"بلّشنا تحضير العرس على الـ 1500 عملناه على الـ 10000". هكذا اختصرت ر. جردلي (29 عاماً) ليلة حفل زفافها في لبنان، والتي بحسب قولها تحوّلت مما يفترض أن يكون أجمل ليلة في حياتها إلى عقاب نفسي ومادي. ففي العام 2019، وقبل تفشي وباء كورونا كانت ر. قد بدأت بالتحضيرات اللازمة لإتمام زواجها في صيف العام 2020، عبر إقامة حفلة صغيرة تضمّ العائلة والأصدقاء. لكن وبسبب الانهيار الاقتصادي وتفشّي وباء كورونا تعرقلت كل الخطط. تقول: "أتلقى راتبي الشهري بالعملة اللبنانية، ولذلك فإن ارتفاع سعر صرف الدولار يمسّني بطريقة مباشرة، الأمر نفسه ينطبق على زوجي. كنّا قد حجزنا الصالة، اخترنا قائمة الطعام والزينة، ومن بعدها قرّرنا إلغاء كل شيء لأن الأسعار تضاعفت ولم يعد بمقدورنا إتمام الزفاف، لأن فرش المنزل كان له الأولوية".
تشرح ر. بأنها اتّخذت القرار المنطقي عبر عدم الخضوع لتجّار ومتعهّدي الانهيار الاقتصادي، حيث إن أغلب من يعملون في هذا المجال يحاولون تعويض خسارة سنة من العمل عبر وضع أسعار خيالية. وتؤكّد أنها لا تعمّم هذه الفكرة لكن وبحسب تجربتها الشخصية هذا هو استنتاجها. فابتداءً من الطعام وصولاً إلى الفستان هناك ربح يجب تحقيقه.
تقول: "قرّرنا، زوجي وأنا، أن نتحكّم بأموالنا، فإذ كان سعر صرف الدولار قد قارب الـ 10000 ليرة لبنانية، نحن سنحدّد كل ما نريده. ولذلك في قرية زوجي البقاعية وفي الحديقة التابعة لمنزل قريبه أقمنا زفافنا. اخترنا الزينة، قطفنا الورود ووضعناها على الطاولات، استعنّا بخبرات الأصدقاء الذين بحسب قولهم كان حفل زفافنا واحداً من أجمل الليالي التي عاشوها، وذلك لأننا رفضنا أن نخضع للانهيار وللتجّار وتوجّهنا نحو إقامة حفل حميمي وبسيط لم يكلّفنا حينها أكثر من 4000$".
هذا هو التفكير السائد في لبنان، حيث يتحوّل الزفاف إلى تصريح اجتماعي يعبّر عن مدى قوّة العائلة التي يأتي منها الشخص وعن مدى قوّة الزوجين
يشرح جورج. ب، وهو منظّم لحفلات الأعراس، أنه ومنذ العام 2019 يعاني مثله مثل الجميع من الناحية الاقتصادية، وذلك لأن الناس أصبحوا غير قادرين على إقامة حفلات الزفاف التي كانت تسيطر في السنوات الماضية على الطابع العام في لبنان، والتي تبدأ كلفتها بـ 20 ألف دولار، ويشرح: "أغلب الذين عملت معهم لديهم رغبة بعكس موقعهم الاجتماعي والمادي من خلال ليلة عرسهم، ويتجلّى هذا الأمر من خلال نوعية الأطعمة التي يتم اختيارها، تشكيلة الأزهار، الإضاءة، وحتى نوع القماش الذي يوضع على الطاولة. وهذا هو التفكير السائد في لبنان، حيث يتحوّل الزفاف إلى تصريح اجتماعي يعبّر عن مدى قوّة العائلة التي يأتي منها الشخص وعن مدى قوّة الزوجين".
يضيف: "منذ العام الماضي، هذه القوّة مسجونة في المصارف ويتم صرفها على الغذاء والحاجات الأساسية. وبالتالي حفلات الزفاف يمكنها أن تنتظر أو أن يتم المساومة على تفاصيلها. أغلب الحفلات التي نشهدها اليوم هي لأفراد يعيشون خارج لبنان، أو بداخله لكنّهم يقبضون بالدولار. ومن ناحية أخرى وبسبب الحاجة يتم تنفيذ حفلات زفاف أبسط تناسب الأوضاع العامّة، وهذا ما نشهده في الفترة الأخيرة".
نحتفل كي نتخطّى الدمار
كانت ليليان. ق (30 عاماً) قد قرّرت مع شريكها الانتقال إلى منزلهما الزوجي دون إقامة أي نوع من أنواع الاحتفال. لكن وبعد العام الفائت غيّرا رأيهما، وذلك لأنّهما يريدان اختبار ليلة واحدة طبيعية. وعن هذه الفكرة تشرح: "بسبب الأوضاع العامّة التي منعتنا من التواصل مع العالم الخارجي لمدّة طويلة، قرّرنا، وبسبب الطلبات المتكرّرة من الأصدقاء، أن نقيم زفافاً يضمّ كل الذين نحبّهم". وعن الصعوبات التي تواجهها، تقول: "العالم عم تاكل بعضها وما حدا عم يشتغل بضمير"، حيث يحاولون، وبحسب تعبيرها، تعويض الخسارات عبر سرقة الناس خلال هذا الموسم.
في زيارتها الأولى لإحدى الصالات، علمت ليليان أن الزفاف سيكلّفها حوالي الأربعين مليون ليرة لبنانية وفقاً لسعر الصرف، وذلك دون أن تكون قد أمّنت كامل التفاصيل اللازمة. فهذا السعر لا يغطي كلفة الكحول أو الزفّة أو برنامج الموسيقى، وهو فقط للحجز والطعام وجزء محدّد من الزينة. ومن ناحية أخرى تشرح ليليان أن أغلب المنظّمين يطلبون نصف المبلغ بالدولار الأميركي والنصف الثاني بحسب سعر الصرف الرسمي 3900 ل.ل، وتقول: "ليه بدّي إدفع، حتّى لو قادرة، بنص انهيار اقتصادي أربعين مليون ليرة على عرس؟! هيدي سرقة. وبعد ما حكينا عن الفستان وأجاره".
لا أقول أمام المتعهّدين أنني أعمل في الخارج، لأنهم سيرونني كأنني عملة خضراء فقط ومشروع زفاف سيتم الاستفادة منه على حساب تعب عمري
في النهاية وجدت ليليان ما يناسبها، إذ تعرّفت على شاب بدأ عمله كمنظّم للأعراس هذا العام، ويهدف من خلال عمله إلى التعامل مع فكرة الزفاف اعتماداً على مفهوم جديد مبني على أسس الانهيار الاقتصادي بدلاً من اتّباع "الأسلوب اللبناني"، وعن هذا الأمر تقول: "ما يفعله ذكي جداً، إذ إنه يستغل الأزمة ليلبّي رغبات الناس بإقامة الأعراس دون أن يعرّضهم للقلق المادّي، بل بالعكس يعتمد في تنظيمه على قدرتهم المادية، وبالتالي بدلاً من صالة تبلغ قيمتها الـ 3000$ بإمكانه أن يؤمّن لنا صالة بـ 600$، وهذا ما فعله، وهذا ما سيجعل الزبائن يقصدونه كما فعلت أنا".
"جات الحزينة تفرح ما لاقت إلها مطرح"
هناك من تعرقلت حفلات زفافهم وتأجّلت بسبب الانهيار الاقتصادي وتفشي وباء كورونا، وهناك في المقابل من فقدوا أفراداً من عائلتهم بسبب الأخير وبالتالي اضطروا إلى إلغاء الاحتفال، وهذا ما حدث مع ش. ر (33 عاماً) وهي لبنانية مقيمة في دبي، تخطّط لزواجها منذ العام 2019، لكنّه تعرقل أوّلاً بسبب الإقفال التام، ومن ثمّ بسبب وفاة كل من خالها وجدّها بعد إصابتهم بفيروس كورونا.
تقول: "تم تأجيل حفل زفافنا بعد علاقة عمرها سنوات وتحضيرات دامت أشهراً بسبب تفشّي وباء كورونا. شعرت بالحزن لكني قلت لا بأس، ووضعت موعداً جديداً، إلا أنه ألغي مجدّداً بسبب حالات الوفاة. واحتراماً للتقاليد تمّ تأجيله".
تشعر ش. أن مَثَل "جات الحزينة تفرح ما لاقت إلها مطرح" ينطبق عليها، وذلك لأنها انتظرت لسنوات طويلة لتجتمع بالرجل الذي تحب، ولتنهي غربتها التي أجبرها البلد على خوضها كي تتجنّب الفقر، واليوم حين أرادت أن تفرح وجدت انهياراً اقتصادياً وموتاً. وهي تفكّر اليوم بإقامة احتفال بسيط يضم الأصدقاء المقرّبين فقط، وتقول: "على الرغم من عملي بالخارج يجب عليّ الالتزام بمبلغ مادّي محدّد، لأنني وخطيبي نعيل عائلاتنا. ولذلك اخترنا أن نقسّم العرس بين عشاء للعائلة واحتفال للأصدقاء. حتى اللحظة لا أقول أمام المتعهّدين أنني أعمل في الخارج، لأنهم سيرونني كأنني عملة خضراء فقط ومشروع زفاف سيتم الاستفادة منه على حساب تعب عمرنا، الذي كلّفنا تغرّبنا عن عائلاتنا وبلدنا، وهذا ما حصل حين زرت صالوناً لتصفيف الشعر، وأعلمني أن كلفة العروس تصل إلى أربع ملايين ليرة لبنانية".
وتختم: "هناك من يعتبرون أن هذه الليلة غير مهمّة، بالنسبة لي هي لن تغيّر شيئاً، لكنّها مشاركة لفرحتنا وحبّنا مع العائلة والأصدقاء، ومن غير العادل أن يتم تحويل فرحة الناس في ظل الوضع الراهن إلى تجارة غير إنسانية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...