في عدد خاص أصدرته مجلة "لوفيغارو" الفرنسية تحت عنون "الجريمة والعقاب"، يحدثنا مجموعة من الباحثين والمشرّعين والقانونيين الفرنسيين أن من الأسباب الرئيسية لإلغاء عقوبة الإعدام في القانون الفرنسي، هو أثر هذه العملية على منفذيها، أو "انحراف الجلاد"، فعقوبة الإعدام تجعل من الهيئات الإدارية والقانونية بحكم القتلة، من خلال تمرسهم على اعتياد القتل.
الجريمة كعمل فني
يتناول عرض "المتحف" للمخرج بشار مرقص، هذه الموضوعة على مدار خمسة فصول، حيث نتعرّف في الفصل الافتتاحي في حوار بين المحقق والمجرم (تمثيل: هنري إنداروس، رمزي مقدسي) على الجريمة التي حكم على أساسها على المجرم بالإعدام، والتي جرت منذ سبع سنوات في المتحف.
ندرك من الحوار الجاري بينهما تفاصيل الجريمة، لقد ركن المجرم سيارته قبالة المتحف، وقف بالصف حيث المسافات المتساوية بين زوار المتحف.
في عدد خاص أصدرته مجلة "لوفيغارو" الفرنسية، يحدثنا مجموعة من الباحثين الفرنسيين أن من الأسباب الرئيسية لإلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا، هو أثر هذه العملية على منفذيها، فعقوبة الإعدام تجعلهم بحكم القتلة، من خلال اعتيادهم على القتل
يلحظ المجرم حضور أطفال من المدارس ترافقهم المعلمات، وقف في منتصف البناء الفاخر للمتحف، يسأل المحقق: "كيف قدرت تتعامل مع كل هي العظمة بهدوء وأنت فايت تعمل جريمتك؟"، وهناك يخرج المجرم الرشاش من جاكيته ويطلق النار على كل الأطفال الموجودين في الصالة، مصوباً على رؤوسهم بدقة، كي تتطاير دماؤهم على جدار الصالة وعلى حيطان المتحف.
خط أحمر من الدم متواصل على أربع حيطان: "جثث الناس والأطفال شفتهم ثابتين، خلصتْ حركتهم، كأنهم تماثيل معروضة في المتحف".
يدافع المجرم بأن جريمته صورة من صور الفن المعاصر، لم تكن إحدى لوحات المتحف مكتملة برأيه، فرغب إكمالها بالأشلاء والدماء النافرة من رأس المعلمة، التي شدّها وأطلق النار على رأسها فوق اللوحة المعروضة. يختار الكاتب المسرحي (دراماتورجيا: خلود باسل) هذه الجريمة لعنصري الوحشية والعنف من جهة ولارتباطها بعناصر الفن من جهة أخرى.
فاختيار جريمة على هذه الوحشية هي لدخول المتلقي المسرحي في لعبة القسوة والتعاطف مع المجرم المحكوم بالإعدام، أما العنصر الفني فهو سيفتح على أسئلة حكم الإعدام في نهاية المسرحية؛ ألا تشبه طقوس وإجراءات حكم الإعدام أيضاً سلوكيات زوّار المعارض الفنية؟ أليس تنفيذ عقوبة الإعدام مشهداً استعراضياً؟
في هذا الخصوص، جاء في البيان المرافق للعرض: "أراد السجين أن يصنع من موته عملاً فنياً ينزع مصداقية الدولة على جدران المتحف. أما الدولة فتريد الآن أن تصنع من موته، حسب القانون، عملاً فنياً يغذّي سلطتها. إنها المعركة الأخيرة لحرب يكون المنتصر فيها هو مصمّم اللوحة الأخيرة التي يراها الجمهور".
عقوبة الإعدام كاستعراض جماهيري
تجري أحداث المسرحية بالكامل في غرفة التحقيق، وفي الساعات الأخيرة قبل تنفيذ حكم الإعدام بالمجرم: "في اللحظة التي يلتقي فيها الشخصان أمام الجمهور في غرفة مغلقة تماماً، يتعادل القطبان، يفقد القانون قدرته على صياغة الأخلاق، تخسر الرغبات تبعاتها، تتحرّر الأفعال من نتائجها وتصبح الغريزة الإنسانية صاحبة السلطة".
ويدمج المخرج عدة وسائط تقنية في عملية السرد المسرحي، منها الموسيقى الإلكترونية وتقنيات الإسقاط الضوئي على شاشة، الكاميرا المحمولة التي تصوّر الحدث المسرحي من أكثر من زاوية وتعرضه أمام أعين الجمهور بأكثر من محور بصري، يدرس المخرج من خلالها الإيحاءات التي يرغب بإيصالها بصرياً وسينوغرافياً إلى الجمهور.
الجمهور كمتفرج منحرف
الكاميرا المحمولة على المسرح تُحرّك من قبل الشخصيتين المسرحيتين، ذلك لأنهما في حالة تنافس حول الصورة التي يرغبان بتصديرها للجمهور، كلاهما منهمكان في الصورة التي تصدر عنهما إلى النظارة، يموضعان جسديهما على المسرح بالطريقة التي تظهرهما متصارعين، متقاربين، أو في حالاتهما العنفية التي يحرصان على تصديرها كعمل فني.
يتناول عرض "المتحف" للمخرج بشار مرقص، موضوع "الجريمة كعمل فني" على مدار خمسة فصول، حيث نتعرّف في الفصل الافتتاحي في حوار بين المحقق والمجرم على الجريمة التي حكم على أساسها على المجرم بالإعدام
فالخيارات الإخراجية تنبع من تجربة أساسية يرغب العرض بأن يدخل فيها الجمهور، وهي مقاربته لأكثر من جريمة، مثل جريمة القتل، جريمة الإعدام، جريمة التعذيب على أنها استعراض جماهيري، ليطرح التساؤل لدى المتلقي عن العلاقة بين الفعل الجرمي والعمل الفني، عن السؤال الأخلاقي المتعلّق بالفن، ليصل إلى مقولة بأن الجرائم السابقة كلها تُصدر بصرياً وسمعياً إلى المجتمع، الذي يتابعها كما يتابع الجمهور هذه المسرحية ضمن أطر العمل الفني. إن الجمهور يستمتع بالجرم، العنف، التعذيب وبمراحل عملية الإعدام:
"الإعدام بالحقن بوسخش الأيدين، بلوّث العقل. قمة الذكاء البشري، تكنولوجيا حديثة رحمة الطب والأخلاق، متخبي ومحمي ورا قزاز أسود، أصلاً فيش دم يطرطش والحيطان بتبقى نظيفة".
يستعمل المخرج الموسيقى psychedelic على المسرح للترميز للحظات اللذة أثناء العنف والتعذيب (موسيقى نهاد عويدات). مهمتها أن تنبه الجمهور إلى اللذة الحاصلة عند الشخصيات أو عند المتلقي نفسه أمام مشاهد التعذيب والعنف والجنس. في فاصل مسرحي رمزي بين الفصل الأول والثاني، ترتدي الشخصيتان رؤوساً لخراف، ويموؤون على المسرح كالماعز، مع الرقص على موسيقى psychedelic.
الجميع خراف أمام الأنظمة المتحكمة بالإنسان. المحقق والمجرم خروفان أمام النظام القانوني والعقابي، الجلاد والضحية خروفان أمام نظام العنف المتشرب في الثقافة، الممثلان أيضاً خروفان أمام عيني المتلقي الذي هو الحكم الأخير على كل اللعبة المسرحية على المستوى الفني والتأويلي والأحكام الأخلاقية التي تطرحها موضوعة العرض.
الحرب كجريمة منطقية
تناقش المسرحية عدة أنواع من الجريمة، جريمة القتل، جريمة الإعدام بالحقن، وجريمة الحرب: "الحرب ألها أهداف، ألها قوانين العالم متفق عليها، ويلي بيموت بالحرب بموت لأنو بالحرب، بالحرب في منطق"، فيضحك المحكوم بالإعدام على منطقة عنف الحرب. كما هي أيضاً ممنطقة ومقوننة جريمة القتل بالإعدام:
"أنت هون عنا، بين أيدينا، أحنا منقرر كيف أنت لازم تموت، أحنا منقرر شو بيطلع لبرا، وأحنا بدنا ياك سالم غانم على تخت الإعدام، قدام الشهود، قدام أهل يلي قتلتهم بدم بارد، قدام الكاميرا، آخر صورة ألك إحنا منصممها"، وتجعل الفقرة السابقة من تنفيذ عقوبة الإعدام كعرض فني تصمّمه وتعرضه الدولة. جاء في تقديم العرض المسرحي: "يقدم العرض مواجهة بين إرهاب الفرد وإرهاب الدولة".
السؤال عن دور الثقافة في العنف الحاصل يأتي على لسان المحقق: "درست بمدارس مهمة، بعدها بجامعة مهمة، حاصل على ماستر في الفنون، على الأقل التعليم يلي حصلت عليه مفروض يكون حطك على مستوى معين من الخبرة، تقدر تكون جزء من الحياة، مفروض تكون طورت قدراتك، وينها قدراتك أنك تكون جزء من مجتمع؟ توخد حقك من خلال حوار تثابر، تجتهد، تنافس، تفهم أهمية القانون، تحترم الآخرين، تجرب تغير الحياة بأدوات قانونية، ما تتصرفش كأنك شي حيوان شرس".
يبين العرض فشل الثقافة والتعليم بالمناهج الحالية في تهذيب الغرائز العنفية والهجومية والإجرامية.
التعذيب كشهوة جنسية
يقارب العرض بجرأة بين فعل التعذيب وبين الأفعال الجنسية، عملية تنظيف جسد المحكوم عليه بالموت تجري على المسرح، تتناوب عليها الإحالات الجنسية والعنفية، ففي لحظات يُبدي الثنائي علاقات الجسد المعذب والجسد الممارس التعذيب عليه، وضعيات بصرية تقارب الوضعيات الجنسية، وفي إحالات أخرى يحضر التعذيب كممارسة عنفية تحيل إلى الانحرافات العنفية الإنسانية.
"يا أيتها الآلهة الطاهرة التفتي إلينا بوجهك المشع، بلا غيوم ولا أحجبة. أطفئي أيتها الآلهة نار القلوب الملتهبة، وأخمدي الجرأة والحماس، وانشري في الأرض ذات السلام الذي جعلته يسود في الجنة"
بينما يغسل-يعذب الجلاد جسد الضحية، تصدح موسيقى التكنو مجدداً، ليرقص الجلاد والضحية معاً على إيقاعها، في إحالة إلى الشهوات السادية المازوخية في الفعل الجنسي.
في مسرحية "برونز" كتابة مضر الحجي وإخراج عمر الجباعي، يتبادل المحقق والمعتقل الاستيهامات الجنسية عند كل منهما تجاه عشيقة الآخر، كذلك الأمر في مسرحية "المتحف"، فكلاهما يجري في مكان المعتقل المغلق الخالي من الحضور النسائي. المحكوم عليه بالموت يسأل المحقق أن يغذي خياله بصور جنسية عن زوجته، يسأله إن كان يتداخل عليه الجسد الذي يعذبه والجسد الجنسي لزوجته:
"هيك بتعمل بزوجتك وقت تنيكها؟بتربطها؟ خليني أتخيل. بتحب تشوفها عم تبكي؟ احكيلي بركي بيوقف زبي. يردّ المحقق: أقطعلك ياه بأسناني وحطو بحلقك؟". يرد الآخر: هيجتني. هيك بتحكيلها لزوجتك؟".
ثلاثية الشهوة، الانحراف والجريمة
يخلق المخرج على الخشبة أمام الجماهير ثلاثية بصرية ونفسية تتعلق بالعري، الدم والجنس، وبالتالي تطرح أسئلة على الخشبة حول الجسد والجنس والتعذيب. وينبه العرض جمهوره على حضور هذه العناصر في العرض المسرحي.
في واحد من المشاهد، يُلبس المحققُ المحكوم عليه بالإعدام كيساً من النايلون الأسود، مسجى عند وسط الخشبة، من داخله تبدو حركة الجسد الذكوري وهو يقوم بالاستمناء، حركة اليد صعوداً ونزولاً، والحوار الدائر عن الشهوات الجنسية بين الحقيقة والفانتازم.
يسأل المستمني عن طفل المحقق، تحضر البيدوفيليا أيضاً في المسرحية باعتبارها واحدة من الانحرافات الجنسية، وخصوصاً أن الجريمة الأولى في المسرحية هي قتل الأطفال في متحف. حضور البيدوفيليا يفقد المحقق أعصابه، يهم لقتل المجرم قبل تنفيذ حكم الإعدام، تنقلب اللعبة ليقترب المحقق من أن يتحول مجرماً.
يتصرّف المحقق كما سلوكيات وأفعال جريمة المجرم الأولى مع معلمة الأطفال التي أسند رأسها إلى لوحة وأطلق النار. المحقق يكرر الآن نفس الأفعال برأس المجرم، وبيده مسدس: "قديش خططت لهي اللحظة؟ 8 سنوات خططت لتحولني لقاتل".
مظاهر منحرفة من الثقافة والفن
إذا كانت ثلاثية الجريمة، اللذة والقانون هي الأساسية في المسرحية، إلا أن موضوعة دور الفن تحضر كمحور أساسي، الجريمة التي تجري في معرض فني في متحف تعتبر عملاً فنياً، إجراءات تنفيذ عقوبة الإعدام إدارياً وقانونياً تعتبر أيضاً عرضاً فنياً، وكذلك الممارسات المتداخلة بين التعذيب والفعل الجنسي، تقدم لعين المتلقي بسؤال باعتبارها أعمالاً فنياً.
يسأل المحكوم بالإعدام في طلب حياته الأخير الحصول على اللحم من السوق القديم، يجيب المحقق: "لم يعد هناك سوق عتيق، لقد تحول إلى عمل فني، زرته في معرض تراه بالنظارات الثلاثية الأبعاد، بالرخام المجسد رقمياً على الأرض"، يحضر الفن هنا كبديل مشوه عن الذاكرة. فعلاً يمكن اعتبار مسرحية "المتحف" تطرح أسئلة أربعة عميقة عن دور الفن في الظواهر الاجتماعية والثقافية من حولنا.
يروي لنا المخرج آلان باركر في فيلمه "حياة دايفيد غيل" عن حكاية ناشط لإلغاء عقوبة الإعدام، موّه جريمة وقدّم حياته كمجرم لجريمة لم يرتكبها، ليبين بالبرهان احتمالات الخطأ الإنساني والقضائي في الحكم لمرة واحدة ونهائياً بإنهاء حياة إنسان
تنتهي المسرحية بهذه القصيدة المسقطة ضوئياً على المسرح، والتي تنعي وصول الإنسانية أو عثورها على اليوتوبيا الموعودة، حيث لا تداخل بين الجريمة واللذة، بين الانحراف والشهوة:
"يا أيتها الآلهة الطاهرة التي تغطي بالفضة هذه النباتات العتيقة المقدسة، التفتي إلينا بوجهك المشع، بلا غيوم ولا أحجبة. أطفئي أيتها الآلهة نار القلوب الملتهبة، وأخمدي الجرأة والحماس، وانشري في الأرض ذات السلام الذي جعلته يسود في الجنة".
عن عقوبة الإعدام يكتب فيكتور هوغو عن همجية الدولة، ويكتب لامارتين عن اللذة المنحرفة للجلاد والقاتل ولو كان الجهاز القضائي أو الطبي. في نهاية مسرحية "المتحف" يقرأ المحقق بطريقة قانونية الإجراءات الإدارية والتنظيمية والطبية والقضائية التي ينصّ القانون الجزائي على اتباعها في عمليات تنفيذ عقوبة الإعدام.
يتلوها علينا بوصفها طقوساً باردة جافة تشرعن القتل بنظام إداري بيروقراطي طبي، وتعرضه على الجمهور المراقب، السادي والمتعطش لرؤية القتل كما كان الحال في حلبات المصارعة في الحضارة الرومانية. ويروي لنا المخرج آلان باركر في فيلمه "حياة دايفيد غيل" عن حكاية ناشط لإلغاء عقوبة الإعدام، موّه جريمة وقدّم حياته كمجرم لجريمة لم يرتكبها، ليبين بالبرهان احتمالات الخطأ الإنساني والقضائي في الحكم لمرة واحدة ونهائياً بإنهاء حياة إنسان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...