شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
سيرج دي بوركوي في أفغانستان... خبز وملح ووليمة محبّة

سيرج دي بوركوي في أفغانستان... خبز وملح ووليمة محبّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 مايو 202110:39 ص

كان يكفي أن أشاهد شريطاً وثائقياً بعنوان "ضريح الشاعر عبد الله الأنصاري" للمخرج البلجيكي تيري بروس، لأرى كل جمال العالم في ستين ثانية، وليكتمل في ذهني تصور أفغانستان كبلد زاخر بالمزارات المهيبة والصلوات والتولّه بذكر "شيخ هرات" وحكيمها، وقفز الى ذاكرتي اسم الأب سيرج لوغييه دي بوركي.

تفاصيل صغيرة للبدايات

يقول أبو على الدقاق النيسابوري: "وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن"، هذا يعني أنّ الزمن هو حال الإنسان، وينطبق هذا على طفولة سيرج دي بوركي الذي ولد عام1917  في نيللي بفرنسا، لعائلة تنحدر من أصول أرستقراطية.

كانت طفولة مبتورة تخللتها فترات من السعادة القصيرة، ذات بهجة على الطراز القديم الذي يتأرجح بين الحنين والأسى المكتوم، وستترك أثرها لاحقاً على سلوكه، ولتجد صداها بطريقة غير مباشرة في بحثه عن ترميم الطفولة الضائعة من خلال الآخرين في كتابه "أبنائي من كابول"، منشورات سيرف 1983.

يبدو الغلاف مفعماً بالرسائل: صورة فوتوغرافية لطفل وراءه جبال، وصور فوتوغرافية لكتب ومناسبات مختلفة، تجمع بين راهب يعتمر القبعة الأفغانية، والمسماة باكول أو كوزيه، وأطفال سمر الوجوه. ببراءة يضحك الجميع ويجتمعون في بيت" راهب غير المسيحيين"، الذي حافظ على احترام المسافة بين احترام العقائد والعمل التطوعي.

ينادونه podar، لكن لماذا هو هناك في ذلك المكان بالذات ودون سواه؟

دخل سيرج لوغييه دي بوركوي الرهبنة في سن التاسعة عشر، وعُرف بعشقه للغة العربية، وكان أول اتصال له بالمشرق العربي إبان اقامته في لبنان ثم استقراره بمصر، ليؤسس معهد الآباء الدومنيكان للدراسات الشرقيّة (IDEO) 

لنعد إلى تفاصيل أخرى من سيرته الذاتية: دخل سيرج لوغييه دي بوركوي الرهبنة في سن التاسعة عشر عام 1936، وعُرف بعشقه للغة العربية منذ سن صغيرة، وكان أول اتصال له بالمشرق العربي إبان اقامته في لبنان في مناسبتين مختلفتين.

ثم استقرّ في مصر، ليؤسس، بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد يوم7 مارس 1953، مع الأبوين جورج قنواتي وجاك جومييه، معهداً سيكون أحد جسور التواصل المعرفي بين التراث الشرقي القديم وبين البحوث الغربية الحديثة حول الفكر الإسلامي، انطلاقاً من النصوص الدينية المؤسسة وأمهات كتب التاريخ والسير والأعلام والمذاهب، لمعرفة كيفية تطوره في الفلسفة والأدب والعلوم، وهو معهد الآباء الدومنيكان للدراسات الشرقيّة(IDEO).

هناك أمضى سبعة عشر عاماً، وكان واضحاً أنه أبدى اهتماماً بمتصوّف لم يسبقه إليه غيره من الفرنسيين، وذلك بتوجيه من أستاذه لويس ماسينيون، الذي اشتهر بترجماته لأعمال الحلاج، وتحقيقه لصلواته عشية صلبه في 25 آذار سنة 922. وكان مهتماً أيضاً بأعمال صديقه المستشرق هنري كوربان، الشغوف بدراسة الإسلام، وخصوصاً الغنوصية الشيعية، وترجم أعمال السهروردي والشيرازي وابن عربي.

في هذا المناخ الصوفي، بدأ سيرج دي بوركي رحلة تقصي أثر الخواجة عبد الله الأنصاري الهروي، وتلقى دعوة من الحكومة الأفغانية للمشاركة في الاحتفال بالذكرى المئوية التاسعة لهذا الفقيه المتصوف (1006- 1089)، ثم عرض عليه كرسي تاريخ التصوّف في جامعة كابول، وهو الذي نال شهادة الدكتوراه من السوربون على مجمل أعماله.

وسيتمكن بفضل ما يمكن أن نسميه "روحه الرسولية" من أن يربط صلة عميقة بسكان البلد الذي عاش فيه صديقه الصوفي القديم، فأتقن الاعتناء بأبناء الحياة المشردين الذين لم تعاملهم الحياة بحنو كما يليق بهم، وظل كتاب "أبنائي من كابول" يمرّ كل مرة في طبعة أو لقاء جديد، ليحدث وراءه اهتماماً بهذا البلد الغارق في الحرب والفقر.

وقد تتبع الأب جون جاك بيرنيس خطى أخيه، ورحل بدوره إلى أفغانستان ليوثّق شهادات وأقوال وحيوات أشخاص عاشوا تجربة التبنّي والتعلّم، في كنف من أمّن لهم المأوى والأمان، ونشر كتاباً سماه "كابول" صدر عام 2014.

إذا جئت زائراً قبري، لا تتعجّب إن رأيت النصب، يرقص وخذ دفّك لأن الحزن لا يناسب وليمة الفرح"

انغرس سيرج دي بوركي في تربة قادته إليها تجربة معرفية، وربما حين وقف على قبر أبي اسماعيل الأنصاري، سمع مناجاة أو نداء خفياً، ثبّته في أرض غريبة، ولم يشعر فيها إلا بصدى صرخات ألم تستوجب العناية، فأتقن اللغة الأفغانية ولم يولِ أهمية لاختلافات الأفغان العرقية، كما لم يأبه بالرموز والطقوس الخارجية للعبادات والليتورجيا، فالمهم كيف يؤدي دور الإنقاذ حتى وإن كان محدوداً.

كانت كابول بطريقة ما خطيبته التي وضع خاتم ارتباطه بها في إصبعه وبقي محافظا عليه، كما قال وصفه أحد الآباء الدومينيكان، وعمل مدرّساً في المرحلة الثانوية ثم في المرحلة الابتدائية ولم يفكر في فكّ هذا الارتباط.

هناك وصف للمدينة بواقعية: "كانت كابول أساساً مدينة نهارية، عكس القاهرة أو بيروت، حيث تجذب البرودة المسائية الناس إلى الشوارع أو إلى أرصفة المقاهي. هنا بمجرد حلول الليل تتراجع الحياة إلى البيوت، وراء الجدران العمياء والأبواب الصلبة المقفلة بإحكام.

كانت الشوارع بالكاد مضاءة. فقط أعوان الدرك يضربون بأقدامهم الأرض حتى الصباح، ويتبادلون بين حين وآخر صيحة ليبقوا في حالة تأهب. قالوا إنهم يجدون أحياناً في قلب الشتاء شخصاً ميتاً بسبب البرد".

المكان سيرة حياة وسيرة ألم

كتب سيرج دي بوركوي، كما قلنا سابقاً، بعين محبة وعطوفة عن البلاد وأهلها المتعبين، جمالها الغريب، قلوبهم المتقدة ويُتْمها المحبب إلى النفس دون إطناب فج، فالمحبّ عادة لا يسهب في الوصف، ويكتفي بتفسير ما يراه بعين قلبه، ويترك مجالاً للقارئ ليطلع على كتاب "تشاركنا الخبز والملح"، منشورات سيرف 1965.

كما في الحكايات اللطيفة، ينتهي الأمر بالفراق ليترك الأسى معلّقاً، فبعد الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، طلبت السلطات الغازية منه مغادرة البلاد بتهمة غريبة، وهي تعامله مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وتم اقتلاع اعترافات أطفال تحت رعايته لتأكيد هذه المزاعم، ليقرر حينئذ وضع حد لهذه الضغوط التي يتعرّض لها الأطفال ويرحل لأسباب صحية.

خذ دفّك وارقص فالحزن لا يناسب وليمة الفرح

دخل سيرج دي بوركوي في سبات عميق في شهر آذار عام 2005، قرب كنيسة ميليفانيس وفي مكان يعوم في خضرة دائمة. كُتب على قبر هذا اللاهوتي المنكبّ على فهم العشق كلمات صديقه الأنصاري: "إذا جئت زائراً قبري، لا تتعجّب إن رأيت النصب يرقص، وخذ دفّك لأن الحزن لا يناسب وليمة الفرح".  وهو الذي كان يراجع صفحات كتب الأنصاري بينما الحياة تغادره رويداً رويداً، وكان يتابعها كلمة كلمة في مصحّة روان.

ترجم سيرج لوغييه دي بوركوي وحقق "منازل السائرين"، وكتب وحقق وترجم "الطريق إلى الله، ثلاث أطروحات روحية من العربية والفارسية"، وحقق وترجم "صرخة القلب" وهي مجمل صلوات الأنصاري إلى جانب أعمال أخرى كثيرة

ترجم وحقق كتاب "منازل السائرين" الذي شرحه ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" وكتب وحقق وترجم "الطريق إلى الله، ثلاث أطروحات روحية من العربية والفارسية"، وحقق وترجم "صرخة القلب" أو "المناجاة وهي مجمل صلوات الأنصاري الشهيرة، إلى جانب أعمال أخرى تتناول الفكر الإسلامي وصل عددها العشرين، زيادة على تدوين يومياته.

 هذه بعض مناجاة للهروي معربة من الترجمة الفرنسية للأب سيرج دي بوركوي:

"إلهي! أنت في زفرات الرجال الكرماء، حاضر في قلوب الذين يتذكرون. يقولون إنك قريب وأنت أقرب من ذلك بكثير. يقولون إنك بعيد وأنت أقرب من الروح. لا أعرف إن كنت في الروح أم أن الروح هي أنت. في الحقيقة لست هذا ولا ذاك. أنت الحياة للروح.

الحياة هي حياة القلب والموت هو موت الروح. إذا لم تفنَ في روحك لن تعيش في الله أبداً.

لتمت يا صديقي إن كنت تودّ أن تحيا.

إلهي، من كنت أنت حياته كيف يمكن أن يموت.

الشمس هناك والشعاع هنا، ثم من رأى الشعاع منفصلاً عن الشمس.

إلهي، لا توجد حياة إلا باكتشافك، من يعيش من غيره مثل ميت في سجنه.

حب الله لأصفيائه وحب أصفيائه له، واحد.

هلك العالمان في الحب وهلك الحب في الصديق. الآن لا يمكن أن أقول إنه أنا ولا أستطيع أن أقول إنه هو".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image