شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أعطيناكم الكريسماس، جيجي حديد والحمّص

أعطيناكم الكريسماس، جيجي حديد والحمّص

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 23 مايو 202110:10 ص

تنتشر رائحة أشجار السرو القريبة من النافذة داخل إحدى غرف المدرسة الداخلية. والدتي سامية كانت في الحادية عشرة من عمرها. المُدرِّسة الأميركية في مدرسة الفرندز في رام الله والتي لا تبعد عن القدس كثيراً، هرعت نحوها وطلبت منها توضيب أمتعتها. عليها أن تنتقل إلى الشمال فوراً.

إنه الربيع في فلسطين. سامية وشقيقتها البالغة من العمر ثلاث عشرة سنة أسرعتا بحقيبتيهما الصغيرتين نحو حافلةٍ متوجهة إلى الناصرة. عائلةُ سامية وشقيقتها هي عائلةُ مزارعين ليست ثرية، لكنها عائلة تمتلك الكثير من الأراضي: بساتين زيتون، معاصر زيتون ومطاحن قمحٍ. بعد ثلاثة أيام من وصولهما، سمعت سامية أن جميع سكان حيفا، بمن فيهم شقيقتها الكبرى وأربعةٌ من بنات شقيقتها، أصبحوا الآن شيئاً يُسمى "لاجئين".

ثلاثة احتلالات

البريطانيون يحتلّون فلسطين ريثما تصبح "ناضجة بما فيه الكفاية" لتكون مستقلة.

الآن، وفي الوقت الذي تجري فيه عملية تطهير عرقية لفلسطين، استدعى البريطانيون ثلاثة أشخاص، وطلبوا منهم توزيع الخبز وعلب السردين على ما يزيد عن 70،000 حيفاوي. كانت النار تطلق على الحيفاويين في بيوتهم أثناء تلقيهم السردين والخبز، ومكبرات الصوت كانت تصدح في الوقت نفسه: "يمكنكم البقاء داخل منازلكم".

أن تقوم بإظهار الأمور التي يُعمل على طمسها وإخفائها هي الخطوة الأولى في تحريك الوعي

أحد الأشخاص الثلاثة الذين كانوا يقومون بتوزيع الطعام هو الشقيق الأكبر لسامية، وهو قسيسٌ بروتستانتي. أخبرها لاحقاً كيف دُفع الحيفاويون إلى البحر، وكيف ركبوا القوارب محاولين النجاة. لم يتمكن جميعهم من النجاة. توجه البعض منهم إلى لبنان والبعض الآخر إلى غزة. هُجّروا في جهات الأرض الأربع. والعائلات تفرّقت خلف حدود متعددة، ولم يكن هنالك وسيلةٌ لكي يعرف الواحد منهمُ مكان الآخر.

المعلومات عن المجازر والاغتصابات كانت تأتي من كل مكان. سلمى، والدة سامية، أعطت كل واحدة من بناتها غطاءَ وسادة وضعت بداخله ثوباً واحداً، لباساً داخلياً ومنشفة، وخبأت بداخل كل غطاءٍ أُسوار ذهب لها. طلبت من بناتها أن يستعملن هذه الأساور لمقايضتها مع الغزاة الجدد إذا ما حاول أحدهم اغتصابهن، علّه يتركهن وشأنهن.

سلمى التي عاشت تحت احتلال عثماني ثم بريطاني، تواجه اليوم محتلاً ثالثاً، ترفع يداها إلى السماء وتدعو: "فليكن الله ويسوع معنا". في كل يوم، يتم إخلاء المزيد من المدن الفلسطينية من سكانها ويتم احتلالها. أصبح الفلسطينيون أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم.

بعد مرور ثلاثة عشر عاماً، تستلقي سامية على ظهرها في مستشفى يهودي إسرائيلي في حيفا تحت ضوء النيون. هنا يتكلمون العبرية فقط، ومن لهجة حديث هؤلاء الوافدين الجدد تستطيع سامية تحديد أصول الأطباء والممرضين حولها. أتت الممرضة ونظرت إلى أمي وإلى بطنها الكبير وقالت بالعبرية: "هيا، أنتن جميعاً تصرخن. أنتن مظلومات بشدة في مجتمعكن، وصراخكن أثناء الولادة هو نتيجة هذا الظلم وذروته".

أن تكون لاجئاً مسلماً، مثلياً وراقصاً هو أمرٌ تحبه أوروبا بجنون

ابنة الثلاثة وعشرين عاماً، المستلقية على سريرِ مشفى في مدينة تم تطهيرها عرقياً من قبل الناس الذين يقفون حولها، خائفة، مذعورة، وحيدة وتتألم، لم يصدر منها أي صوت. لم تصرخ. وضعت مولودها الأول -أنا- ودخلت في اكتئاب حاد.

الفلسطيني التابو

وها أنا الآن. في أمستردام ذهبت ابنتي إلى مدرسة ابتدائية كان فيها أحد أصدقائها في الصف يحمل هويات متعددة، لكنه يعتبر أن اليهودية هي هويته، وأنها الأهم من بين هوياته الأخرى. عائلة هذا الصبي ليس لها أي أصول في فلسطين، لكنهم وبالإضافة إلى جواز سفرهم الهولندي يحملون جواز سفر إسرائيلي. ريما، ابنتي، التي تزور أجدادها وأقرباءها سنوياً في حيفا، يحيرها هذا الأمر. ثم خطر في بالها: "ماما، لماذا قلتِ إن الفلسطينيين هم أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم من دون وطنٍ أو جواز سفر؟! يستطيعون جميعهم أن يفعلوا مثل صديقي ويطلبوا جواز سفرٍ إسرائيلي!".

ريما نشأت في أمستردام، والحرب العالمية الثانية ترسخت في داخلها بعمق. قلت لها إنك فقط إن كنت من أصول يهودية، تتمكنين ساعتئذٍ من أن تأتي متى يحلو لك للعيش في منازل وأراضي الفلسطينيين، لكن هذا غير مسموح إن كانت أصولك فلسطينية وتحملين الوثائق التي تثبت انتماءك لهذه الأرض. اتسعت عينا ابنتي بشدة وقالت: "وهؤلاء الناس الذين يحملون هذه الوثائق هم الناس الذين يتم قصفهم الآن في غزة؟".

أومأت برأسي. بعد مدة قصيرة صادفتُ والدة صديقها هذا، دردشنا قليلاً، وسألتني: "هل شاهدت مسلسل فوضى على نتفليكس؟". تفاجأتُ وقلت: "كلا، هذا مسلسل عنصري، يُظهر الفلسطينيين على أنهم أشرار، مجرمون، وبلا إنسانية". رفعت الوالدة كتفيها مظهرة عدم مبالاتها بذلك وقالت: "حسناً، أنا عنصرية إذن". حاولت أن أتخيل الأمر معكوساً،

لو أنني شاهدت فيلماً معادياً للسامية وأظهرت لا مبالاتي بذلك قائلةً: "حسناً، أنا معادية للسامية إذن". الحقيقة هي أن مجهوداً كبيراً قد بُذل لإظهار الفلسطينيين على أنهم ليسوا بشراً. الإنسان الفلسطيني يُعتبر تابو، تماماً كما كانت النظرة إلى اليهود في أوروبا سابقاً.

في زمن الوباء، في الثاني والعشرين من أيار، ما يزيد عن 180 مليون شخص يجلسون باسترخاء ودفءٍ، يتحولون إلى نقادٍ ثقافيين وهم يشاهدون مسابقة الأغنية الأوروبية التي تُبث من روتردام.

إن كنتِ من أصول يهودية، تتمكنين ساعتئذٍ من أن تأتي متى يحلو لك للعيش في منازل وأراضي الفلسطينيين، لكن هذا غير مسموح إن كانت أصولك فلسطينية وتحملين الوثائق التي تثبت انتماءك لهذه الأرض

يشربون البيرة، يأكلون البوشار ورقائق البطاطس، ويتجادلون معلّقين على الأغنية الألمانية "لا أشعر بالبغض"، الأغنية الرومانية "أمنيزيا" والأغنية الإسرائيلية الجذابة "حرِرني" التي يتم غناؤها بينما اللاجئون من كل فلسطين والمحاصرون في غزة يقصفون من الجو ومن الأرض والبحر... هي سريالية في تشويهها للواقع. تبدأ هكذا "انظر كيف أصبح حالنا" ويتبعها:

أشعر كما لو أنني في السجن/كما لو أنه ليس هنالك غد/ حبيبي، أنا سأفقد عقلي/ مجرد قصة أخرى/ قل لي إنه لا داعي للقلق/ كل شيءٍ سيكون على ما يرام/ كفى جنوناً.

المغنية الإسرائيلية من أصولٍ أثيوبية تظهر رسمياً بزيها العسكري كجنديٍ جيد. إسرائيل تسوق للتعددية والتنوع، باستثناء هوية مصيرية واحدة لا تقبل بها إسرائيل، التابو الذي يجب أن يتم محوه. هذه الهوية مخبأة في الفقرة الثانية من مسابقة الأغنية الأوروبية، حيث تعرض هولندا في هذه الفقرة مدى تقدمها الثقافي والفني.

أحمد جودة يرقص. الصورة من إعداد مريان جرايسي

أحمد جودة مرتدياً تنورة، والجزء العلوي من جسده عار، يدور بأناقةٍ مؤدياً رقصة باليه. أحمد مثلي الجنس علناً، ومشهور بشعاره "ارقص أو مت". أن تكون لاجئاً مسلماً مثلياً وراقصاً هو أمرٌ تحبه أوروبا بجنون. يتم تقديم أحمد على أنه لاجئ من سوريا. أحمد هو فعلاً لاجئ من سوريا، لكن المفاجأة أن أحمد فلسطيني أيضاً. مجموعة كبيرة من السوريين اللاجئين هم فلسطينييون لاجئون للمرة الثانية أو الثالثة في حياتهم. فلسطينية أحمد تعتبر تابو. كاليهود خلال الحرب العالمية الثانية، يمكن أن يخسر أحمد عمله إذا أظهر فلسطينيته.

الحقيقة هي أن مجهوداً كبيراً قد بُذل لإظهار الفلسطينيين على أنهم ليسوا بشراً. الإنسان الفلسطيني يُعتبر تابو، تماماً كما كانت النظرة إلى اليهود في أوروبا سابقاً

أن تقوم بإظهار الأمور التي يُعمل على طمسها وإخفائها هي الخطوة الأولى في تحريك الوعي. من يستطيع مساعدتنا في التخلص من هذا الألم؟ المفاجئ هو أن القوة الاستعمارية القديمة تأتي للإغاثة.

المستعمرة الهولندية السابقة كانت ممثلةً برجلٍ سورينامي. هولندا تزداد وعياً، فهي ليست فقط تفسح مجالاً لمستعمريها السابقين بأن يتكلموا، بل أيضاً ليكونوا ممثلين عن هذا البلد وثقافته. كلمات أغنية "ولادة زمن جديد" تُظهر كيف يبدو الحب والوعي في العلن. الأغنية مناسبة لهولندا وسورينام، ولكنها مناسبة أيضاً لغزة ولفلسطين في هذه الأيام:

وسمموا الأرض/ إيقاعك الثورة/ أحرقوا أبطالك/ لكن صوتك سيكون صدىً لجميع أسمائهم/ كلا، هذه ليست النهاية/ إنها ولادة زمن جديد/ لا تستطيع كسري/ دفنوا آلهتك/ سجنوا أفكارك/ إيقاعك الثورة/ حاولوا أن يسلبوا منك إيمانك/ لكنك غضبٌ يذيب القيود/ كلا، هذه ليست النهاية/ إنها ولادة زمنٍ جديد/ نحن الثمرةُ التي تزين إرث كل ثورة منسية/ ولدنا أقوياء/ فخورين بأنفسنا كالأسود/ نحن ولادة الزمن الجديد/ لا تستطيع كسري/ أنا نصف سنت.

شكراً هولندا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image