عند حلول أي موعد يخص استحقاقاً انتخابياً في سوريا، تنتشر اللافتات والقوائم في شوارعها، ويتنافس عليها المرشحون لنشر صورهم أمام أعيننا أكثر من تنافسهم على تحقيق مطالبنا وحاجاتنا. في عائلتنا، كان أحد أقربائنا يطمح دائماً إلى تحقيق حلمه في الوصول إلى البرلمان السوري. يتحول منزلنا في تلك الفترات إلى مضافة؛ يرسل إليه ذلك المرشح لجاناً تمهّد لوصوله. لم أعتقد أن أبي وأمي اهتمّا في يوم من الأيام بما يمكن لهذا المرشح أن يقدّم من فائدة، إنما كان همهما الوحيد أن يكون هنالك قريب لهم في البرلمان. كانت الحملات الانتخابية تترافق مع حفلات شعبية تنتشر في شوارع البلاد. في تلك الأوقات كنت ذلك الصغير الذي يرى شأناً في البطاقة الانتخابية الخاصة بأفراد عائلته، وبالأختام التي عليها، والتي كانت تلمع عيناي عند رؤيتها نظراً لـ"الديمقراطية" التي كنت أراها في تلك الأختام، وأننا نختار من نريد ليمثّلنا في مجلس الشعب خاصتنا. كل ما كنت أفكر فيه هو اليوم الذي سأحصل على بطاقتي الانتخابية عندما أكمل الثامنة عشر لأمارس ذلك الحق. كنت أشعر بالغيرة من كل إخوتي الذين يتمتعون به. أرى نفسي أكتب أسماء المرشحين في مركز انتخاب مميز تفوح منه رائحة الحقوق والواجبات. أنتظر الأيام طويلاً لأحقق هذه الأمنية، وأبدأ بالتأثير في مصير بلادي.
كانت الشعارات التي تنتشر تدفعني إلى الاعتقاد "أن صوت المواطن أهم من صوت فيروز". مرشح يرغب بتحرير فلسطين، وآخر يرغب في وقف انجراف التربة؛ تلك الوعود التي لم تتحقق في يوم من الأيام.
من هو هذا الرجل الذي يُجمع عليه 97% من شعبه؟ تزداد غيرتي حتى أبلغ الـ 18 وأتخيّل نفسي ذلك الشاب الذي لن تغيّر صوته الانتخابي أي نتيجة
عام 2007، كانت الديمقراطية مرتبطة بقولنا "نعم" أو "لا " فحسب. لم يكن هنالك انتخابات رئاسية، بل استفتاء، تتحول فيه البلاد إلى حلقات دبكة وأصوات غنائية. ثم تصدر نتيجة الاستفتاء والتي كانت دائماً تحقق ال 97%. في ذلك العام، عندما صدرت هذه النتيجة، كنت موجوداً في صالة ألعاب البلايستيشن، عندما سمع صاحب الصالة ذلك الخبر وصرخ بصوت عالٍ: "لو إنه بس يعطوني أسماء هالـ3% بعدمهم بساحة المرجة".
من هو هذا الرجل الذي يُجمع عليه 97% من شعبه؟ تزداد غيرتي حتى أبلغ الـ 18، وأتخيل نفسي ذلك الشاب الذي لن تغيّر صوته الانتخابي أي نتيجة، كما كل الانتخابات التي وردتنا عبر شاشات التلفاز، والصوت الأخير الذي يقلب المعادلة. ولكن على ما يبدو، فإن انتخاباتنا مختلفة ولا وجود فيها للحماس. لذلك استبعدت أن يكون صوتي مهماً في انتخابات رئاسية. لكنه سيكون كذلك في اختيار مرشحي البرلمان السوري. عندها لن أنتخب قريبي، ولكن سأنتخب من يقنعني برنامجه الانتخابي.
جاء عام 2013 وبلغت الثامنة عشر. لم تعد البطاقة الانتخابية موجودة؛ "يستطيع كل مواطن ممارسة حقة الانتخابي من خلال هويته الشخصية". أول استحقاق صُدمت فيه هو انتخابات رئاسية للمرة الأولى: انتخابات بوجود مرشحين، وليس استفتاءً. مرشحون يظهرون في الإعلام الرسمي ويتم التنمّر عليهم من قبل الإعلاميين الذي يحاورونهم، حتى أن أحد المرشحين اعترف أن صوته سيكون لمرشح آخر.
الديمقراطية في عام 2014 بلغت ذروتها في سوريا. في ذلك اليوم انتشرت تحذيرات للمعارضة من النزول إلى المراكز الانتخابية لأن القذائف ستنزل مثل المطر على العاصمة. ذلك "العرس الانتخابي" كان بالنسبة إلى الحكومة حدثاً بالغ الأهمية. لم تلغَ أي امتحانات، ولم تعطَ عطلة رسمية، ولم تكن هنالك أي مراعاة لأي تهديدات. تدخل إلى الجامعة وترى الإعلام منتشراً بكثرة ليصوّر الحالة الانتخابية، والعرس الوطني كما يسمّونه. منهم من عدّه انتصاراً لإرادة الشعب على الموت، ومنهم من رأى الديمقراطية في أبهى صورها. في قاعة الامتحان تتفقد إصبعك، هل هي مطليّة بالحبر الأزرق أو لا. إن لم تكن مطليّة بعد فأنت ستواجه أصعب مراقبة امتحانات في حياتك. انتهينا من الامتحان. ومع تسليم الورقة، بدلاً من الوداع، هنالك تنبيه يُوجَّه إليك لممارسة حقك الانتخابي، وضرورته في الانتصار على المؤامرة الكونية التي تشهدها بلادك. خرجتُ من القاعة للعودة إلى سكني، وبدلاً من إبراز هويتي كان عليّ إبراز إصبعي. فلا أحد يغادر الجامعة وإصبعه خالية من الحبر.
في ذلك اليوم، كان الفخر بعدد المرات التي مارس فيها المواطن السوري العملية الانتخابية؛ منهم من انتخب مرتين، ومنهم من زار المراكز الانتخابية كلها في دمشق، وأدلى بصوته. كنت أسمع تلك الأحاديث وأنا أخفي يدي في جيبي. أركب وسيلة النقل وأنا أسمع تلك الأحاديث، وأعود بالذاكرة إلى صاحب صالة الألعاب الذي سيعدم كل من قال "لا" حينها، هل سيكون مصيري شبيهاً بهم؟
أصبح أبي، وعند كل انتخابات، يتصل بي، ويأخذ رقمي الوطني، وينتخب عني. حتى يومنا هذا، يدلي أهلي بصوتي إلى قريبنا الطامح ليكون "سيناتور"
ظهرت نتائج التصويت وأعلنت الفائزين. احتفل الشعب بإطلاق الرصاص كما يفعل عند كل حدث احتفالي. تبيّن أن نسبة المشاركة في الانتخابات كانت كبيرة. لكن لم يعلم أي شخص أنني لم أنتخب؛ دخلت الغرفة السرّية، ولم أمارس حقي الانتخابي. كنت مقتنعاً أنه يقدّم، ولن يؤخر. فهنالك من سيدلي بصوته عني. وضعت الورقة في جيبي، طليت إصبعي بالحبر السرّي، وخرجت مع أختي من ذلك المركز الانتخابي. أصبح أبي، وعند كل انتخابات، يتصل بي، ويأخذ رقمي الوطني، وينتخب عني. حتى يومنا هذا، يدلي أهلي بصوتي إلى قريبنا الطامح ليكون "سيناتور".
لم تعد تعنيني تلك البطاقة الانتخابية، ولا الهوية الشخصية، ولا حتى تلك القوائم. أن تُسلب من أبسط حقوقك في الحياة، هو أسوأ ما يمكن أن تحصل عليه. عندما تعرف نتائج أي انتخابات في بلادك مسبقاً، وتضطر إلى خوضها لكي تحمي نفسك، هو من أسوأ الأماني التي تحمل خيبة كبيرة.
لم أستطع أن أغيّر مصير بلادي، لا بصوتي ولا بوجودي. لم أحمل سلاحاً، ولم أمارس تلك "الديمقراطية" التي إن درستَ في سوريا سترى أن هذه الكلمة منتشرة في كل المناهج الدراسية، وكأنها حجر الأساس الذي قامت عليه هذه البلاد. حلمت بالديمقراطية، وعندما مارستها سُلبت مني ليمارسها شخص آخر مرات مضاعفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه