أنتجت مصر عبر تاريخها السينمائي آلاف الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية. وقامت بإنتاج هذه الأفلام جهات حكومية، مثل التلفزيون المصري، ومؤسسة السينما، والمركز القومي للسينما الذي ينتج سنوياً عشرات الأفلام الروائية القصيرة التي لا يعرف أحد عنها شيئاً سوى صنّاعها والمهتمين بفن السينما عموماً. هذا بخلاف الإنتاج المستقل، ومشاريع تخرّج الطلبة من المعاهد والكليات الفنية المهتمة بفن السينما.
ويُعدّ فيلم "شكاوى الفلاح الفصيح" لمخرجه شادي عبد السلام من أهم هذه النوعية من الأفلام. عُرض في عدد من المهرجانات العالمية والفعاليات الثقافية، ومنذ إنتاجة سنة 1970 وحتى الآن، لايزال يلاقي إقبالاً جماهيرياً ونقداً من المهتمين بفن السينما، بل إنه من الأفلام التي يُستعان بها في تدريس السينما كنموذج متكامل لفيلم سينمائي، بعيداً عن تصنيفه فيلماً قصيراً. يفوز العديد من هذه الأفلام بجوائز رفيعة في المهرجانات السينمائية الدولية والمحلية، وهناك مخرجون عُرفوا بإخراج هذا النوع من الأفلام مثل المخرج أحمد رشوان، وأحمد حداد، وشريف البنداري وغيرهم.
من اللافت أن الأفلام الروائية القصيرة، التي لا تتجاوز مدة عرضها 54 دقيقةً، حسب موقع imdb، غير معروفة على المستوى الجماهيري العام في مصر. فالأفلام الروائية القصيرة لا تُعرض على شاشات التلفزيون الخاصة أو الحكومية، على الرغم من وجود مئات الأفلام الجيدة جداً، والتي تحقق متعة المشاهدة. كما لم تُستغل حتى الآن التكنولوجيا الحديثة في الترويج للفيلم القصير المناسب بشكل كبير لطبيعة العصر الحالي، خاصةً مع وجود الأجهزة الذكية التي يمكن من خلال تطبيقات معينة فيها تحميل هذه النوعية من الأفلام لمشاهدتها في أي وقت، سيّما أمام تزايد منصات الأفلام التي تتيح للمتلقي أن يتحكم بمضمون وتوقيت المشاهدة.
لم تُستغل حتى الآن التكنولوجيا الحديثة في الترويج للفيلم القصير المناسب بشكل كبير لطبيعة العصر الحالي
منذ أشهر عدة، يتابع المهتمون بالسينما في مصر والعالم أخبار الفيلم الروائي القصير "توك توك"، وذلك بمناسبة اشتراكه في العديد من المهرجانات الدولية والعالمية، مثل مهرجان "كليرمون فرا" في فرنسا خلال دورته الـ43، ومهرجان "بان أفريكا" في لوس أنجلس، والمسابقة الرسمية لمهرجان "مالمو" في السويد، ومهرجان "كليفلاند" الدولي للأفلام. وحاز الفيلم على جائزة أفضل ممثلة (إلهام وجدي) في مهرجان "فيينا"، وجائزة أفضل فيلم للمرأة في مهرجان البحرين السينمائي، وجائزة "هيباتيا" الفضية لثاني أفضل فيلم في مهرجان الإسكندرية للأفلام القصيرة.
يتناول الفيلم الذي أخرجه محمد خضر في أوّل أعماله، وشارك في كتابته شريف عبد الهادي، قضايا الطبقات الفقيرة والمهمشة في مصر من خلال شخصيتي ولاء، وزوجها محروس الذي يتركها ويهاجر هجرة غير شرعية إلى إيطاليا، تاركاً زوجته وطفليهما يواجهون مصيرهم من دونه. تضطر ولاء إلى أن تعمل سائقةً على "توك توك" في شوارع القاهرة، لذا ابتاعت "التوك توك" بعد أن قامت بتوقيع وصولات أمانة؛ لأنها لا تمتلك مالاً، فكان هذا هو الحل الوحيد أمام التاجر في حال تقاعست عن دفع القسط الشهري، وإلا فسيتم حبسها.
من خلال الأحداث، تواجه ولاء المجتمع الذكوري في سوق العمل، كرفض الذكور لأن تمتهن قيادة "التوك التوك"، والتحرش بها، حتى يصل الأمر إلى قيام أحد السائقين بحرق "التوك توك" الخاص بها بحجة أنها مهنة ذكورية، بعد أن تحرش بها واستطاعت أن تنجو منه، لتدخل ولاء السجن، بعد أن عجزت عن السداد، وتصبح من الغارمات. ويظل مصير طفليها مجهولاً، بعد موت محروس الزوج غرقاً أثناء محاولته الهجرة غير الشرعية. ناقش الفيلم قضايا الفقر وتدني مستوى التعليم، وما ينتج عنهما من تمييز ضد المرأة، وارتكاب الجرائم ضدها وسط صمت وتواطؤ مجتمعي، بالإضافة إلى قضية الهجرة غير الشرعية.
وعلى الرغم من قتامة أحداثه التي تحصل في منطقة فقيرة، إلا أنه لم يقدّم مشاهد فجة، ولم يعتمد على الصورة التقليدية في نقل مشاهد قاسية أو منفّرة للدلالة على الفقر والتهميش
قدّم ممثلو الفيلم جميعهم أدوارهم ببراعة، وعلى رأسهم البطلة إلهام وجدي التي قامت بدور ولاء البطلة في أول تجربة تمثيل لها، وماري جرجس في دور والدة ولاء والتي لعبت دور أم خمسينية مريضة، وأقنعتنا بالدور وهي في الثلاثينيات من عمرها.
صُوّر الفيلم في أماكن واقعية، وعلى الرغم من قتامة أحداثه التي تحصل في منطقة فقيرة، إلا أنه لم يقدّم مشاهد فجة، ولم يعتمد على الصورة التقليدية في نقل مشاهد قاسية أو منفّرة للدلالة على الفقر والتهميش، بل قدّم صورة بصرية ممتعة أبطالها الشخصيات، وليس المكان. وجاءت الموسيقى التصويرية مكملة للفيلم، وقد وضعها سيف الدين هلال، خاصةً في المشهد الأخير لولاء وهي تعيد اكتشاف أنوثتها من جديد بعد أن تناستها تحت وطأة العمل وسط الذكور.
فيلم "توك توك"، الذي استوحاه المخرج من قصة حقيقية لإحدى الغارمات، هو نموذج لسينما المخرج، الذي قام بكتابة الفيلم وإخراجه ومنتجته أيضاً. لكن يظل السؤال المطروح، هو كيف سيصل فيلم على مستوى عالٍ من الجودة، محققاً هدفاً أساساً في الفنون وهو المتعة -كفيلم "توك توك"- إلى الجمهور العادي الذي لا يصل إلى مهرجانات أو مراكز ثقافية، ولا يعرف طريقها، بل إن بعض المحافظات في صعيد مصر لا توجد فيها دور عرض يعوّل عليها لعرض الأفلام الطويلة المعتادة، فكم بالحري عرض تلك القصيرة. بالإضافة إلى انعدام اهتمام منصات العروض السينمائية والتلفزيونية بهذا النوع من الأفلام.
فيلم "توك توك" لا يطرح قضايا المرأة المصرية فحسب، بل يطرح أيضاً قضايا خاصة بالثقافة والفن في مصر، والتي تحصر المتلقي في أنواع معينة من الأعمال الفنية، وتهمّش بالمقابل نوعاً آخر منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...