المماطلة باللغة الإنجليزية تعني procrastination، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية procrastinatus التي تعني "التأجيل حتى الغد"، غير أن عملية التسويف هذه قد تكون أخطر من ذلك بكثير.
قد يكون المطلوب منّا مجرد إجراء اتصال هاتفي سريع مع المدير/ة في العمل، أو إرسال إيميل مقتضب، أو القيام ببعض الأعمال الورقية السهلة للغاية، وبالرغم من أن هذه المهام بسيطة للغاية ولن تستغرق من وقتنا أكثر من دقائق معدودة، إلا أننا قد نستمر في تأجيلها بطريقة ما، ونهدر وقتاً في التفكير في مدى الإزعاج الذي تنطوي عليه هذه المهمة، التي سرعان ما تتحول من مجرد مهمة بسيطة على قائمة الأشياء المطلوب إنجازها إلى مصدر إزعاج مستمر لا يتناسب مع محدودية الجهود اللازمة لإتمامه.
صحيح أن المهام الصغيرة قادرة على أن تشغل مساحة كبيرة من أذهاننا، إلا أن هناك طرق بسيطة يمكن اتباعها لإعادة هذه المهام إلى حجمها الطبيعي، من خلال فهم الأسباب التي أدت إلى تضخيمها، وإعادة صياغة النهج المتبع وتبديل الاستجابات العاطفية، بالإضافة إلى ممارسة التعاطف مع الذات.
عندما تتحول المهام البسيطة إلى "جبال"
غالباً ما نواجه مشكلة في معرفة الأسباب الكامنة وراء تجنّب الأشياء البسيطة التي يتعيّن علينا إنجازها، والتي تتحول بفعل عملية المماطلة إلى "جبال" على كاهلنا.
وفي هذا الصدد، حاولت العديد من الأبحاث الانكباب على فهم العوامل النفسية الكامنة وراء التسويف والانخراط باستمرار في هذا السلوك المزعج.
تنقسم عملية التسويف إلى فئتين: التأجيل الإيجابي والتأجيل السلبي.
ففي حين أن بعض الأشخاص يماطلون عمداً لأنهم يعرفون أنهم يعملون بشكل أفضل تحت الضغط النفسي، نجد في المقابل أولئك الأفراد السلبيين الذين يقعون في فخ التردد أو عدم الثقة، الأمر الذي يجعلهم ينتظرون حتى اللحظة الأخيرة لفعل شيء ما كان بوسعهم الانتهاء منه بشكل أسرع بكثير.
ماذا يقول علم النفس عن التسويف؟
في جوهرها، تنطوي المماطلة على التأخير والتأجيل الطوعي للمهمة التي يجب القيام بها، على الرغم من توقع العواقب، هذا ما قالته أستاذة علم النفس في جامعة شيفيلد في بريطانيا، فوشيا سيرويس، لموقع بي بي سي، معتبرة أن المماطلة غير مجدية بأي شكل من الأشكال.
في الحقيقة، يميل الأشخاص الذين يماطلون بشكل مزمن، إلى التعرض لمستويات عالية من التوتر واضطرابات في النوم، وندرة فرص العمل، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالتقدم في الأدوار التي تتطلب استقلالية واتخاذ قرارات حاسمة.
وعلى صعيد الصحة الذهنية والنفسية، فإنه يتم الربط ما بين المماطلة والاكتئاب والقلق، كما يمكن أن تقود المماطلة إلى تقويض العلاقات الاجتماعية، فعندما نماطل ينتهي بنا الأمر إلى قطع التزاماتنا مع الآخرين.
وفي حين يبدو من السهل فهم سبب المماطلة في أداء المهام الكبيرة، والتي يمكن أن تكون شاقة وتستنزف الكثير من الوقت والطاقة، فإن تأجيل المهام البسيطة قد يعقد المسألة، بحسب ما كشفت فوشيا سيرويس: "لا نؤجل هذه المهام لأننا نغفل عنها، ولكن نتخذ خياراً واعياً ومتعمداً لتأجيل شيء قد يثير الشك أو عدم الأمان أو الخوف أو الشعور بعدم الكفاءة".
وعلى الرغم من أن الكثيرين يعتقدون أن المماطلة لها علاقة بسوء إدارة الوقت، إلا أن فوشيا اعتبرت أن الأمر يتعلق بالحالة المزاجية: "المماطلون ليسوا هؤلاء الكسالى اللامبالين، بل إنهم في الواقع ينتقدون أنفسهم حقاً، وهم قلقون كثيراً بشأن تسويفهم".
يميل الأشخاص الذين يماطلون بشكل مزمن، إلى التعرض لمستويات عالية من التوتر واضطرابات في النوم، وندرة فرص العمل، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالتقدم في الأدوار التي تتطلب استقلالية واتخاذ قرارات حاسمة
في معرض الحديث عن العوامل النفسية التي تقف وراء المماطلة، أجرى موقع رصيف22 حواراً مقتضباً مع الأخصائية في علم النفس لانا قصقص، والتي أشارت إلى أنه في العادة يكون القلق هو السبب الرئيسي وراء تأجيل المهام: "غالباً ما يكمن السبب في القلق والخوف من الفشل حتى في المهام البسيطة"، مشيرة إلى أن هذا الخوف من الفشل يجعل الشخص المعني يهرب من المواجهة ومن تحقيق طموحاته والأهداف المرجوة.
هذا وكشفت قصقص أن المماطلة تولّد في نفوس الأفراد، العديد من المشاعر السلبية: "الشخص الذي يماطل يشعر بداخله بالانزعاج ويختبر العديد من المشاعر السلبية كغياب الثقة بالنفس"، مضيفة: "كلّما ماطل المرء وقام بتأجيل المهام المطلوبة منه، كلّما شعر أكثر بالفشل والخوف وانخرط مجدداً في دوامة التأجيل إلى ما لا نهاية".
بمعنى آخر، إن القلق يسيطر على أذهان البعض ويستنزف مواردهم المعرفية، ما يقلل من قدرتهم على حلّ المشاكل، ويجعلهم يسألون أنفسهم: "لماذا لا يمكنني القيام بهذا الشيء البسيط؟"، ومن ثم ينخرطون في دائرة تأجيل المهام، ما يزيد من مشاعرهم السلبية حيالها، ويعيق قدرتهم على النظر إليها بعقلانية.
كيف يمكن أن نحفّز أنفسنا لإنجاز مهمة نخشاها؟
عندما ظهر وباء كورونا، لم يكن لدى الناس الوقت الكافي للتكيّف مع نمط الحياة الجديد.
ونتيجة التغيرات المفاجئة المتعلقة بكيفية عيش الناس لحياتهم، ساهمت هذه الجائحة في زيادة التوتر والقلق وتقلّب المزاج.
وفي هذا الصدد، أثبتت الأبحاث المختلفة أنه عندما يكون الأفراد في حالة خوف، توتر أو اكتئاب، فإنهم يصبحون أكثر عرضة للتسويف وتأخير أو تأجيل المهام.
من جهته، أوضح أستاذ علم النفس في جامعة كارلتون في أوتاوا الكندية، ومؤلف كتاب Solving the Procrastination Puzzle، تيموثي بايتشيل، أن الدافع غالباً ما يتبع العمل.
وأضاف بايتشيل: "في المرة القادمة التي تشعر فيها بأن جسدك كله يصرخ قائلاً: لا أريد فعل ذلك... اسأل نفسك: ما هو الإجراء التالي الذي أحتاجه للقيام بهذه المهمة البسيطة؟"، وتابع بالقول: "ما يحدث بعد ذلك سيجعلك تحوّل انتباهك إلى التركيز على الأفعال بدل المشاعر".
إذا كنتم من الأشخاص الذين يماطلون ويؤجلون عمل اليوم إلى الغد أو حتى ما بعد الغد بكثير، فالقليل من التعاطف مع الذات قد يكون المفتاح للعودة إلى المسار الصحيح
وبدوره، أطلق المستشار الأميركي ومؤلف كتاب Getting Things Done، ديفيد ألين، مصطلح "قاعدة الدقيقتين"، التي تقول إنه إذا كانت المهمة تستغرق أقل من دقيقتين، فإن الوقت المستغرق في إضافتها إلى قائمة المهام المطلوب القيام بها، سيتجاوز المدة التي يمكن فيها إكمال المهمة.
وعليه، شدد ألين على أنه بدلاً من جدولة هذه المهام البسيطة، فإنه يجب الغوص فيها دون تأخير.
واللافت أنه يمكن أن تساعد هذه العقلية الاستباقية في تجاوز اجترار الأفكار غير الضروري.
فقد أظهرت دراسة أجراها تيموثي بايتشل على طلاب الجامعات أنه بمجرد أن بدأوا المهمة فعلياً، صنّفوها على أنها أقل صعوبة وإرهاقاً مما كانت تبدو لهم عندما كانوا يؤجلون فيها.
وأوضح بايتشيل أن العمل على تقليل الإستجابة العاطفية سيساعد المرء على إدارة المهام البسيطة بشكل أفضل، كاشفاً عن حيلة أخرى للتعامل مع المهام الصغيرة وهي دمجها في مهام أكبر.
التعاطف مع الذات
كبشر لدينا ذكريات عن الاستجابات العاطفية التي أدت إلى التسويف في الماضي، هذا ما تحدثت عنه فوشيا سيرويس، مشيرة إلى أنه إذا كنّا نتذكر عاطفة سلبية، فإن إحدى طرق نزع فتيلها يكون عن طريق التفكير في كيفية إعادة صياغة المهمة المطلوبة، كاعتبارها فرصة لتعلم مهارة جديدة.
هذا ويشدد كل من بايتشيل وسيرويس، على ضرورة ألا نقسو كثيراً على أنفسنا، لا سيما في ظل الضغوط الإضافية التي وضعها وباء كورونا على أكتافنا.
في نهاية المطاف، إذا كنتم من الأشخاص الذين يماطلون ويؤجلون عمل اليوم إلى الغد أو حتى ما بعد الغد بكثير، فالقليل من التعاطف مع الذات قد يكون المفتاح للعودة إلى المسار الصحيح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...