تحصل أشياء في الحياة تغيّرنا، نصبح بعدها أشخاصاً آخرين، كصراخ إسراء وهي على حافة الموت. ومهما تكرّرت، لن تصبح أصوات النساء اللواتي يستغثن ليهربن من الموت أمراً مألوفاً، فاعتقونا من قشور الأمور، من أسطوانات التبرير وشعارات النفي، والمؤامرات الكونية عن النسوية. اعتقونا من أولوياتكم الفارغة التي تبرّر قتل النساء، وكل تلك الألاعيب المألوفة التي تحاول التهامنا ورمينا في دوامات نقاشات سخيفة أمام الواقع.
الواقع هو أن امرأة قُتلت بداعي الشرف. قتلها رجال، ضربوها، عنّفوها حتى الموت. كسروا عمودها الفقري من العنف. كل هذا الألم، وتتوقعون منّا أن نغض البصر عما حصل؟ وأن نكترث لاتهاماتكم بأننا لا نحترم عادات مجتمعنا وتقاليده؟ تريدوننا أن نحترم شرف العائلة، بينما طريق "شرف العائلة" معبّد بجثث أخواتنا. عاداتكم وتقاليدكم هي مقبرة كبيرة ترمون فيها جثث النساء. "شرف العائلة" هو مقبرة جماعية للنساء مغطاة بالتبريرات ومحمية اجتماعياً وقانونياً ودينياً.
النسوية ليست اختراعاً غربياً، بل وسيلة مقاومة عالمية ضد العنف بكل أنواعه
استراتيجيات التبرير الذكورية باتت أسطوانة مُملة، تعيد نفسها بمختلف الأشكال. بعد كل جريمة شرف/عنف من قبل رجل/ رجال، ينهمر علينا مهرجان من التبريرات. أراقبهم بملل، ثم بغضب. يستكثرون علينا لحظة صمت عن روحك يا إسراء، وعن أرواح كل النساء اللواتي قُتلن قبلك. يستكثرون علينا الوقوف بوجه جزّارينا المستقبليين، يتوقعون منا أن نقف مثلهم بحضور العنف، ونغضّ النظر عنه وكأنه لا يعنينا. العنف الذين تبررونه لبعضكم البعض هو الظل الذي يلاحقنا. والنساء منا اللواتي لا زلن على قيد الحياة، هن أولئك الناجيات من الموت على يد رجل. يعيّرنا الذكوريون بمطالبتنا بالمساواة، فالمساواة بالنسبة لهم أن نعمل في أشغال شاقة، أمّا المساواة بالنسبة لنا، فهي في أبسط الأمور وأكثرها تعقيداً. المساواة لنا هي أن نبقى على قيد الحياة. المساواة هي أن نعيش من غير خوف وأن نمشي في الطريق بحرية، أن نخرج من بيوتنا أو نظل فيها، المساواة بالنسبة لنا هي أن نشعر بالأمان في كل مكان... أمّا المساواة بالنسبة لكثير منكم، فهي أداة لحرمانكم من قتلنا، أو تعنيفنا أو التحرّش بنا أو السيطرة على أجسادنا واللائحة لا تنتهي.
قضايا العنف في منطقتنا أصبحت كالمنخل، مع كل نقاش هناك من يُسقط قناعه التقدّمي، ليعلو صوته على صدى الجريمة، بالتبرير والتخوين: هؤلاء النسويات الغاضبات، كارهات الرجال، أفكارهن غربية.
دعونا نغضب دقيقة أو سنة، أو لسنوات. دعونا نحزن ونغضب على إسراء، وقبلها سارا، وقبلها الكثير من النساء... قبل أن تبدأ مسابقاتكم اليومية للتخوين.
تريدوننا أن نحترم "شرف العائلة"؟ عاداتكم وتقاليدكم هي مقبرة كبيرة ترمون فيها جثث النساء. "شرف العائلة" هو مقبرة جماعية للنساء مغطاة بالتبريرات ومحمية اجتماعياً وقانونياً ودينياً
قضايا العنف في منطقتنا أصبحت كالمنخل، مع كل نقاش هناك من يُسقط قناعه التقدّمي، ليعلو صوته على صدى الجريمة، بالتبرير والتخوين: هؤلاء النسويات الغاضبات، كارهات الرجال، أفكارهن غربية
يا "رفيق"، أيها المثقّف المحاط بالكتب والمكتبات، والذي لا يضيع فرصة لاستعراض نظرياته الحقوقية عن المواضيع الاجتماعية. ويغرقنا بالانشراحات الصدرية النسوية الحقوقية. ألم يمر عليك في كل هذا الكتب، كيف يحاول خطاب التخوين تجريد النسوية من المصداقية مثلاً؟ أو أن النسوية ليست اختراعاً غربياً، بل وسيلة مقاومة عالمية ضد العنف بكل أنواعه. هل خطر لك يوماً أيها "الرفيق" المفكّر العميق، أن النسوية في بلادنا هي ردّ فعل طبيعي على العنف والتمييز؟ هل فكرت يوماً أن الاعتراض على الظلم والتنظيم ضد الاستعمار أدى إلى طرد المستعمرين؟
جداتنا تركوا الكثير من المعرفة لكل الناس، نحن نستعملها لنقاوم، لنطور استراتيجياتنا، لنحمي بعضنا أكثر
إن جرّدنا النقاش، وأعدناه إلى أساسه، إلى الظلم ومقاومته، من الممكن أن نستنتج أن هناك "رفاقاً عميقين" في مكان ما، تحت كل السياسات المغلّفة بغزل البنات، لا يرون أن العنف ضد النساء هو شيء مرفوض. يتسألون لماذا نغضب؟ لأن تحت كل هذا "الفوفاش" يوجد سلطان يظن بأن أجسادنا هي امتداد لملكيته الذكورية لكل شيء. وكل استراتيجيات التسكيت، والتهديد والتخوين والوعيد، وأصبع الذكورة المرفوع في وجوهنا، هذا كله واجهة بينهم وبين أنفسهم يحاولون أن يحجبوها.
نحن المرآة التي تعكس داخلهم العنيف، فيسكتوننا حتى لا يرون جرائمهم. لن أناقش بعد الآن، فنحن تعبنا من النقاش، تعبنا من رمي كل طاقاتنا ومعرفتنا في بئر ذكوريتهم العميقة. تعبنا من دعوتهم للقراءة، فجداتنا تركوا الكثير من المعرفة لكل الناس، نحن نستعملها لنقاوم، لنطور استراتيجياتنا، لنحمي بعضنا أكثر.
أما هم، فمن لا يقتل يبرّر، والتبرير هو نصف الجريمة. سوف نبقى نسويات، مهما هوجمنا بالتخوين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون