
في سياق متصل، كتبت الناشطة النسوية الفلسطينية سارة أبو غزالة: "إحنا مش إنسان بالنسبة لمجتمعنا الأبوي". وأضافت: "أهل مريم وكل من يشبهم عار على شعبنا. بالوقت يلي كلنا عم نعيش هبّة وعم نراكم وعي جديد ع مين إحنا كشعب وشو بدنا، بطلعوا أهل مريم، وبخونوا هبّتنا، وبفكروا إنه إحنا رح نسكت. مش رح نسكت. لا وطن حرّ دون نساء حرّة".
كل موت كان يمكن منعه، يعدّ جريمة/على العالم أن يطالب بالحقيقة حين تتوزع أشلائي في أيدٍ باردة/أنا لا أدري كيف سأسافر من هذه البلاد، وعائلتي لا تسمح لي بالبقاء وحدي في غرفتي... مما كتبته مريم عاشور قبل إرجاعها إلى منزلها وإغلاق حسابها على فيسبوك
كلمات مريم
استطعنا قراءة كلمات مريم قبل أن يتم إغلاق حسابها. في ما يلي أبرز المنشورات التي أثارت شكوكاً حول الواقع الذي تمرّ به الشابة الغزيّة:
-1-
مشكلتي كفتاة فضولية مغمّسة بالقلق، أفتقد البنات لما يغيبوا فترة بلا تفسير، ولأنني مررت بهذا السيناريو، يقلقني سكوتهم لما يرجعوا، أعرف أن ثمة لاصقاً على أفواههنّ، ما برتاح وجداني وأريد أن أعرف ما جرى، هل هنّ حالياً تخلصوا من الظروف اللي قطعتهم عنا أم أن وضعهنّ ليس آمن، ممكن أسهر لوقت طويل في تفكيري، حياة البنات تؤرقني فعلاً، خوفي عليهنّ أكبر من طاقتي، أفكر بحمايتهنّ جميعاً، ووضع إنذار في حياة كل واحدة، تنبّه العالم لأن ثمّة واحدة هنا، لا تتحدّث، ثمة واحدة تعنّف، ثمة واحدة، عشرة، أو مجموعة في خطر.
-2-
متى بدنا نغير غزة لمكان قابل للحياة للإناث؟
متى بدنا نحس بالأمان وإنه إحنا مش بغابة!
-3-
أنا لا أدري كيف سأسافر من هذه البلاد، وعائلتي لا تسمح لي بالبقاء وحدي في غرفتي والسفر بخيالي حتى!
- ريما
(كانت توقع بعض منشوراتها باسم ريما، ولكن مضمون المنشور كان يتضمن اسمها. وكأن ريما تروي أحداثاً من حياة مريم)
-4-
أمي، أمي تحديداً، تظنني أعاني مرضاً نفسياً، تحاول ضمي لمجالسهم خارج غرفتي، أحياناً تناديني: "مريوم تعالي بدي أشوفك"، أحياناً تهددني بقسوة، تعبر لي عن تخوّفها من التنقل بي بين الأطباء النفسيين مستقبلاً، عائلتي تظن بأنني مجنونة، يخافون صمتي وانطوائي، لكنني أقوم في الليل، أمرّ بغرفهم، أقبل أعينهم النائمة من أبواب غرفهم، الليل لي، لشعري القصير، لقدميّ الطويلتين، لقميصي الواسع، جو البيت لوجهي الدافئ مساءً، أتلذذ في الرقص ليلاً، لو أن أمي تقوم مرةً واحدة من نومها، لأدركت أنني أكثرهم حياةً.
-5-
في اليوم الأخير من فبراير تزوجت إحدى صديقاتي، كانت تدرس معي الفصل الأول من العام الماضي في تخصص اللغة العربية، في أسبوع الإختبارات النهائية كانت تمضي الوقت بكياً، تأتي أحياناً بهواتف مسروقة من عائلتها، برصيد شحيح، ثم انقطعت عنا فيما بعد، علمنا، أنا وصديقتي الأخرى، أنها في الواقع ممنوعة عن العالم، معاقبة على آثامٍ لا تُذكر، من قِبل عائلة لا تعرف الدين إلا لِماماً، كنت أقضي الشهور وأنا أفكر بما يجري في بيتها، فهذا ما يجيده عقلي، أن يبحث في أسرار البنات أمثال صديقتي، قبل أن أجرّب أياماً (تقطر حلاوةً)، هذا العام اقتحمت بيتها مع صديقتي، لأن قلبي سينشق من القلق، صافحتني كأنها شبح، شبحٌ يرتجف، كنت ألمس يداً شفافةً، عجبتُ من الملاك الذي هزُل، فوجئتُ بوشوك حفل زفافها، تعجّبتُ، إذ أين المنطق من تصدير فتاةٍ أمثالها من حبسٍ إلى بيت الزوجية؟ وكيف تتماثل للشفاء من كل الذي عاشت! هل يعقل أن يرضى الرجال الزواج من فتاةٍ مختلةٍ بسبب التعنيف، -فقط لأنها جميلة-؟
نزلت وأنا أقلّب الأمر وأصارح صديقتي بصدمتي من قبح العالم، فواجهتني قائلةً: يا هبلة هي موافقة، هرباً من أهلها!
-6-
أقبل التعازي
بخسارة متاع الحياة
الدنيا
دوماً
باسم الأنوثة
التي أخذتها
من دون
أن
أختار.
-7-
أعطيني فرصي يا حياةُ
حتى لا تقولي تخلّت.
-8-
حرية يا أخي!
لدي سيرة كاملة من
الحب
سيرة كاملة من
العنف
الخوف
الصبر
الأمل
الانتظار
التضحية
التنازلات
تنازلت عن بديهيات في
حياة البنات
تنازلت عن صوتي
مقابل أن أعيش
طعام
شراب
بيت
-عفواً شو ناقصك؟-
حريتي
حريتي يا أخي
حريتي في اختيار الكيفية
التي أريد أن أعيش
في تسريحة شعري
في ميعاد نومي
في تجوالي داخل المنزل
وخارجه
أريد حريتي والاطمئنان
خاطري مكسور
من فوق السماء السابعة
حتى النملة التي تدبّ
على أرضية غرفتي
هاك يا خالقي
أنا أعمل لأنقذ نفسي
أعمل بيدي وبعقلي
أرتب حلولاً
أفكر بالوسطية
أمنح يدي للأصدقاء
من يمسكها ويسحبني
فليأخذ
لكن خاطري مكسور
لا أحد هنا
يبحث عني
لا أحد
ينتظر تلويحة يدي.
-9-
مرة بدك تنزلي منشور على الفيس بوك تلعني فيه هالبلد، مرة بدك تقولي يارب آخر حبة أمل لا تدع الرياح تؤذيها، مرة بدك تصوري حالك فيديو تقرأي فيه نص انتحارك المكتوب من شهر سبتمبر المنصرف الله لا يعيده من شهر، مرة بتبكي، مرة بترقصي، مرة بتصدقي عالم كذابة، مرة بتسلمي مصيرك اضطرارياً للزمان، مرة بتوقف الدنيا، مرة بتحسي الأحداث كلها مجمعة سوا ويا دوبك تلحقي تلافي الخسارات المتتالية، مرة بتقرري موتك قسراً، ثم بتفكري إنه حرام يموت شخص لم يعِش، وأن للأموات حق في الحياة، ثم بتقرري إنك رح تعيشي غصب عن الأيام، بتحسي إنه خلص هاد آخر رمق، ثم بتكتشفي إنك باقي عندك شويتين رجاء، بتترجي، بتضلي تترجي إنك تعيشي، بس عزيزتي لازم تعرفي بدك تضلي تقابلي كتار من عديمي الشفقة والضمير، بتصبري حالك بإنه سكوتك هلا ذكاء مش ضعف، لإنه بهالكوكب الحق عليكِ ظالمة ومظلومة، بتفكري إنك بعد حينٍ رح تفضحي كل من مسّك بخوف، وعودك وحسراتك ونقصان العيش هم التلات الشعلة لاستمرارية التحمّل، تحمّلي للإنتقام، تحمّلي للابتسام، تحمّلي.
-10-
"كل موت كان يمكن منعه، يعدّ جريمة".
-11-
على العالم أن يطالب بالحقيقة حين تتوزع أشلائي في أيدٍ باردة، تدفنُ بلا أن يكون لقشعريرة الأحياء أمام الموت هيبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...