شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أمي الصغرى سيناء... كيف هو حال الحب في زمن الحرب؟

أمي الصغرى سيناء... كيف هو حال الحب في زمن الحرب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 1 يونيو 202111:56 ص


كنتُ شاهداً على حبكما. كنتُ مرسال الغرام... أنت بالتأكيد تتذكرين حين كنتِ تنادينني، وأنا ألعب مع الأولاد في الشارع، فأترك ما بيدي، وأجري نحوك. أصعد درجات السلم حتى أصل إلى الدور الأخير. تستقبلينني كالعادة، بحضن دافئ، ثم تسحبينني نحو الغرفة البعيدة، وتناولينني ورقة مطوية بعناية فائقة. أعرف مهمتي تماماً، سأحمل هذه الورقة، واتجه بها ناحية الشارع الخلفي، وهناك سأجده. طويل ووسيم، بعيون ملونة، وشعر بني. ينتظرني، ينتظر كلماتك المكتوبة بخط رقيق. بعد قراءتها، يناولني هو بدوره ورقة أخرى؛ خطاب آخر أحمله إليك. ربما يحمل وعوداً، ربما يبوح فيه بمشاعره، أو بعتاب على أحداث لم أعاصرها. فأعود إليكِ من جديد، ويتجدد القسم: "والله العظيم ما هأقول لحد".

أنتِ أمي الصغرى، شقيقة أمي الصغيرة التي ربتني وعلمتني، واهتمت بي أكثر من أمي. لذلك كنتُ خزانة أسرارك، أسرارك التي تخصك وحدك. تخصنا. وكان حبك لسليمان الفلسطيني أعظم تلك الأسرار. وقتها كنتِ في سنة دبلوم التجارة النهائية، وكنتُ أنا في المرحلة الابتدائية. وكانت الأسرة قد اختارت لكِ ابن عمك الإسماعيلاوي ليكون خطيبك الحالي، وزوجك المستقبلي. كنت أعلم أنكِ لا تحبين هذا القريب، وأن قلبك عالق بمحبة الفلسطيني، وأن مواجهة أخلالك/ إخوتك بهذا الأمر ستكون جريمة كبيرة وتحدياً خطيراً. غير أن الحب الذي في داخلك كان أقوى من كل شيء. وهكذا رأيتك وأنتِ تخوضين وحيدة حربك الضارية. قلتِها بكل حزم: "لن أتزوج من ابن عمي. ولا زوج لي غير الفلسطيني". جملتك هذه كانت أشد عنفاً من قنبلة ذرية، وعلى إثرها أبرحوكِ ضرباً، وسُجنت في الغرفة لشهور عدة، لا منفذ لكِ إلى العالم الخارجي غيري، وكنتُ أنا مرسال الغرام.

وافقت الأسرة أخيراً، ولكن بشرط عجيب: أن يحضر الأشقاء الثلاثة ليلة الدخلة، وهكذا كانت دخلتك: إخوتك الثلاثة حول سرير الزوجية ينتظرون الدم

لم تستطع الأسرة مواصلة تعذيبك، وهُزمتْ أمام بسالتك وإصرارك، وخنع لك الأخلال، والريبة تملأ صدورهم. لماذا هذا الشخص تحديداً؟ لم يكن أحد منهم يدرك أن الحب ليس فيه (لماذا). أما أمي/ أختك، فقد انقسم قلبها بين خوفها عليك، وخوفها منهم. كانت تقول لك: "سوف يأخذك إلى بلاده. وليس في بلاده سوى الحرب". وكانت أمي تتذكر ما حدث لعائلتها في الإسماعيلية أثناء العدوان الثلاثي، وكيف هُدمت مدرستها الجميلة، وكيف هُجّرت الأسرة، ورُحّلت إلى القاهرة. لم تعيشي تلك الأوقات، أنتِ الوحيدة التي ولدت في القاهرة، تحديداً في شارع الطيار. الغريب أن "الطيار" هو اللقب الشائع للرئيس المتنحي حسني مبارك، والأغرب أنه بسبب تلك الغارة الجوية تحررت سيناء. سيناء اسمك الحقيقي الذي اختارته الأسرة تأثراً بالحرب. والآن سيناء تحب الفلسطيني، وترغب في أن تعيش برفقته. يا لها من مفارقة. وافقت الأسرة أخيراً، ولكن بشرط عجيب: أن يحضر الأشقاء الثلاثة ليلة الدخلة، وهكذا كانت دخلتك: إخوتك الثلاثة حول سرير الزوجية ينتظرون الدم؛ دليل الشرف الذي حصلوا عليه، وطمأن قلوبهم. هل عانيتِ من تلك الفعلة فيما بعد؟ هل أثّرت على حالتك النفسية؟ هل شعرتِ بالخزي والمهانة؟ لا أعرف. لم أكن حينها خزانة أسرارك. أصبح زوجك هو كل شيء. حتى عندما قررت أسرته العودة إلى أرض الوطن، لم تفكري للحظة. كان قرارك واضحاً وحازماً: "سأذهب مع زوجي إلى أي مكان، حتى لو كان الجحيم". كنتُ في الليل انتبه إلى صوت بكاء أمي. كانت تشتكي من فراقك، وتخاف عليك من عدوان عاصرَت مثله، وكانت تقول: "يعني هو انكتب على العيلة دي إنها تفضل تعاني من الحروب. يقطع اليهود وينقطع خبرهم". وكنتُ أفكر فيكِ، وفي البلاد البعيدة التي تواجه الدبابات بالحجارة، وفي قصة حبك العظيمة، وأتساءل: هل بقي الحب مشتعلاً على الرغم من هذه الظروف؟

وفي أيام الانتفاضة الفلسطينية، حين كنتُ طالباً في جامعة القاهرة، كانت أول مظاهرة أشارك فيها. كانت المظاهرات التي تندد بهذا المغتصب متنوعة، فـهناك التيارات الإسلامية التي تعاملت مع الأمر على أنه حرب اليهود ضد الإسلام، والأمة الإسلامية، وكانت التيارات اليسارية تراها احتلالاً توسعياً وقمعياً أمام أصحاب الحق، والناصرية تعاملت معها على أنها حرب بين العرب واليهود. أما أنا، فكنتُ أفكر فيكِ، أتضامن معك ومع حبك وأسرتك الجديدة، وكنتُ أقول للأصدقاء: "أنا مشترك في المظاهرة دي عشان خالتي". كانوا يضحكون ويعدّون مقولتي تلك سخرية من واقع موجع.

كنتُ أفكر فيكِ، وفي البلاد البعيدة التي تواجه الدبابات بالحجارة، وفي قصة حبك العظيمة، وأتساءل: هل بقي الحب مشتعلاً على الرغم من هذه الظروف؟

بعد الانتفاضة فُتحت المعابر، وانتهزت الفرصة لزيارة سريعة. في البداية لم أتعرف إليكِ، تبدل شكلك، وهيئتك، ولهجتك أيضاً. تبدلتِ تماماً. أصبحت فلسطينية يا سيناء، وجلسنا ليلاً نحكي ونحن نشاهد فيلم "الآنسة حنفي" لإسماعيل ياسين. أتذكرين! يومها عرفت الكثير عن حياتك الغامضة في خان يونس؛ عادات جديدة وتقاليد مختلفة، بيوت غير بيوتنا لأناس يشبهوننا، أهلنا وعشيرتنا كما تصفينهم. حكيتِ أيضاً عن الأشجار التي تزرعينها بنفسك، وقلتِ لي إن هذه الأشجار سيختبئ خلفها اليهودي يوم القيامة. غير أنها ستُبلّغ عنه. بدا الأمر أشبه بالأفلام الكرتونية. على الرغم من ذلك، صدّقتك. ربما لأنني أصدّقك دائماً كما تعرفين.

بعد عودتك إلى وطنك الجديد -لعل ذلك حدث بعد أشهر عدة- ذهبت مع الأصدقاء لمشاهدة فيلم "باب الشمس" في المركز الثقافي الروسي. عقب عرض الفيلم، كانت هناك ندوة مفتوحة مع مخرج العمل يسري نصر الله، وأذكر أنني وقفت ليلتها وسألته: "هذه البطلة هي خالتي. هل تعرف خالتي التي تعيش في خان يونس؟"

صحيح: كيف هو حال خان يونس؟ هل كبرت أشجارك، وتفرعت كما يجب؟ وما حال أبنائك، وبناتك الصغار؟ أعرف أنهم صاروا خمسة. هل تعرّض أحد منهم لمكروه؟ أخبرني أهلك/ أهلي أن القصف قريب منكم للغاية، وأنه يمر من فوق رؤوسكم، فيفزع القلوب. وبمناسبة القلوب، أخبريني: كيف هو حال الحب في زمن الحرب؟ 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image