شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"أعيش البؤس والأفلام تكذب"... حكايات الوحدة بين السينما والواقع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 24 أبريل 202004:58 م

في الوقت الذي يحظر فيه التقارب والتلامس الجسدي بين البشر حفاظاً على الأرواح من فيروس لا يرى بالعين المجردة، قد يتبادر إلى الذهن تساؤلات كثيرة حول طبيعة العلاقات الرومانسية، وآليات التواصل بين العشاق، في هذه الفترة الحالكة.

لكن ربما يكون الوضع أكثر بؤساً بالنسبة للعزاب الذين يقضون أيامهم في عزلة، لا يقطعها لقاء سريع أو محادثة عن بعد، مع أحبة يؤنسون وحدتهم، ويمنحونهم الطاقة للتشبث أكثر بالحياة.

فهل يستطيع المرء أن يصمد بمفرده في مواجهة الكوارث والأوبئة؟ وكيف يحمي نفسه من الضياع والجنون؟ ولماذا تتغير نظرته لكل شيء عندما يجد من يعيش لأجله؟ تطرح غالبية أفلام نهاية العالم هذه النوعية من الأسئلة.

"أريد الارتباط"

في المشهد الأخير من الفيلم الأمريكي "البحث عن صديق لنهاية العالم-2012"، يتلاصق الحبيبان على الفراش ليمنح كل منهما الطمأنينة للآخر، قبل دقائق من فناء العالم. يبذلان الجهد في مواصلة حديثهما بلا توقف، وسط أصوات تحطيم الكوكب المفزعة، كأنهما في حالة سباق مع المصير الذي جمعهما دون أن يمنحهما الوقت الكافي للتمتع بالسعادة التي تغمر قلبيهما، ولكن أليس ذلك أفضل من شعور الوحدة الذي كان متملكاً منهما حتى التقيا؟

يقدم الفيلم علاقة حب تقوم في أساسها على الصداقة التي تنشأ بين البطل والبطلة، خلال سعيهما للاحتماء بصحبة تبدّد مخاوفهما من المجهول، لكن يدركان أن كل ما يحتاجانه في الحقيقة هو أن يكونا معاً. فإذا كانت النهاية حتمية، فلا يصحّ أن تدركها سوى مع من تحب.

"الحياة، على عكس السينما، مؤلمة وقاسية، لا تمنحنا ما نريد، والحقيقة أن العزل المنزلي جعل كل شيء أصعب بكثير... لا عمل، لا اختلاط، ولا سهر أو علاقات نسائية، فقط الذهاب كل يوم إلى غرفة النوم مستسلماً لوحشة الليل"

يستبعد المخرج محمود محمود (34 عاماً)، أن يختبر أحدنا هذه الحالة الرومانسية التي يقدمها الفيلم بسهولة في الواقع، فمثل هذه النهايات تصنعها السينما الساحرة، يقول لرصيف22: "الحياة مؤلمة وقاسية، لا تمنحنا ما نريد. والحقيقة أن العزل المنزلي جعل كل شيء أصعب بكثير، حيث لا عمل، لا اختلاط مع أحد، ولا سهر أو علاقات نسائية. فقط الذهاب كل يوم إلى غرفة النوم مستسلماً لوحشة الليل".

الأمر لا يختلف كثيراً عند نهلة أحمد (24 سنة) كاتبة متخصصة في السينما، فهي أيضاً تشعر أن الأخبار المفزعة التي يتداولها الناس يومياً عن وباء كورونا تصيبها بالخوف والفزع. لكنها، مثل بطلة الفيلم، تتمنى وجود شريك لحياتها في هذه الظروف، ليربت على يديها ويطمئنها أن كل شيء سيكون بخير.

تقول نهلة لرصيف22: "كنت دوماً من أنصار حياة العزوبية ولا أريد التعجل في الارتباط، لكن أشعر أنني أحتاج لمن يساندني، لأن الوحدة هي عدو الإنسان الأول".

"الأهل بدلاً من الحبيب المنتظر"

الرغبة في مشاركة نهاية العالم مع أحدهم تظهر بشكل أكثر نضجاً وعمقاً في الفيلم الكندي "الليلة الماضية-1998". حيث تجمع الصدفة اثنين، لم يكن في حسبانهما تغيير الخطط المعدة مسبقاً لنهاية العالم، فقد فضّل هو قضاء الساعات الأخيرة في عزلة تامة، متقبلاً الوحدة التي لازمته منذ رحيل زوجته، أما هي فكان لديها اتفاق مع زوجها على إنهاء حياتهما بأيديهما بدلاً من انتظار فناء البشرية.

من ناحية أخرى، حالة الهياج المسيطرة على الشوارع تتسبَّب في لقائهما، وتجعله يعي أنه بحاجة لوجودها بجانبه، وأن هذه الصدفة انتشلته من يأسه، ومنحته فرصة ثانية للشعور بالحياة، كما تحيد هي عن قرار الانتحار بعد أن تتعلق به، فتبادله القبلات عوضاً عن الرصاص.

يتجاوز الفيلم حكاية الثنائي، ليعرض نماذج متباينة من البشر الذين يعانون الوحدة، ويحاول كل منهم تمضية آخر يوم مع أحدهم، حتى لو كان غريباً عنه، مثل الشاب الذي يعد جدولاً زمنياً لخوض تجارب جنسية مختلفة مع سيدات من شتى الأعراق، حتى لا يموت نادماً على إضاعة أي مغامرة حسية، أو لأنه في حقيقة الأمر خائف من البقاء بمفرده، والموظفة التي تستمرّ في العمل مستأنسة بصحبة زميلها، لكن ينتهي بها الحال بمفردها تتجول بين المكاتب الخاوية، والمعلمة التي تذهب لممارسة الجنس مع شاب، ثم تتوجه لحضور حفل موسيقي راق.

جدول زمني لخوض تجارب جنسية قبل نهاية العالم في فيلم "الليلة الماضية".

"الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، هذا ما يتأكد لنا كل يوم، منذ اتخاذ إجراءات عزل وإغلاق المدن المختلفة في العالم، يحتاج دوماً للمشاركة، سواء في لحظات الفرح أو اليأس"، هكذا تقول نورا عادل (31 سنة) سيدة أعمال، لرصيف22

تعتقد نورا أن الوحيدين في هذا العالم يمكنهم أن يسيروا على خطى شخصيات الفيلم، ويبحثون عمن يؤنس وحدتهم، وتكمل بنغمة أقرب إلى اليأس: "فلعل وعسى كان هناك شريك ينتظر فرصة للتقرب".

ولكن في الوقت نفسه، ترى نورا أن الأهل والأصدقاء ملاذ يحمي من الشعور بالوحدة. فهي تركز طاقتها على عائلتها، وتسعى لقضاء المزيد من الوقت معهم، مستمتعة بإعادة اكتشاف الأنشطة والهوايات القديمة التي أهملت مع مرور الزمن.

الوحدة ضياع وجنون

ربما تقدم الأفلام التي تنتمي إلى نوعية "ما بعد نهاية العالم" صورة أكثر تطرفاً عن حالة الوحدة، فهذه الأفلام تتعرض لحياة الإنسان بعد حلول الدمار وموت أغلب البشر، عندما يصبح في حالة بحث دائم عن شريك ينقذ روحه ويمنعه من الانهيار.

يتأمل الفيلم النيوزيلندي "الأرض الهادئة-1985" تأثير الوحدة والعزلة على تصرفات الإنسان، حيث يستيقظ عالِمٌ ليجد نفسه وحيداً بعد اختفاء البشر إثر مشروع طاقة كارثي. في البداية، يحاول العيش بترف ورفاهية، لكن مع مرور الوقت يفقد صوابه، وتتدهور حالته النفسية، وتتخبط أفكاره ومشاعره، فيجرب ارتداء ملابس نسائية، ويقوم بتخريب منشآت دينية، ويعلن نفسه زعيماً على العالم. وعندما يعجز عن إيجاد معنى لأي شيء، يُقدم على الانتحار، لكنه يتراجع في آخر لحظة. لا ينقذه من هذا السكون الثقيل سوى العثور على ناجية أخرى، تشاركه الأيام وتبادله الأحاديث، وتتضاعف حماستهما عندما يلتقيان برجل ثالث يشاركهما العالم، حتى وإن كان ذلك يعقّد علاقتهما.

"يمكن للوحيدين أن يبحثوا عمن يؤنس وحدتهم مثل فيلم "الليلة الماضية"، لعل وعسى... ولكني أركز طاقتي مع عائلتي، أعيد اكتشاف الهوايات القديمة"

يتشابه موضوع الفيلم النيوزيلندي مع واحد من الأفلام العربية النادرة التي تتعرض لنهاية العالم بشكل عام، وقسوة الوحدة بشكل خاص. فالفيلم المصري "آدم بدون غطاء-1990" يتناول حكاية مهندس يحلم أن العالم أصبح مكاناً كئيباً بعد زوال البشرية، فيفتش في كل مكان عمن يسانده في محنته، حتى يلتقي بفتاة جميلة تمنحه الأمل من جديد. وبالرغم من صعوبة واقعهما، فإنهما يجدان السبيل للنجاة سوية.

المميز في هذا الفيلم التلفزيوني أنه يطرح تساؤلات حول مصداقية الحب في هذه الظروف، ومدى قدرة الإنسان على خلق حياة يعيش من أجلها، وسعيه الدائم إلى الكمال.

تعلق نهلة: "منذ بداية وجود الإنسان على الأرض كان معه شريكه. ربما هذا يفسر نزعة البشر للبحث عن نصفهم الثاني طوال الوقت. قد نحاول تناسي هذه النزعة أو قمعها، منشغلين بتحقيق أهدافنا وطموحاتنا في الحياة، لكن عندما نشعر بأن حياتنا على المحك، يكون هذا أول شيء نفكر فيه".

وتشير نهلة إلى أن السينما مدركة لضعف الإنسان، واستحالة صموده بمفرده أمام الكوارث والأوبئة، وبالتالي تمنحه دوماً الحب ليكون مصدر قوته أمام شراسة الطبيعة. لكن في الوقت نفسه، تتمنى أن ترى على الشاشة أفلاماً عربية تعبر عن قدرة العازب على تخطي مثل هذه النوعية من الأزمات، خاصة وأن دوافعه في النجاة نابعة من غريزة البقاء لدي الإنسان.

بينما يرى محمود أن "شاشة السينما لا تستطيع الابتعاد عن النهايات الثنائية، فنحن كمخلوقات نشعر دوماً باحتياجنا لشخص ما نشاركه أوقاتنا ونتحدث معه عن أحلامنا ومخاوفنا، وعلى الفن أن يعبر عن ذلك بشكل حقيقي".

واختتم محمودحديثه متوقعاً أن تفتح الظروف الحالية آفاقاً جديدة لصناعة أفلام نهاية العالم برؤى وأساليب فنية مختلفة، وربما يطول ذلك السينما العربية التي ظلت لسنوات عازفة عن مناقشة مثل هذه الموضوعات.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image