شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
احذر أن يلتهمك الجحيم (2)... مخيّم مليلية الرهيب

احذر أن يلتهمك الجحيم (2)... مخيّم مليلية الرهيب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 31 مايو 202111:45 ص

كنتُ أتوجه للخروج وحيداً خارج مركز إيواء اللاجئين في مدينة مليلية، ليوقفني أحد زملائي بالمكان: "انتبه لنفسك عند الخروج. هنالك شاب سوري جرى الاعتداء عليه من قبل بعض المجرمين الذين يتمركزون حول ‘السيتي’ (الاسم المتعارف عليه لمركز الإيواء بين اللاجئين) من أجل تصيد أي واحدٍ منا والاستيلاء على ما يحمله كالهاتف المحمول أو المال".

كنتُ لا زلتُ تحت تأثير الصدمة المزعجة، فيما واصل زميلي حديثه: "بحسب ما علمتُ، فإن إصابات ذلك السوري شديدة، من بينها كسر في الفك. وبالتالي: لا تخرج وحيداً قدر الإمكان، خاصة في ساعات المساء، التي يستحسن ألا تخرج خلالها من الأساس. لا تحمل نقوداً كثيرة معك أو هاتفكَ المحمول أو أية أغراض ثمينة. ينبغي أن نحافظ على أنفسنا حتى نتمكن من الخروج من هذا الجحيم".

كانت الساعة يومها الواحدة والنصف ظهراً، من أواخر شهر أيلول/ سبتمبر. إنها ساعتي الأولى في مليلية: بمجرد عبوري إلى الجانب الإسباني، استملتُ ورقة من رجال الأمن الإسبان في "بني أنصار"، مع نسخة من جواز سفري الذي تحفظوا عليه. أوصوني بالذهاب إلى مركز إيواء اللاجئين الواقع على بعد عشرين دقيقة إنْ استعنت بواحدة من سيارات الأجرة الرابضة خارج المعبر. وصولي إلى مليلية في فترة تبدل الجو من الحر إلى البرد شكل لي فرصة ممتازة للتعرف على أوضاع اللاجئين في الحالتين.

رحتُ أتأمل معالم هذه المدينة، الواقعة في شمال إفريقيا، والتي سأتأملها مراراً، على مدى إقامتي فيها لشهر ونصف، مسترجعاً في كل مرة معلوماتي عنها: غزاها الإسبان عام 1497، أي عقب خمس سنوات فقط من سقوط مملكة "بني الأحمر" في غرناطة، آخر الممالك العربية الإسلامية في الأندلس. حينها، وصلتْ حملة إسبانية إلى مليلية وتمكنت من احتلالها، لتبقى منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم تحت السيطرة الإسبانية. حاول المغاربة استعادتها من خلال حملات عسكرية متعددة منيتْ كلها بالفشل، لتبقى تحت حكم إسبانيا. مساحة المدينة صغيرة للغاية وهي 12 كيلومتراً مربعاً، ما جعل منها "سجناً آخر" بالنسبة لنا.

ما لفت انتباهي أن المدينة، رغم معالمها الأوروبية العديدة، ورغم أن النسبة الأكبر من سكانها من الإسبان الأوروبيين، بنسبة 60%، والبقية الباقية من الأمازيغ الريفيين المسلمين، مع وجود أقليات أخرى، من بينها أقلية يهودية، إلا أن صوت الأذان كان ينطلق عالياً كل يوم في المدينة. حتى أنني فوجئتُ بخطيب الجمعة، في أحد المساجد هناك، يدعو في نهاية الخطبة للملك محمد السادس وولي عهده والأسرة الملكية المغربية، وكأن المدينة مغربية صرفة.

بمجرد الوصول إلى مركز إيواء اللاجئين في مليلية، حاولتُ التحدث مع حراس المكان، فتبين لي أنهم لا يتحدثون سوى الإسبانية. أريتهم الورقة فاقتادوني إلى مبنى الإدارة الواقع بالقرب من مدخل المركز. استقبلتني هناك سيدة أمازيغية تحمل الجنسية الإسبانية وتتكلم العربية بشكل جيد. عرّفتني بأنها مشرفة اجتماعية لمساعدة اللاجئين، وأخذت تعدّ لي ملفي الخاص في المركز. شرحَت لي القوانين المتعلقة بالمكان، ثم منحتني الأوراق اللازمة للذهاب إلى العيادة لإجراء الفحوصات الطبية المختلفة، وبطاقة حمراء إلكترونية عليها صورتي وبياناتي الشخصية (يتم استبدالها بواحدة خضراء بعد مدة معيّنة)، مع غطاء وشرشف، وكوب وملعقة وشوكة جميعها معدنية. أخذتني إلى خيمة، كانت تتسع لما يزيد عن الثلاثمئة شخص، وقالت لي ببساطة: "ابحث عن سرير فارغ هنا كي تستقر فيه، وتضع أغراضك بالقرب منه".

من داخل الخيمة في مخيم مليلية للاجئين، خلال أيام إقامتي الأولى هناك.

والآن دعني أصف لك مركزي إيواء اللاجئين في مليلية: كلاهما يقعان في طرف قصي من المدينة، غير بعيد عن بوابة "فرخانة". الأول يخص الأطفال القاصرين الذين أتوا دون عائلاتهم، والثاني يخص البالغين ممن أتوا فرادى أو مع عائلاتهم، وهو الذي كان مقر إقامتي في مليلية. المركز الثاني كان صغيراً، بالنسبة إلى الأعداد الضخمة من اللاجئين الذين كانوا يقيمون فيه، فهو مجهز لاستقبال 400 شخص كحد أقصى، كي يعيشوا هناك في ظروف مقبولة، في حين أن نسبة مَن كانوا فيه لم تقل في معظم الأحيان، خلال فترة إقامتي، عن 1200 لاجئ.

المكان سجن حقيقي: الجدران عالية بطول ستة أمتار، ومصنوعة من أسلاك معدنية متشابكة. كاميرات المراقبة في كل مكان. يُسمح لنا بالخروج من هناك منذ الساعة السادسة صباحاً وحتى الثانية عشرة ليلاً فقط ومَن تأخر بعد هذا الوقت لا يسمح له بالدخول مهما كانت الأسباب. الدخول والخروج يتم عبر استخدام البطاقات الإلكترونية فقط. كافة المعلومات والعقوبات والتطورات تدوَّن في ملف كل مقيم هناك وبدقة بالغة. الحراس منتشرون في المكان ويتابعون كل شيء ويسمونهم هنا "بيخيلانتيس"، وكثيرون منهم شرسون لا يمتنعون حتى عن ضرب اللاجئين، وقد شهدتُ هذا الأمر بعيني مراتٍ عديدة. نحن في "سجن" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى!

مواعيد فتح المطعم وغلقه لتناول الوجبات الثلاث شديدة الدقة، ولو قدمتَ متأخراً فلن يُسمح لك بالدخول. تناول وجبة واحدة كالغداء مرتين ممنوع، ويتم تسجيل تلقيكَ لكل وجبة من خلال وضع بطاقتكَ الإلكترونية على جهاز إلكتروني. محاولة تجاوز الأشخاص في الطابور، والتي كانت تعرف هناك بـ"الزيغ- زاغ" zig-zag، أمرٌ ممنوع وسيعرضكَ لتقريع قاسٍ من قبل الحراس بل وإعادتك إلى آخر الطابور، في حال اشتكاك الواقفون هناك.

كميات الطعام المقدمة في المطعم قليلة كماً ونوعاً. كما يستغرق الحصول على الوجبة الانتظار لساعة كاملة أحياناً، بسبب العدد الكبير للمقيمين المنتظرين قبلك في الطابور. يزداد الأمر سوءاً عندما يتوجب الانتظار تحت المطر لدخول المطعم.

القواعد داخل المركز صارمة للغاية: التدخين داخل الغرف والخيام ممنوع تماماً ويتم المعاقبة عليه. يمنع وجود أية سكاكين كبيرة الحجم أو أدوات حادة. يمنع كذلك إدخال المدفئات الكهربائية إلى الغرف أو الأفران الكهربائية بهدف الطبخ. ممارسة العنف كالضرب أو الاعتداء على أحدهم بأداة ما، أو التعامل بالعنف مع أحد رجال الإدارة أو الحراس عقوبته مشددة، وكذلك الأمر بالنسبة للضبط متلبساً بالسرقة.

إدخال الخمور إلى المركز وحيازتها ممنوع تماماً، وفي حال الإمساك بشخص فعل ذلك فالعقوبة هي الطرد خارج المركز لمدة قد تصل إلى أسبوع، فيما لا تزيد عقوبة حيازة كمية بسيطة من الحشيش (أو "الزطلة" بلهجات أهل المغرب العربي) عن سحب البطاقة الإلكترونية للشخص لثلاثة أيام، ما يعني أنه يستطيع مغادرة المركز خلال تلك الأيام. تقوم إدارة المركز بإرسال دوريات تفتيش لكل الغرف بشكل مفاجئ، كل عدة أيام للتأكد من أن الجميع ملتزمون بالقوانين داخل المركز، والويل لمَن يتم ضبطه بمخالفة أو بحيازة "ممنوعات" هناك.

تتفاوت أساليب العقاب في المركز ما بين سحب البطاقة لعدد من الأيام لمنع الشخص من الحركة خارج المركز، مروراً بالطرد لأيام -قد تصل إلى 14 يوماً وربما أكثر، بحسب ذنب الشخص- خارج المركز، وهي العقوبة التي يرتجف كل شخص منّا لمجرد ذكرها: فمعناها البقاء خارجاً بلا طعام ولا شراب ولا مكان للنوم ولا ملابس إلا ما يرتديه الشخص فقط، في مدينة أسعارها غالية بالنسبة إلى إمكانياتنا المالية المحدودة، مع إمكانية التعرض للاعتداءات المتكررة على يد المجرمين المتواجدين دائماً في محيط المركز. لكن أخطر العقوبات بالنسبة لمعظمنا هو تأخير "الساليدا"- وتعني بالإسبانية "الخروج" أي مغادرة المركز- وزيادة مدة البقاء للشخص لفترة إضافية في جحيم مركز مليلية قد تصل إلى عدة أشهر.

"سُكَّانُ" هذا "الجحيم"!

"نحنُ نعلم جيداً أن هنالك العديد من الأشخاص بينكم قد تعرضوا للضرب ولمختلف أشكال العنف، من قبل أفراد الأمن الإسبان، خلال محاولاتهم للدخول إلى مليلية. وقد استعمنا إليهم ووثقنا شهاداتهم وقدمناها للسلطات الإسبانية بالفعل".

كانت سيّدة إيطالية، تعمل في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تتحدث لنا وقتها، في ندوة توعوية جمعت العشرات من المقيمين المنتمين إلى جنسيات عربية، كي تقدم لنا أهم المعطيات والمعلومات عن اللجوء في إسبانيا، وتشرح لنا مختلف التفاصيل المتعلقة به، عبر أحد المترجمين.

تحدث لها عدد من اللاجئين عن الضرب الذي تعرضوا له، عند وصولهم إلى الجانب الإسباني من إحدى النقاط المؤدية إلى مليلية، وكيف جرى الضغط عليهم كي يعودوا من حيثُ أتوا، بل ووصل الأمر إلى ضرب بعضهم ضرباً مبرحاً، من بينهم شاب يمني كان يجلس إلى جواري.

كانت تُعقد الندوات القانونية التوعوية، بشكلٍ أسبوعي تقريباً، ويحضرها الجدد الراغبون بمعرفة أكبر قدرٍ من المعلومات عن عملية اللجوء في الأراضي الإسبانية. واحدة منها يوم الثلاثاء، تنظمها المفوضية السامية للأمم المتحدة لؤئون اللاجئين، والثانية يوم الجمعة، وكانت تنظمها منظمة "ثيار" CEAR الإسبانية، التي كانتْ تنشط داخل مركز مليلية، ولديها مكتبٌ صغير هناك، يعمل فيه محاميتان واثنان من المترجمين لتقديم المعلومات القانونية اللازمة للاجئين.

كان كل يوم كان يمرّ عليّ في مركز الاعتقال في مليلية كان يؤكد القناعة التي تعززت لديّ يوماً بعد يوم خلال تلك الفترة: هذا المكان يُخرج الوحش المستقر بداخلك، والذي لم تكن تعلم عنه أي شيء على الإطلاق

أنواع السكن في المركز منقسمة إلى نوعين: خيام وغرف. تتوزع الغرف في المركز إلى أربعة أقسام: قسم خاص بالعائلات، وآخر بالإناث، وثالث للذكور، ورابع للمثليين من الإناث والذكور، في قسم واحد معاً موزع على عدة غرف (النوع الأخير بالذات، كان يحظى بحماية خاصة من الإدارة، والويل لمَن يتعرض لهم ولو بإهانة لفظية، فسيكون حسابه عند الإدارة عسيراً).

روى لي شخص سوري من مدينة إدلب حادثة جرت معه: خلال أيامه الأولى، رأى شابين مغربيين فحياهما بالقول: "ع العافية شباب"، ومعناها عند الشاميين "يعطيكم الصحة" بينما معناها عند المغربيين "اذهبوا إلى جهنّم". رد عليه أحد الشابين بسبة بذيئة، فما كان من السوري إلا أن ضربه ضرباً مبرحاً، ما أدى إلى استدعائه إلى مبنى الإدارة، حيثُ وجد كلا الشابين هناك، وأحدهما يشير إليه ويقول: "هذا مَن ضرب زوجتي"، فما كان من السوري، وهو سريع الغضب وآتٍ من بيئة تقليدية، إلا أن ضرب "الزوجة" مجدداً أمام المسؤولين قائلاً: "العمى! لَكْ هاد شاب! كيف بدو يكون مرتك؟!". كان ثمن ما فعله الطرد خارج مركز الإيواء لمدة 12 يوماً متتالية، عانى فيها الأمرين، ومن حسن حظه أنها كانت خلال الصيف، فكان الأمر أخف وطأة.

أما الخيام، فكانت بالطبع مخصصة للذكور وحدهم، والذين كانوا يمثلون السواد الأعظم من المقيمين في المركز، وكان عددها ثلاثة، من بينها خيمتان كبيرتان تتسع كل منهما لما يقرب من 250-300 شخص.

الأَسِرَّة في الخيام قماشية، قوائمها معدنية، وهي غير مريحة بالمرة، ووضعت كل ثلاثة أسرة فوق بعضها البعض. الخيمة باردة جداً وقت البرد، وحارة جداً في أوقات الحر. لا يوجد فيها سوى ستة مداخل USB، مخصصة لشحن الهواتف المحمولة، أربعة منها صالحة للعمل، ولا توجد أي مصادر أخرى للتيار الكهربائي لشحن هواتفنا المحمولة التي قد تستغرق ساعات لشحنها. المراحيض القريبة من الخيمة لا إنارة فيها، والمراحيض عموماً على النمط التركي القديم (أي حفرة في الأرض تُقضى الحاجة فيها)، وهي قليلة العدد، مقارنة بأعداد القاطنين بالمركز، ضيقة المساحة، وقذرة أغلب الأوقات. لا توجد مياه ساخنة للاستحمام في عموم أماكن الاستحمام في المركز بأكمله، وبالتالي صار الاستحمام معاناة شديدة في أوقات البرد، خاصة للمرضى وكبار السن.

تتغير أعداد المقيمين والنسب المئوية لتمثيلهم في المركز بحسب موجات القادمين، ورحلات نقل اللاجئين إلى البر الأوروبي بالباخرة. كان هنالك أشخاص من عدة جنسيات. العرب توزعت جنسياتهم في معظمها بين التونسيين، الذين شكلوا وقت إقامتي النسبة الأكبر بين العرب، ثم الفلسطينيون والسوريون والجزائريون والمغاربة على التتابع، مع وجود عدد قليل وقتها من اليمنيين، وشخصان من مصر. أما بالنسبة إلى الأفارقة من ذوي البشرة السمراء، فقدموا من دول عديدة مثل غينيا والكونغو والسنغال وبينين وغيرها، وكانوا يمثلون ما يقرب من نصف سكان المركز تقريباً، في المراحل الأخيرة من إقامتي. كما وجدتُ قلة من الأتراك، وبنغالياً واحداً فقط.

كانت مدد بقاء الجزائريين والمغاربة في مركز مليلية طويلة جداً نسبياً، إذا أنها تتراوح ما بين عام ونصف وعامين، ويليهم التونسيون الذين كانت تتراوح مدد بقائهم ما بين أربعة إلى ستة أشهر. بينما تتراوح مدد بقاء الفلسطينيين والسوريين واليمنيين عموماً ما بين شهر إلى شهرين في معظم الحالات، ما جعل الفئة الأخيرة محل حسد من قبل أبناء المغرب العربي الذين كانوا يعانون الأمرّين في المركز، وكثيرون منهم تحولوا عملياً إلى "مرضى نفسيين" بسبب الأهوال التي شهدوها هناك خلال فترة إقامتهم.

"الحذر سيّد الأخلاق"

قال لي شاب فلسطيني من غزة، قابلته في "بني أنصار"، وسبقني في الدخول إلى مليلية بأيام: "هنا ينبغي أن تكون لديكَ عشرة أعين وإلا ستُسرق. كل شيء قابل للسرقة هنا حتى الغسيل بما في ذلك الملابس الداخلية والجوارب! لولا أن يدك ملتصقة بجسدك لسرقت منك! لا تكن ليّناً ولا تظهر اللين لأحد وإلا كنتَ عرضة للتنمر بسهولة. عليكَ أن تظهر بمظهر الشخص الصعب المراس".

ورغم حرصي الشديد، إلا أن ملابسي الداخلية ومنشفتي وجواربي سُرقت ذات مرة وبسرعة وخفة يد، رغم أنها جميعاً كانت مبتلة. السرقة كانتْ وسيلة العديد من الأشخاص كي يجدوا ما يرتدونه من ملابس، ولينفقوا على أنفسهم. البعض كانوا يسرقون زملاءهم من "النزلاء"، ومن ثم يبيعون أغراضهم، خاصة مَن لا أحد يرسل المال لهم لتوفير احتياجاتهم الأساسية، في مدينة تتعامل بـ"اليورو" مثل مليلية.

عشرات العراكات والمناوشات والصراعات والمشاجرات من أجل كل شيء وضد أشخاص أنانيين ومتنمرين يريدون أخذ كل شيء ولا مانع لديهم من فعل ما لا تتخيله لتحقيق أهدافهم، وينبغي عليكَ أن تكافحهم بشراسة وعنف وإلا التهموك كلقمة سائغة

وبالتالي، فقد كان يوم الغسيل بالنسبة لنا يوم عذاب حقيقي: نغسل كل الكمية من الغسيل يدوياً في المغاسل، وبالماء البارد في أوقات البرد، بسبب عدم توافر الماء الساخن. ومن ثم يأتي البحث عن مساحة خالية على حبال الغسيل، والتناوب على حراسة الغسيل لساعات إلى أن يجف. أما لو كانت الأجواء ماطرة، فهي مصيبة حقيقية: لن نستطيع أن نغسل لأيام، لأن الغسيل لن يجف أبداً. ولا توجد مدافئ في الغرف لتجفيف الغسيل عليها.

كان بعض القاطنين في المركز، من الجزائريين والمغاربة، بحكم فترة بقائهم الطويلة، يتدبّرون نفقاتهم من خلال بيع والبسكويت والشوكلاتة والعصائر والمشروبات الغازية، مع بعض الشطائر (السندويشات) التي يعدّونها في غرفهم، إضافة إلى الشاي. كانوا يشترون تلك البضائع من محلات في وسط المدينة ويعيدون بيعها. البعض الآخر تدبر نفقاته من خلال بيع الحشيش أو "الزطلة"، والذي كانت له تجارة رائجة، في المركز وخارجه، سراً طبعاً. كما أنني شهدتُ عدداً من فتيات المركز اللواتي عملن في الدعارة، وكن يبعنَ أنفسهن مقابل مبالغ ضئيلة، قد لا تزيد في بعض الأحيان عن عشرة يوروه.

الطريف أن زملائي التونسيين في المركز أطلقوا عليّ اسم "إسماعيل التونسي"، بحكم طلاقتي في اللهجة التونسية، لدرجة أن العديد من التونسيين ظنوا في البداية أنني تونسي يدعي أنه فلسطيني كي يتمكن من الحصول على اللجوء في أوربا بسهولة.

حظيتُ باحترام الإدارة بسبب تعلمي السريع للإسبانية، بحكم معرفتي بالفرنسية والإيطالية، إذ تشترك اللغات الثلاث بكونها لاتينية الجذور، كما زاد احترام العديد من الإداريين لي عندما عرفوا بأنني صحافي وحاصل على ماجستير، ما مكنني من الانتقال من الخيمة إلى غرفة، عقب أسبوع من وجودي هناك. ساعدتني اللغاتُ واللهجاتُ التي أتحدثها على الاندماج السريع في المركز الذي هو أشبه بـ"برج بابل" الوارد ذكره في العهد القديم.

من داخل غرفتي في المخيم، بجوار سريري (رقم 13).

اكتشفتُ أن الحياة في الغرف صعبة للغاية، فهي مزدحمة بـ14 شخصاً في كل غرفة، رغم أن العدد المثالي لها هو ثمانية أفراد فقط. كان كل يوم كان يمرّ عليّ هناك كان يؤكد القناعة التي تعززت لديّ يوماً بعد يوم خلال تلك الفترة: هذا المكان يُخرج الوحش المستقر بداخلك، والذي لم تكن تعلم عنه أي شيء على الإطلاق.

لا داعي للحديث عن كم الصراعات التي خضتها هناك كي أحظى بقليل من الراحة. كانت أكثر الفئات إثارة للمشاكل هم الفلسطينيون والتونسيون والجزائريون والمغاربة: كانت ممارسة العنف منتشرة على الرغم من العقوبات المشددة، وينبغي عليكَ أن تكافحَ كل يوم بشراسة كيلا يمسكَ أحد بسوء.

ينبغي عليكَ خوض معارك مستمرة لنيل أبسط حقوقك: كي تتمكن من الحفاظ على أغراضك القليلة أصلاً؛ من أجل استلام الملابس البائسة التي يوزعونها في المركز؛ كي تنام مرتاحاً؛ كي تشحن هاتفك المحمول، إلخ. عشرات العراكات والمناوشات والصراعات والمشاجرات من أجل كل شيء وضد أشخاص أنانيين ومتنمرين يريدون أخذ كل شيء ولا مانع لديهم من فعل ما لا تتخيله لتحقيق أهدافهم، وينبغي عليكَ أن تكافحهم بشراسة وعنف وإلا التهموك كلقمة سائغة. لقد أخرج هذا المكان أسوأ ما في داخلي بحق.

"احذر أن يلتهمك عقلك"!

خرجتُ من غرفتي، لأجد سيارة إسعاف تتوقف على باب المركز، وسط تجمهر اللاجئين حولها. "جزائري تم طردهُ من المركز لثلاثة أيام، فمزق جسده بزجاجتين مكسورتين كانتا عند الباب"، قال لي تونسي موضحاً ما جرى. ألقى الحادث علينا بغمامة سوداء كثيفة.

الصراعات بين القاطنين في المركز لأتفه الأسباب، أو أن يؤذي أحدهم نفسه حوادث ليست بالنادرة هنا. الضغط النفسي المدمر الذي يتسبب به هذا المكان مخيف حقاً، ولهذا سعيتُ منذ يومي الأول في المكان إلى البحث عن سبل لتطوير ذاتي، وإلهاء عقلي عن التفكير بالواقع المأساوي الذي أعيشُ فيه، مستلهماً بذلك قصص الآلاف من الأسرى الفلسطينيين، الذين أكملوا تعليمهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فكما قال الكاتب الإسباني كارلوس زافون: "من الأفضل أحياناً أن تُشَغِّل دماغك وتستهلكه، بدلاً من أن تتركه يستريح، بحيث ينتابه الضجر فليتفتُ إلى نهشكَ حياً".

هنالك في المركز، مدرسة تدرّس اللغة الإسبانية، بشكلٍ مجاني واختياري لمَن يريد، ولساعة واحدة في اليوم، موفرة للطلاب الدفاتر والأقلام ونسخ الدروس مجاناً. كانت فرصة ممتازة لي كي أفرغ طاقتي السلبية في التعلم، وكيلا أخسر ذاتي في ذلك الجحيم. كذلك، كانت هناك العديد من الأنشطة التي استطعتُ من خلالها تفريغ طاقتي السلبية، وتطوير لغتي الإسبانية بسرعة. كان خوفي الدائم هو أن أخسر ذاتي، ويغلبني هذا المكان، ليدمرني فيسحقني بطاقته السلبية. لقد كانتْ معركة مستمرة بيننا، على مدى كل دقيقة لي.

الخروج... أخيراً!

وأخيراً! سأغدو حراً بعد 44 يوماً، كنتُ أشعر أن كل يوم منها، دون مبالغة، بسنة كاملة. كنتُ قد أنهيتُ إجراءاتي مع السلطات الإسبانية، ورحتُ أنتظر ظهور اسمي في "كشف الخروج" من جحيم مليلية. يوم الخروج من المكان هو يوم عيد، دون أدنى مبالغة، بالنسبة إلى كل لاجئ، وبالتالي فإن يوم الأسبوع الأهم عند الجميع كان يوم الثلاثاء، ففيه يتوقعون أن تظهر أسماؤهم في كشف الخروج، المعروف بيننا باسم "الساليدا".

في قاعة المغادرة في ميناء مليلية، بانتظار إنهاء إجراءات السفر، لركوب العبارة.

لا يتم تعليق الكشوفات مطلقاً، بل مناداة الأسماء التي قد تتغير معظم معالمها عند مناداتها بلكنة إسبانية. يسرع السعداء ممن وقع الاختيار عليهم للخروج من هنا إلى الذهاب إلى مبنى الإدارة للتأكد من الخبر، ومن ثم تجهيز أنفسهم للسفر في اليوم التالي مساء إلى مدينة "ملقا" عبر البحر.

يتم التأكد من أن الشخص سلم "العهدة" التي لديه كالأغطية والشراشف، كما يتم التأكد أيضاً من أنه أنهى كافة إجراءاته وفحوصاته الطبية في بعيادة المركز، ومن ثم يتجه إلى أحد الحلاقين من "النزلاء"، الذين يعملون في المركز بترخيص من الإدارة، ويتقاضون عن كل شخص مبلغ 2 أو 2.5 يورو لحلاقة شعر الرأس واللحية، كي يكونوا في أحسن حال، ومن ثم يجمعون ملابسهم وأغراضهم.

تقام الاحتفالات، مع الرقص والأهازيج، وتوزيع الحلوى والمشروبات الغازية أحياناً، إلى حلول الساعة السادسة مساء، حين يخرجون من المركز بسيارات الأجرة، إلى الميناء كي يتم هناك التأكد من هوياتهم بدقة وتفتيش أمتعتهم، ومن ثم يصعدون إلى العَبَّارة التي ستنقلهم إلى "ميناء مدينة ملقا"، في رحلة تستمر لثماني ساعات.

في ميناء مليلية، من أمام العبارة التي ستقلّنا إلى ميناء ملقا الإسباني.

خرجتُ من مليلية منذ شهورٍ طويلة، لكنني بقيتُ على تواصلٍ مع العديد من الأفراد الذين بقوا هناك وأشخاص لحق بهم أقرباؤهم بعد شهور، عابرين الطريق الشاقة ذاتها، ومن بينهم فلسطينيون أمضوا ثمانية أشهر تقريباً في مليلية، بشكلٍ استثنائي ولأسباب هم أنفسهم يجهلونها. قالوا لي: "قد يكون هنالك بعض التغييرات على مواعيد الساليدا، أو إجراءات الدخول، بحكم أزمة كورونا. لكن الأوضاع السيئة للاجئين هي ذاتها لم تتغير".

ما رأيتهُ هناك في تجربتي في مليلية، وما استجد خلال أزمة "كورونا"، يستلزم كتابة عشرات الصفحات: توجب علي تلخيص المسألة واختصار مئات من التفاصيل والمعلومات والأحداث الجانبية التي رأيتُ أن عدم ذكرها لن يؤثر كثيراً، مقتصراً قدر الإمكان على ما ارتأيت أنه شديد الأهمية، في ما يتعلق بظروف لا أتمنى لألد أعدائي تجربتها ولو ليوم واحد.

وأود القول أيضاً إن "مَن رأى ليس كمَن سمع". رغم أنني تابعتُ قضايا اللاجئين منذ عام 2010، ومعاناتهم في البحث عن ملاجئ آمنة لهم في أوروبا، إلا أن كوني واحداً منهم، خلال تلك التجربة الصعبة، أفهمني طبيعة معاناتهم بحق. لن تستطيع أن تفهم قضية اللاجئين جيداً إلا إن كنتَ واحداً منهم.

الأرقام والإحصائيات متوفرة ويمكن الحصول عليها بسهولة، وكذلك بالإمكان الاستماع إلى شهادات كثيرٍ من اللاجئين، لكن معايشة الأمر على أرض الواقع مختلفة تماماً، ولا يماثلها شيء أبداً. وإنني لأحمد الله كل يوم على أنني خرجتُ سليماً معافى من ذلك الجحيم في مليلية، وبأقل الخسائر الممكنة، رغم الذكريات الرهيبة التي لا زالت عالقة في ذهني حتى هذه اللحظة.

قال لي شاب يمني أمضى في مركز إيواء اللاجئين في مليلية 38 يوماً: "لولا ظروف الحرب المعقدة في بلادي، لما خضتُ طريق العذاب هذا، لأعاني في جحيم مليلية، وصولاً بعدها إلى أوروبا، التي اكتشفتُ أنها ‘كذبة كبيرة’ بحق. كل ما أتمناه الآن ألا يعاني لاجئون آخرون مثل ما عانينا في مليلية وغيرها. لقد تعذبنا بما فيه الكفاية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image