وأنت أمام الورقة البيضاء، اغلق عينيك، استجمع قواك، خذ نفساً عميقاً وابدأ. حين تمسك بالقلم، استعن بآلهة الشعر وربّات الحكمة؛ بتاريخ ذاكرتك وبذاكرة التاريخ وبسفر الحنين إلى المكان الأوّل، لعلّك تبدأ.
يبدو الأمر أحياناً أشبه بالصلاة أمام بياض ينتظر الامتلاء، لكن ثمة مشاعر أخرى تضطرم تحت سكينة خادعة. إنها باختصار رهبة الكتابة والخشية من القول.
وبعودتنا إلى الذاكرة الطفليّة، نجد أن هذا الارتباك إزاء "البداية" كان يصيبنا – تلامذة - أمام ورقة الامتحان، أو لدى تلاوة الدرس ظهراً عن قلب، ذلك تماماً مثلما يعتري محترف الكتابة وهو أمام نصّه، باحثاً عن جملة البداية. مع ازدياد مسؤوليّة الكلام يتضاعف الخوف.
رهبة البدء
غالباً ما يطلب بعض التلامذة من أساتذتهم أن يذكّروهم بأول كلمة من درس يتطلّب حفظاً، كدروس التاريخ مثلاً. الكلمة الأولى هذه ليست عديمة القيمة؛ فهي، وإن أتاحت للذاكرة منفذاً لخروج ما اختزنته من معلومات ولا أقول معارف، فإنها تضع التفكير في حالة تأمّل لتفسير الظاهرة وتبيّن أهميّة هذه الكلمة-النافذة.
كان التلميذ يُوبّخ لطلبه هذا؛ إذ ينبغي له أن يفهم، وعليه أن يتمكّن من صياغة المعلومة كي تترسّخ في الذاكرة فيسترجعها في الوقت المناسب. وهو يؤكّد أحقيّة ذلك، لكنه يزداد ارتباكاً لأنه لا يستطيع التخلّص من هذا العبء، عبء الذاكرة وهول البدء، إلى الحدّ الذي قد يفقد فيه السيطرة على كل ما تحويه ذاكرته. "يتبخّر" ما حفظه، فتأتي العلامة بما يعزّز مخاوفه.
قبل أن نصبح كائنات كتابيّة بابتعادنا عن الشفاهية، وقبل أن تستحيل الورقة البيضاء شاشة زرقاء، والقلم إصبعاً/ أصابع تكتب لمساً، بفعل الزمن وتغيّر أدواته، فإنّ ثمة ما هو مشترك نفسي ثابت في استمراره.
كانت العرب تتوجّس من القول، وفق تصوّر عام مفاده أن كل شيء قد قيل. إنما هذا القلق من ألا تشكّل أقواله إضافة تذكر وألا تفتح موضوعاته أفقاً جديداً للقول، لا يراود إلا من يمتلك هاجس التفوّق. ولنا مثال نستشفّه في ثلاثة أبيات لشعراء يشهد الزمن لنبوغهم.
قبل أن نصبح كائنات كتابيّة بابتعادنا عن الشفاهية، وقبل أن تستحيل الورقة البيضاء شاشة زرقاء، والقلم إصبعاً تكتب لمساً، فإنّ ثمة ما هو مشترك نفسي ثابت في استمراره: ماذا نقول، إذا كان كل شيء قد قيل؟
هذا المتنبّي يقول: أتى الزمانَ بنوه في شبيبته/ فسرّهم وأتيناه على الهرمِ. أما أبو العلاء المعري فينشد قائلاً: تمتّع أبكارُ الزمان بأيده/ وجئنا بوهن بعدما خرف الدهرُ.
يبقى لنا شاهداً مَن تقدّم زمنيّاً على الشاعرين السابقين، وأرجأته لأتوقّف قليلاً عند مطلع معلّقته، أعني به عنترة العبسيّ، إذ يفتتح مطوّلته بالقول كما يأتي: هل غادر الشعراء من متردّم؟/ أم هل عرفت الدّار بعد توهّمِ؟
باتت خصائص الشعر الجاهلي معلومة، في القراءات النقديّة المتداولة لجهة المطلع الغزلي الطللي، وهو الوقوف على الأطلال. لكن إذا ما حفرنا أعمق، نجد أنّ عنترة أمام محنة القول والبدء واستجماع عناصر الإلهام.
إنه يواجه مهمّة جليلة. يستنجد بشعراء سبقوه بالزمان والمكان معاً، بشعراء وأحبّة مرّوا بهذا المكان فأضحوا تاريخه/ ذاكرته. في استحضاره صور الذاكرة من مسكن وسكّان، يبحث عن منفذ لقصيدته وما/من يؤثّثها. الوقوف هو تفكّر المتسائل عمّا كان وما سيكون، وتأمّل بما قيل وما سيُقال.
نخال عنترة، ومن يمثّل من شعراء زمانه، أمام ثنائية ليست في مستويي الشكل لشطري البيت الأوّل والجملة الاستفهامية المكرورة فحسب، بل في مستويي العاطفة والذاكرة.
استحضار روح المعلّم
في مكان وزمان آخرين، ننتقل إلى كلّ من الشاعرين العظيمين: الإيطالي دانتي أليغييري والألماني يوهان ولفجانج فون غوته، لنقرأ المعاناة ذاتها للشاعرين أمام فعل القول وإنشاء الكلمة.
ينادي دانتي ربّات الشعر: "يا ربّات الشعر، أيتها العبقرية العليا، الآن ساعدنني/ وأنت أيتها الذاكرة التي سجّلت ما رأيت، هنا سيظهر نبلك"
في"الجحيم"، الجزء الأوّل من "الكوميديا الإلهية"، يتّخذ دانتي من شاعر سبقه معيناً ودليلاً له في رحلته، أعني فرجيل صاحب الإنياذة، مثلما ينادي ربّات الشعر كي يساعدنه.
يخاطب دانتي فرجيل في غير موضع من النشيد الأول قائلاً: "يا من أنت لسائر الشعراء فخر ونبراس/ أنت أستاذي ومرجعي، وأنت وحدك من قبست عنه الأسلوب الجميل/ أعنّي عليه [الوحش] أيّها الحكيم الذائع الصيت/ لأنّ هذا الوحش الذي يبكيك، لا يدع إنساناً يمرّ في طريقه، بل يعوقه كثيراً إلى أن يقتله".
لنا أن نقرأ الدلالة في قراءة ثانية، لا قراءة سردية لأهوال الجحيم المُتخيّل، بل قراءة وصفيّة لجحيم الشاعر الشخصي من جهة، ولتمجيد روح من سبقه من جهة أخرى. وفي هذا الجانب، يتماهى المعنى مع رؤية الشاعر الأميركي ت. س. إليوت بقوله: "إنّ الشاعر المجدّد هو الذي نجد في شعره نكهة أسلافه".
وللتدليل على حضور روح السلف، وعبقريّة يخشى الشاعر أن يأتي بمثلها، نسمع فرجيل يُطمئن دانتي بقوله: "أعتقد وأرى الخير لك أن تتبعني وسأكون دليلك، وسأخرجك من هنا خلال عالم أبدي/ عندئذٍ تحرّك هو، وبقيت من ورائه".
ولعلّ خير دليل على ما أتصوّره في قراءتي، أعثر عليه في الأنشودة الثانية، إذ ينادي دانتي ربّات الشعر: "يا ربّات الشعر، أيتها العبقرية العليا، الآن ساعدنني!/ وأنت أيتها الذاكرة التي سجّلت ما رأيت، هنا سيظهر نبلك!/ بدأت: أيها الشاعر الذي تقودني، اختبر طاقتي، أهي قويّة، قبل أن تعهد بي إلى الخطوة العالية".
بإمكاننا التنبؤ بتضارب المشاعر حين يستحضر الكاتب عبقريّة أسلافه، فيشعر بأنهم سبقوه إلى المعاني، وفي الوقت نفسه يستشعر القدرة على قول ما لم يقل؛ على غرار الشاعر رامبو، إذ يقول لناشره: "أبحث عن لغة لم تلوّثها العادة فأنّى أجدها آتيك بها"
بالمثل، يذكر غوته بعرفان وتقدير الشاعر الألماني فوس Voss في مقدمة ملحمته الشعريّة "هرمن ودوروتيه"، معلناً أنه يريد محاكاة قصته الشعرية "لويز" (1748).
وفي قصيدة "إيليجيا"، ينادي أيضاً ربّة الفن Muse مراراً: "يا ربة الفن، إن هذه الصفات هي غرسك الذي غرسته في نفسي بجد ونشاط/ أيتها الربة، لن أأتمر إلا بأمرك/ فأنت وحدك التي ما زلت تبعثين في صدري قوة الشباب/ فيا أيتها الربة، لتشملني اليوم عنايتك المقدّسة/ فما أحوجه [الرأس] اليوم إلى إكليل/ عسى أن يحين يوم فأصير به جديراً/ فاملئي أيتها الربة أقداحنا بالمدام".
إذا كان عنترة قد نظر إلى تاريخ الشعر قبله، فكذلك فعل المتنبي والمعرّي ودانتي وغوته، وما هم سوى نماذج لجوهر عملية الكتابة، ولتمثل القلق تجاه ما سيفصح عنه كلّ منهم.
فهل سيتمكن من تجسيد مشاعره وأفكاره ومواقفه أم سيكون ما يكتبه هباء وعبثاً ليس إلا؟ بإمكاننا التنبؤ بتضارب المشاعر حين يستحضر الكاتب عبقريّة أسلافه، فيشعر بأنهم سبقوه إلى المعاني، وربما لم يتركوا لمن جاء بعدهم سوى التعليق عليها، وفي الوقت نفسه يستشعر القدرة على قول ما لم يقل؛ على غرار الشاعر الفرنسي آرثر رامبو، إذ يُعرب في رسالة إلى ناشره: "أبحث عن لغة لم تلوّثها العادة فأنّى أجدها آتيك بها".
الجرأة على الاسم الهائل
في تقديم ملحمة غوته، يورد طه حسين خبراً عن عالم ألمانيّ يدعى وولف Wolf، أنه نهض يوماً إلى معبد هوميروس، ففتحه ودخله وأعلن لدى خروجه للناس أنّه لم يجد صنماً واحداً، وإنما وجد أصناماً.
بمعنى أنّ هذا الشاعر الإلهي الذي لا يُجارى ولا يُبارى، قد جاراه من غير شك كثير من الشعراء "الهوميرييّن". وينشد غوته، مستجمعاً قوّته، قائلاً في النشيد البدئي: "تعالوا نشرب أولاً نخب ذلك الرجل الجريء/ الذي خلّصنا من ذلك الاسم العظيم الهائل/ لكي يسلك بنا طريقا أجلّ وأعظم/ من ذا الذي يجرؤ على التطلّع لمرتبة الآلهة؟".
طُرح السؤال في غير مقال عن أسباب الكتابة وغاياتها؛ ولكلّ كاتب تجربته. غير أنني أردت في مقالي وصف حالة الاستهلال في الكتابة، أي خطوة ما قبل البداية، أو "قفزتها" في كثير من الأحيان. ولم أكن - في أيّ مرّة – بعيدة عن تجربة المعاناة في التقاط "الكلمة الأولى".
هو النفَس المستنشق عميقاً ذاته، والرهبة نفسها، الرَّوع والوَرَع، أو بتعبير مماثل - بغاياته ونتائجه - أستلهمه من عنوان مقال للروائي المصري سعد القرش "صلاة الكتابة وزلزالها" (العرب، 15/2/2019). لعلّ الذاكرة تفيض حنيناً وجمالاً وتعبيراً عن دهشة الوجود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...