لأشهر عديدة تلت انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، امتلأت الساحات في مختلف المناطق اللبنانية بالمنتفضين، أو بالثوار، كما يستحسن البعض القول. استعادة اللحظات الأولى لهذا الانفجار الشعبي يشوبها الآن تشوّش، بعد توالي الأزمات والمصائب على سكان هذا البلد.
هنالك صور من "أيام العزّ الثوري" يصعب نسيانها، كصورة طلاب المدارس وهم يطوفون الشوارع بأزيائهم المدرسية رافضين الالتزام بالعودة إلى مقاعدهم قبل تحقُّق مطالب "الثورة". أيضاً، صور الشابات والشباب في المرايا التي توزّعت على جدران المدينة وقد خُطّت في أسفلها جملة: "أنا قائد/ة الثورة". فجأة، ولمدة قصيرة، جُرّدت الزعامات من هالاتها، وأصبح #كلن_يعني_كلن معزولين، وبات كل فرد، كل شاب وشابة، قائداً وقائدة.
قبل هذه المشاهد بنحو سبع سنوات، وفي الثالث من نيسان/ أبريل 2012، أقرّ مجلس الوزراء "وثيقة السياسة الشبابية"، بوصفها "رؤية للدولة حول التنمية الشبابية الوطنية". أتت هذه الخطوة تتويجاً لعمل على السياسة الشبابية في لبنان بدأ عام 2000 وشاركت فيه مجموعة من الجمعيات الشبابية ومجموعة عمل الأمم المتحدة الخاصة بالشباب ووزارة الشباب والرياضة.
تُحدّد الوثيقة الفئة الشبابية، انطلاقاً من معيار العمر البيولوجي، بأنها الفئة العمرية الواقعة بين 15 و29 سنة. وتتضمن "السياسة الشبابية" توصيات وفق خمس قطاعات أساسية هي: الخصائص السكانية والهجرة، التربية والثقافة، الاندماج الاجتماعي والمشاركة السياسية، العمل والمشاركة الاقتصادية، والصحة.
وأقرّت هذه السياسة الوطنية بعدد من التحديات التي يواجهها الشباب ومن بينها "ضعف مشاركة الشباب في الشأن السياسي والشأن العام، والمتمثل بعدم مشاركتهم لا اقتراعاً ولا ترشّحاً بالانتخابات النيابية والبلدية قبل سنّ الـ21 والـ25"، وأيضاً بأزمة "البطالة" وبـ"عدم ثقة المجتمع" بقدرات الشباب.
لوهلة، يمكن تصوُّر أن تحدّي تفعيل مشاركة الشباب في الحياة السياسية العامة يمرّ عبر زيادة نشاطهم في الأحزاب السياسية الفاعلة. ولكن إذا وجّهنا نظرة أعمق إلى المسألة، سنرى أن هنالك تحديات يواجهها الشباب داخل الأحزاب قد لا تقلّ صعوبة عن التحدي العام. يمكن لمس ذلك في تبرير القيادي الشبابي في حزب القوات اللبنانية طوني بدر لغياب الشباب عن الكتلة النيابية لحزبه بأن "هناك جيلاً في الحزب قدّم الكثير من التضحيات من أجل بناء القوات وأتفهّم الحاجة لإعطاء هؤلاء الفرصة في وقت الانتخابات". ويمكن لمسه بوضوح أشدّ في حديث عضو مكتب الشباب والرياضة في حركة أمل محمد الحاج عن عدم ثقته بفئة الشباب التي ينتمي إليها، على أساس أن "البلد يمرّ بظروف صعبة لا تسمح بالمخاطرة بترشيحات شبابية لأن الغلط مكلف"، بحسب تعبيره.
مرحلة الشباب، وتُعرّف بأنها فترة الانتقال من المراهقة إلى سن الرشد، تخلق تحديّات كبيرة للشباب الذين يختبرون التهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وهذا التهميش غالباً ما يرتبط بتجارب الفقر والتمييز والعنف والصدمات النفسية والعيش في حالة من عدم الاستقرار المستمر.
كل هذه الأمور كان يُفترض بالسياسة الشبابية أن تتعامل معها. ولكن، انقضت سبع سنوات بين صدورها وبين انتفاضة تشرين من دون تسجيل أي تراجع في المؤشرات الدالة على تهميش الشباب. على العكس من ذلك، فضحت الانتفاضة أولاً ثقل الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على هذه الفئة، إذ تصل تقديرات نسب البطالة بين اللبنانيين إلى 37%، وعادةً ما تكون نسبة البطالة بين الشباب الذين يحملون شهادات جامعية أعلى بكثير من النسبة العامة المرشحة أساساً للارتفاع. كما ارتفعت نسبة الفقر إلى 50% حسب تقديرات البنك الدولي.
وكأن تزايد حدّة الانهيار الاقتصادي المستمر منذ ما يزيد عن السنة لم يكن كافياً لمفاقمة هشاشة الشباب، جاء انفجار الرابع من آب/ أغسطس 2020 في مرفأ بيروت، كالضربة القاضية التي أشعرت الكثيرين من سكان لبنان، وخصوصاً الشباب، بالخطر المباشر الذي يعيشون فيه وبضيق الأفق السياسي والاقتصادي، ما دفعهم إلى التفكير بالهجرة أكثر، حسب تقارير عدّة.
في خضم هذه الأزمة، وقبل جائحة كورونا وتفجير الرابع من آب، اختار الشباب اللبنانيون المعارضون أن يكونوا "قادة الثورة". يحمل خيارهم هذا رمزية الرغبة بإدارة دفّة التغيير، فيما يتعثّر بواقع يدفعهم إلى هامش القرار السياسي والمشاركة السياسية الفاعلة.
أبرز الصور المعبّرة عن إشكاليات الربط بين الشباب كفئة عمرية وبين التغيير السياسي هي صورة الاعتداءات على المتظاهرين وخِيَم "ساحات الثورة". معاينة هذه الصورة سريعاً تظهر أن الشباب منقسمون بين موالين لأحزاب السلطة ومتحمّسين لها وبين معارضين يحاولون إزاحة هذه الأحزاب عن المشهد العام. لكن توخي الدقة يستدعي النظر إلى نفس الصورة مجدداً: الشباب على كلا الجانبين يعانون من التهميش. فهل أمام الجيل اللبناني الصاعد فرصة ليقود التغيير، أم أن الهامش الذي رُمي إليه طيلة عقود يحتاج إلى سنوات أخرى للخروج منه؟
الشباب في الأحزاب التقليدية
أظهرت دراسة أجرتها مؤسسة أديان بالتعاون مع "الدولية للمعلومات" و"مركز رشاد للحوكمة الرشيدة"، عام 2020، أن نسبة الشباب اللبنانيين المؤيّدين لجهات سياسية معيّنة تبلغ 46% بينما 8.4% ينتسبون رسمياً إلى حزب أو جهة سياسية.
وبحسب الدراسة نفسها، علّل 52.6% من الشباب المنتسبين إلى أحزاب سياسية انتماءاتهم إليها بأنهم مقتنعون بعقيدة الحزب. أمّا 32.2% فعلّلوا موقفهم بأن الحزب السياسي يمثّل طائفتهم، و10.5% بكون الانتماء الحزبي هو انتماء عائلي قديم، وذكر 4.6% فقط المشاركة الفعالة في الحياة الوطنية.
تسلّم طوني بدر رئاسة مصلحة الشباب في حزب القوات اللبنانية منذ شباط/ فبراير 2020، وهو في الثلاثينات من عمره. لوهلة، قد يبدو عمره السياسي أكبر بعقود من الحقيقي، عندما يسترجع من الذاكرة الجمعية رواية سياسية مألوفة. يتبنى طوني السردية التي تردّ تهميشه سياسياً إلى تهميش حزبه من قِبَل النظام السوري خلال المرحلة السابقة على خروج جيشه من لبنان عام 2005. في رؤيته للأمور، يتبنى نظرة شمولية في قراءته لتهميش الشباب السياسي، لتتحمل المنظومة السياسية اللبنانية، وحزبه ليس جزءاً منها برأيه، مسؤولية إقصاء هؤلاء عن التأثير السياسي.
في خضم الأزمة اللبنانية، وقبل جائحة كورونا وتفجير مرفأ بيروت، اختار الشباب اللبنانيون المعارضون أن يكونوا "قادة الثورة". يحمل خيارهم هذا رمزية الرغبة بإدارة دفّة التغيير، فيما يتعثّر بواقع يدفعهم إلى هامش القرار السياسي والمشاركة السياسية الفاعلة
يبدو موقع طوني السياسي بوصفه عضواً في حزبه السياسي مختلفاً عن موقعه بوصفه مواطناً في علاقته مع الدولة. أقلّه هذه مفارقة تبدو واقعية له. يشعر بأن الشباب "القواتي" لا يملكون القدرة على إحداث تغيير في الواقع السياسي العام، لكنهم في المقابل قادرون على إحداث تغيير في حزبهم. هذه المفارقة لم تكن بديهية قبل انتفاضة 17 تشرين، لكن الحالة الثورية التي طغت على الواقع اللبناني العام وصلت أصداؤها إلى الشباب في القوات اللبنانية.
يعبّر طوني عن هذا التحوّل بالقول: "تعنّت المنظومة وعدم استجابتها لطلبات الشباب جعلهم يهاجرون"، مضيفاً أن "الشباب الحزبيين وجدوا في انتفاضة 17 تشرين مساحة لإحداث التغيير اللازم، أي التغيير على صعيد البلد ككل"، وهذا يشكّل تتويجاً لسنوات "حاولنا فيها كحزب سياسي أن نغيّر من خلال المنظومة السياسية ذاتها ومن داخل اللعبة السياسية التقليدية".
"التغيير داخل الأحزاب ليس المشكلة. المشكلة أن يتمكن الحزب من إحداث تغيير في الواقع السياسي العام"، يقول طوني. تختصر هذه الجملة توأمة طوني لتمسكه بانتمائه الحزبي مع تمسّكه بفكرة إنهاء التهميش السياسي الذي يستشعره من المنظومة السياسية، سواء في الماضي، بسبب النظام السوري، أو في الحاضر، بسبب الأحزاب الأخرى المكوّنة للمشهد السياسي اللبناني.
يظهر حزب القوات اللبنانية، في هذا السياق، كخشبة خلاص له، ومعه خلاص الدولة. من موقعه كعضو مكتب مركزي في حزبه، يؤكد طوني أن "الشباب القواتيين قادرون على التغيير داخل الحزب"، ويضيف: "أنا تحديداً، في الكثير من المحطات، استطعت أن أغيّر داخل الحزب. هذا التغيير سيجعل من أحزابنا عصرية ومتقدمة وقادرة على مواكبة العصر".
المقاربة التي يتبناها طوني ليست جديدة، فالرغبة بالتأثير في الواقع السياسي هي واحدة من الدوافع الأساسية لانضمام الشباب إلى الأحزاب السياسية عموماً. في حالته، تزداد هذه المقاربة منطقية، لو رأيناها من موقعه في الحزب، حيث يتولى مركز قرار وسلطة مقارنةً بشباب آخرين. ولكن هل يجد الآخرون أن لديهم نفس قدرته على التأثير، وهل يكفيهم دائماً ما يُمنح لهم من دور لجهة إحداث أثر سياسي على صعيد الدولة؟
لا يبدو رفيق طوني سابقاً في القوات اللبنانية جو طوق راضياً عمّا مُنح له من مساحة للتأثير السياسي. اختار جو الاستقالة من عضويته في الحزب المذكور عندما تلمّس أثر الهرمية وانعكاسها في إقصاء الأعضاء عموماً والشباب خصوصاً عن دائرة اتخاذ القرار.
جو هو شاب في الثامنة والعشرين من عمره، تخرّج من الجامعة اللبنانية الأمريكية عام 2014. يصف انتماءه السياسي السابق على أنه "خيار سياسي طبيعته عائلية، مناطقية وطائفية". وقرّر الاستقالة من حزب القوات اللبنانية بعد تشكّل قناعة لديه بأنه على الرغم من تطوّر الهيكلية التنظيمية، تبقى قدرة الشباب على التأثير الفعلي محدودة بسقف لا يمكن تخطيه.
جو من بلدة بشرّي، منطقة تُعرف بولاء أكثرية سكانها لحزب القوات اللبنانية. في مدرسته وفي المشروع السكني الذي أقام فيه فترة طويلة من حياته، كانت أغلبية محيطه من القوات. ورِث قناعاته السياسية القديمة، نشأ عليها، وكان مقتنعاً بها لفترة طويلة نسبياً، غير أن مرحلة التحوّل في فكره بدأت بالتوازي مع دراسته الجامعية. يقول إن الجامعة شكّلت خروجه من "مساحتي الآمنة المعتادة بفعل الاختلاط بأشخاص من خلفيات سياسية وطائفية متنوعة".
جو طوق (في يمين الصورة) بجوار صديقه يوسف زيتون.
بدأت رحلة الشاب مع تفكيك قناعاته الموروثة وهو لا يزال عضواً في حزبه السياسي، وذلك مع تبنّيه لرؤية سياسية علمانية تؤمن بالفصل التام بين الدين والسياسية. بالنسبة إليه، لم تكن هذه نقطة خلاف محتملة مع حزبه الذي يلتزم بـ"شرعة علمانية". لكنه سرعان ما تبيّن له أنه "يوجد ارتباط كبير بين التديّن المسيحي والقناعات السياسية للمناصرين".
خلافاً لطوني، يُخضع جو المسائل التي يستعيدها من ذاكرته الجمعية للنقد وإعادة التفكير. يقول في سياق الربط بين السياسي-الديني: "عشتُ عمراً أعتقد أن لبنان اليوم هو نفسه لبنان العهد القديم في الإنجيل وأن الوجود المسيحي في خطر".
تصف الشابة الشعور الذي لطالما رافقها كعضوة حزبية تجاه هيكلية حزبها الهرمية الصارمة بقولها: "كنت أشعر كأنني ضئيلة جداً ويجب أن أصرخ بشكلٍ مستمر لكي أكون مسموعة، لطالما شعرت أنني غير مرئية"
نشط جو لسنوات عديدة في مصلحة الطلاب وفي جهاز التنشئة السياسية وكان على احتكاك مباشر مع القيادات الشبابية الحزبية ومنخرطاً في العمل التنظيمي داخل الحزب. يعتبر أنّ "النظام الداخلي في حزب القوات لم يطبّق يوماً بشكل صحيح خصوصاً مع عدم انعقاد المؤتمر العام الذي من المُفترض أن يحدّد توجهات الحزب السياسية". هذه المسألة ليست إلا مؤشر على كون "الحزب في قراراته السياسية المهمة يتبع وجهة نظر رئيسه سمير جعجع ومستشاريه"، يردف جو.
كمثال على ذلك، يضرب جو اتفاقية معراب ويقول إن "ترشيح الجنرال ميشال عون حصل نتيجة اتفاق سرّي لم يطّلع عليه حتى المسؤولين الحزبيين، وهذا خير دليل على عدم ديمقراطية القرار داخل حزب القوات اللبنانية".
التمايز بين تجربتي شابين متحدرين من بيئة سياسية واجتماعية متشابهة يكمن بوضوح في اختلاف موقع كل منهما من التغيير السياسي الأشمل. ففيما يرى طوني التهميش في طبقة واحدة، تتمثل بعامل خارجي عن الحزب، يراه جو في طبقتين: الحزب ثم خارجه. بهذا المعنى، تصبح الاستقالة، بما تعنيه من ترك الهيكلية الحزبية، خشبة خلاص جو ليجد لنفسه موقعاً في المواجهة المباشرة مع المنظومة السياسية العامة.
ناي الراعي، شابة ثلاثينية، وجدت نفسها منتميةً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي (فرع "الانتفاضة")، متأثرة ببيئتها القريبة. ارتبط شعورها بالانتماء إلى هذا الحزب بصورة عميقة بإعجابها بصورة أمها الثائرة، التي تتحدر من بيئة كتائبية كانت تضمر عداءً للحزب السوري القومي الاجتماعي لكنها قررت الثورة على ما ورثته والانضمام إلى هذا الحزب.
على الرغم من كون تربية ناي الحزبية قد بدأت في عمر صغير، شعرت لوقت طويل بأنها تنتمي إلى ثورة أمها التي شكّلت دافعاً لها لتصبح عضوة حزبية في ما بعد، وهي شابة. رومنسية الارتباط السياسي في قصة ناي أسست لخيبة أكبر عندما واجهت واقعاً لا يشبه توقعاتها. تقول: "يتأثّر خيارنا كشباب وخصوصاً كمراهقين/ات بمحيطنا وانتماء عائلاتنا، لكن فجأة نجد أنفسنا في الحزب وسط ثقافة سائدة تبدّد أهمية الفرد مقابل القضيّة الكبرى".
ناي الراعي (في يمين الصورة) خلال مشاركتها في إحدى التظاهرات.
ينتظم القوميون السوريون في ظل هيكلية تسلسلية هرمية تنظّم الطلاب في منفذيات طلبة ومديريات جامعات خاصة ورسمية، حسب المناطق، ويمكن للشباب في الحزب التواصل مع الإدارة الحزبية عبر تسلسل إداري واضح وليس في المباشر. تقول ناي: "يعطي النظام الداخلي أهمية كبيرة لاحترام المواقع الحزبية ولمبدأ النظام داخل الحزب، وبالتالي تطغى ثقافة يصعب علينا كشباب القبول بها، وهي التي تعطي المسؤول الحزبي سلطة مطلقة في غياب المرونة التي تسمح لنا بتحدّي توجهات أو تصرفات معيّنة قد نراها خاطئة أو تقليدية". تصف الشابة الشعور الذي لطالما رافقها كعضوة حزبية تجاه هذه الهيكلية: "كنت أشعر كأنني ضئيلة جداً ويجب أن أصرخ بشكلٍ مستمر لكي أكون مسموعة، لطالما شعرت أنني غير مرئية".
"نحن الشباب لدينا الكثير لنقدّمه ولكننا كنّا مجبرين على الانتماء إلى مجموعة طائفية معيّنة لكي نكون موجودين. الخروج من هذه الاصطفافات لم يكن سهلاً، فالمجتمع يعتبر أننا نواجه الطائفة والحي وحتى العائلة إذا تجرّأنا على أخذ خيار علماني ومعارض"
خلافاً لكل من جو وناي، فإن عائلة ليال لم تكن منبع انتمائها الحزبي. ليال هو اسم مستعار لشابة من إحدى عائلات جبل لبنان الجنوبي الدرزية الكبرى. وُلدت في كنف أسرة غير حزبية، ما انعكس على حياتها على شكل حاجة مضاعفة لإيجاد مجموعة تنتمي إليها، وذلك في ظل مجتمع ينقسم بين هويات تبدو وكأنها شديدة الوضوح، وهو ما تحقق بعد دخولها إلى الجامعة بانضمامها إلى صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي.
تقول ليال: "حاولتُ بدايةً تبرير نشاطي مع الحزب الاشتراكي في الجامعة بكوني صاحبة ميول يساريّة ومؤمنة بفكر كمال جنبلاط ولكنني اليوم أعرف أن خياري كان بعمقه طائفيّاً، خصوصاً مع أزمة الهوية، أي بسبب كوني من الطائفة الدرزية. كبرتُ خارج نطاق القرى الدرزية في الجبل والمناطق الدرزية عموماً، لذا وجدت في الجامعة المجموعة التي يمكنني أن أنتمي إليها".
خلال سنتها الجامعية الأولى، استُقطبت ليال لتنشط ضمن النادي الطلابي الاشتراكي، وهكذا بدأت مسيرتها حتى انتمت إلى منظمة الشباب التقدمي التي تُعتبر تنظيماً رديفاً للحزب التقدمي الاشتراكي وتتمتع بهامش من الاستقلالية. ينضم الشباب المهتمون بأفكار الحزب الاشتراكي إلى المنظمة من دون شرط الانتساب إلى الحزب وتنتخب المنظمة أمانتها العامة بشكلٍ دوريّ. نشطت ليال في المنظمة إلى أن صارت عضوة في الأمانة العامة لمنظمة الشباب التقدّمي، وهو موقع قرار على صعيد المنظمة، يتولاه الأفراد بالانتخاب.
على الرغم من موقعها في المنظمة، استشعرت ليال انعدام أثرها السياسي. تستعين للدلالة على ذلك بالحديث عن صعوبة دفع "القيادة" لتغيير مواقفها: "بعد الكثير من الجهد ورفع الصوت، يمكن أن تغيّر القيادة مواقفها ولكن حصراً في بعض الأمور الصغيرة والتي لا تؤثّر على التوجّه السياسي العام". تشعر ليال أن هذه الاستجابات البسيطة هي مجرد ترضيات للفئة الشبابية التي "تمثّل استمرارية الحزب ومن مصلحة القيادة أن تستمع إليها في بعض الأمور، إذ إن الأحزاب السياسية تدرك حساسية عمر الشباب وهي لهذا السبب تعمل على استقطابهم منذ مرحلة التعليم الثانوي إلى فترة الجامعة". كشابة، تعتقد ليال أن "الشباب في المجتمع الكبير يفتقدون لأي مساحة يتمتعون فيها بالسلطة أو النفوذ، والأحزاب تستفيد من ذلك لربطهم بالمجموعة".
التخلي عن الخيار السياسي لم يكن خيار ليال الأول، إنما اعتناق الأمل ومحاولة التغيير داخل حزبها. لم تُفضِ محاولات التغيير إلى النتيجة التي ترجوها الشابة: "الصوت المعارض داخل الحزب، بعد وقت معيّن، يَصْرَع (يُحدث إزعاجاً شديداً)". ترى ليال أن "القيادة الحزبية" تدعم الشباب المعارضين داخل التنظيم في سياق مصالح واضحة ومحددة، منها أن "تتثبت لجمهورها أنها منفتحة ومتقبلة للاختلاف، فيما لا تقبل أن يبقى هذا الصوت مرتفعاً ومؤثراً في الداخل لدرجة تمكّنه من إحداث تغيير".
مرحلة التحوّل بالنسبة إلى ليال بدأت فعلياً جرّاء أزمة النفايات سنة 2015. وقتها تسبّبت سياسات المنظومة الحاكمة، والحزب الاشتراكي من ضمنها، بتراكم النفايات في شوارع بيروت وجبل لبنان، في ظل عجز كامل عن إيجاد حلّ للأزمة، ما أسفر عن حراك شعبي عُرف باسم إحدى أبرز مجموعاته: "طلعت ريحتكم". هذه الأزمة وضعت ليال في مواجهة خيبة سياسية: "وددتُ لو كذب أحدهم علينا وقال دعونا نتحرك"، تقول متسائلة: "ما الذي يبرر أننا كحزب ندّعي التغيير وتأسيس الحركة الطلابية فيما نحن نقف على الهامش في هذه الأزمة؟".
"التمستُ تناقضاً بين الخطاب والممارسة خصوصاً لجهة تعامل القيادة مع الشباب في الحزب. كانت نبرة القيادة أكثر مساومة من نبرة الشباب وطموحاتهم. لذلك استقلتُ لأنني لم أكن مستعداً لصرف طاقتي ووقتي في مشروع يتحكّم آخرون فيه، وليس بطريقة شفافة"
ترْك ليال لتنظيمها "الشبابي" لم يكن مماثلاً للانضمام إليه. لم يكن خياراً سياسياً بل أبعد من ذلك. تعبّر عن ذلك بالقول: "نظرت من حولي وفكّرت لماذا حبست نفسي في هذا المكان الضيّق كل هذا الوقت؟".
بعض التجارب تحمل تعقيدات إضافية، إذ لا يكون ترك الشخص للحزب السياسي الذي ينتمي إليه مقتصراً على الخيارات السياسية العامة، إنما ممتداً إلى عقيدة أيديولوجية دينية.
يوسف زيتون، عضو سابق في حزب الله، وهو في نهاية العشرينات من عمره، ترعرع في عائلة متحزبة ومتدينة، وذلك خلال مرحلة صعود حزب الله وتوسع نطاق سيطرته السياسية ودوره على صعيد مقاومة إسرائيل في الجنوب، ونشط في كشافة المهدي التابعة لنفس الحزب.
قبل الانتخابات النيابية سنة 2018، رفع زيتون الصوت بشكل متواضع على مواقع التواصل الاجتماعي في ما يتعلق بمحاربة الفساد. برأيه، حصلت استجابة لهذه التطلعات وقتها حين أعلن حزب الله محاربة الفساد. ولكن، تبيّن بعد انتهاء الانتخابات أنها مسألة رهن التأجيل المستمر، وذلك "لأسباب سياسية متنوعة"، وهنا بدأت رحلة الشاب مع الانفصال عن الحزب الذي لطالما انتمى إليه.
يقول زيتون إنه لم يخض تجربة جدية للتغيير داخل الحزب، إذ إن "الاعتراض يقتصر على جلسات مع مسؤولين حزبيين يُسمح فيها للشباب بالاعتراض ولكن من دون أثر حقيقي لهذا الاعتراض".
المنعطف الأساسي بالنسبة إليه كان انتفاضة 17 تشرين، حين قرّر البقاء في الشارع حتى بعد الخطاب الذي طلب فيه أمين عام حزب الله حسن نصر الله من مناصريه الخروج من الشارع. يقول: "17 تشرين كانت فرصة لأي حزب سياسي، صادق في محاولة التغيير، لاستغلال غضب الناس والعمل نحو فرض الإصلاحات اللازمة ولكن هذا لم يحصل"، ويضيف: "أنا بالنتيجة قررت البقاء في الشارع وهنا كانت الصدمة التي أحدثتُها في بيئتي".
في تجربة مغايرة، كانت انتفاضة 17 تشرين دافعاً للانضمام إلى أحزاب تقليدية غير شريكة في السلطة السياسية. قرّر محمد مظلوم أن ينضم إلى الحزب الشيوعي اللبناني إثر هذه الانتفاضة إيماناً منه بـ"الحاجة للنضال من أجل الطبقات المهمّشة". ولكن سرعان ما التمس تهميشاً لدوره: "التمستُ تناقضاً بين الخطاب والممارسة خصوصاً لجهة تعامل القيادة مع الشباب في الحزب". يردف: "استقلتُ من الحزب لأنني لم أكن مستعداً لصرف طاقتي ووقتي في مشروع يتحكّم آخرون فيه، وليس بطريقة شفافة". بالنسبة إليه، "كانت نبرة القيادة أكثر مساومة من نبرة الشباب وطموحاتهم".
بالعودة إلى يوسف زيتون، هو اليوم يريد أن يلعب دوراً سياسياً في التأثير الإيجابي داخل بيئته ويؤمن بأن مبادرات مشابهة في البيئات المختلفة بإمكانها إحداث تغيير حقيقي على المدى البعيد. بقوله هذا، يؤكد من جديد أن مسألة التفاوت بين مواقف الشباب على صعيد تجاربهم في الأحزاب السياسية التقليدية يرتبط بحساسيتهم تجاه تراكم طبقات تهميش دورهم، إذ يشعر البعض بأن أحزابهم باتت عائقاً أمام دورهم السياسي الفعلي، أو ربما بالخيبة من احتمالية التغيير، فيما يتمسك آخرون بأحزابهم على أنها سفينة العبور.
وعلى سفينة العبور هذه، يركب عضو مكتب الشباب والرياضة في حركة أمل محمد الحاج. يرى أن المشكلة تتأتى عن النظام الطائفي، وبالتالي يكمن حل كافة المسائل، بما فيها تهميش الشباب، "بإلغاء الطائفية".
يعتبر أن "ميثاق حركة أمل هو الدستور الأعلى، وهو موضوع من قبل السيد موسى الصدر، وهذا الميثاق يحكم كل منتمٍ إلى حركة امل". تضم هيكلية حركة أمل "مكتب الشباب والرياضة" وهو "يرعى شباب الحركة ويهتم بهم وبأطر التواصل الشبابية، ويهتم بالشباب في الجامعات". بالنسبة إليه، "عندما يتعلق الأمر بالرئيس نبيه بري لا نناقش مسألة الفئة العمرية، فالشباب في الحركة فاعلون، لكن الرئيس بري رمز للوحدة الوطنية الجامعة للأقطاب المختلفة وما دام بكامل قواه العقلية فإن العمر ليس حاجزاً ليستمر بتولي مركز الرئاسة الحزبية". اللافت أن الحاج يشير إلى "أكثر من تجربة مع وزراء شباب من حركة أمل"، ولكنه يربط مسألة تهميش الشباب بقضايا "كبيرة". يقول: "في ظل وجود إسرائيل على حدود لبنان، وإذا لم نصل إلى تغيير النظام الطائفي، لا يمكن أن نصل إلى تحسين واقع الشباب في البلد".
على نفس السفينة أيضاً نزار أبو الحسن، شاب في منتصف العشرينات من العمر، ويحتل منصب أمين عام منظمة الشباب التقدمي. لا ينزعج من وضع سقف واضح لتطلعات الشباب الاشتراكيين. يقول إن "استقلالية المنظمة تميّزها عن باقي الأحزاب السياسية، ممّا يفسح المجال أمام شبابها لتنظيم وتبني مشاريع سياسية خاصة بهم". يردف موضحاً: "لكن بالطبع من دون التعارض مع الخط السياسي للحزب".
يتوقف أبو الحسن بصورة لافتة عند انتفاضة 17 تشرين ليؤكد أنهم في حزبه "لم نعلن رسمياً المشاركة ولكننا تركنا هامشاً من الحرية للرفاق والرفيقات للمشاركة". يكمل معللاً ذلك بعدم وجود تعارض بين مشاركة رفاقه الشباب وبين رؤية القائد. يقول: "لو نعود إلى سنة 1975، إلى ‘البرنامج المرحلي’ الذي وضعه المعلّم كمال جنبلاط، فإن أغلبية شعارات ومطالب 17 تشرين تتطابق مع مطالبنا منذ 1975".
يتشارك أبو الحسن مع طوني بدر أثر الذاكرة الجمعية وكيفية استحضارها لإبراز موقع حزبه وموقع الشباب الحزبيين من المعادلة السياسية الأكبر. بالمقابل، يكمن التشابه بين طوني وبين مسؤول ملف الطلاب في قطاع الشباب في الحزب الشيوعي اللبناني علي إسماعيل في عدم الإشارة إلى أي مسؤولية حزبية مؤسساتية تجاه تحسين وضع الشباب السياسي، لمصلحة تحميل المنظومة بصورة شمولية كامل المسؤولية عن ذلك.
يعتبر علي أنّ "العمل السياسي في لبنان هامشي بشكل عام على مستوى الشباب أو غيره". تبعاً له، فإن "النظام الزبائني الذي حوّل العمل السياسي إلى عمل خدماتي، ينعكس على واقع العمل الطلابي في الجامعات". يضيف أن "الشباب تعوّدوا على ربط النفوذ والعمل السياسي بشبكات زبائنية تساعدهم/ن على تأمين أبسط حقوقهم/ن مثل التسجيل والمساعدات المكتبية". وبالنتيجة، فإن "أزمة التهميش هي أزمة مجتمع". في المقابل فإن حزبه، الشيوعي اللبناني، يسعى "إلى مواجهتها وأنا مؤمن بفاعلية دور الشباب داخل قطاع الشباب والحزب على حد سواء".
يشرح علي أن الشباب في الحزب الشيوعي اللبناني ينتظمون تحت إطار قطاع الشباب والطلاب. يقوم أعضاء الحزب كافة بانتخاب لجنة مركزية في المؤتمر الحزبي العام، وتقوم هذه اللجنة بدورها بانتخاب المكتب السياسي وأمين عام الحزب. المكتب السياسي هو المسؤول عن العمل السياسي اليومي، وهو "يحافظ على وتيرة من التواصل اليوميّ مع قطاع الشباب". يشرح هذه الآلية ليبيّن أن الحزب الذي ينتمي إليه يحرص على تفعيل دور الشباب، ويشير إلى أن "الشباب ينشطون في القطاع وفي مناطقهم أيضاً وتأثيرهم عالٍ في المكانين".
على الرغم من اختلاف أساليب الأحزاب السياسية لجهة علاقة القيادة بالشباب وإتاحة التواصل بين الصفوف المختلفة ضمن التسلسل الحزبي الهرمي، إلا أن تجربة المستقيلين/ات الثلاثة تبدو متشابهة لجهة الشعور بالأثر أو باللامرئية على أرض الواقع.
اللافت أن ليال عايشت نفس هذا الشعور على الرغم من وصولها إلى موقع قرار ضمن تنظيمها، لا بل إنها تشعر بأن التنظيم يسعى إلى توظيف معارضتها لمصلحته التي لا تتقاطع مع مصالحها ومصالح رفاقها الشباب. لمسُ الأشخاص للتهميش الممارَس ضدهم حتى في حالة امتلاكهم سلطة معيّنة ضمن مجموعة معيّنة يقدّم مؤشراً إضافياً على عمق هذا التهميش وتجذّره.
على الرغم من ذلك، شكّلت انتفاضة 17 تشرين منعطفاً أساسياً ومحورياً بالنسبة إلى الشباب الحزبيين وغير الحزبيين على حد سواء. فكما شكّلت دفعاً ليوسف حتى يتخذ قرار بمواجهة بيئته الحزبية التي تربط الدين بالسياسة بشكل جذري، فإنها بالمقابل شكّلت أرضية بالنسبة للأحزاب السياسية لاستقطاب الشباب أو إحداث تغييرات على الصعيد الحزبي.
في هذا السياق، يشير منفّذ عام الطلبة الجامعيين في بيروت في الحزب السوري القومي الاجتماعي رمزي معلوف إلى تمكّن الشباب "في الانتخابات الحزبية السابقة في أيلول/ سبتمبر 2020 من إحداث تغيير كبير على صعيد القيادة الحزبية، كما أنتج الشباب الحزبيون حراكاً فعلياً من داخل الحزب".
الشباب وانتفاضة 17 تشرين
في الأسبوع الرابع للانتفاضة، خرجت أعداد كبيرة من الطلاب من مختلف المناطق اللبنانية من جامعاتهم ومدارسهم اعتراضاً على عودة الدراسة إلى طبيعتها من دون تحقيق مطالب الانتفاضة. وقتها، انتشر وسم وشعار #ثورة_طلاب على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام مؤكداً على الدور القياديّ للشباب والطلاب في الحالة الاعتراضية. هذه الحركة الطلابية أدّت في تلك المرحلة إلى حماية استمرارية الحراك في الشارع.
مع انطلاقة انتفاضة 17 تشرين، لم تكن لدى يارا إدريس أي تجربة سابقة في الانتظام السياسي. انطلقت تجربتها بالمشاركة في تظاهرات الانتفاضة مع زملائها في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة القديس يوسف. تقول يارا: "نحن الشباب لدينا الكثير لنقدّمه ولكننا كنّا مجبرين على الانتماء إلى مجموعة طائفية معيّنة لكي نكون موجودين. نحن غير موجودين خارج طائفتنا أو ديننا". بالنسبة إليها، "الخروج من هذه الاصطفافات لم يكن سهلاً، فالمجتمع يعتبر أننا نواجه الطائفة والحي وحتى العائلة إذا تجرّأنا على أخذ خيار علماني ومعارض".
يارا إدريس (في شمال الصورة) تهتف خلال إحدى التظاهرات.
بعد الانتفاضة، انتقلت يارا إلى العمل ضمن إطار النادي العلماني في جامعة القديس يوسف، وهو نادٍ يجمع مستقلين/ات في الجامعة تحت شعار العلمانية والعدالة الاجتماعية، وبالتالي إلى شبكة مدى، ومن خلالهما ترشحت وفازت برئاسة الهيئة الطلابية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية. تقول إن "17 تشرين أفسحت المجال للطلاب لأن يلتقوا ويتوحدوا في الشارع، لا سيما أن زخم النضال الطلابي لديه أصول في الحراك العام وهو يعود إلى الخمسينيات" من القرن الماضي.
أما بالنسبة إلى ضوميط قزي، الناشط في تنظيم لحقي، وهو تنظيم سياسي معارض تأسس عام 2018، فإن لحظة 17 تشرين "هي لحظة لا تُنتسى". هي كذلك لأنها كانت المرة الأولى التي "رأينا فيها أشخاصاً مثليين وعابرين وعابرات في الساحات: في الذوق ورياض الصلح وجل الديب ومناطق لبنانية أخرى مختلفة". يقول: "أنا كشخص ميولي الجنسية غير نمطية، لا أرتاح لوجودي في مساحات الشأن العام، فالمجتمع يريدني أن أكون شخصاً مختلفاً عن واقعي حتى يتقبّلني في الشأن العام أو السياسة".
تعرُّض ضوميط للتنمّر والمهاجمة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الخاص من قِبَل أخصام سياسيين استخدموا مسألة هويته الجنسية لإسكاته في السياسة، دفعه إلى اتخاذ قرار التصريح علناً عن ميوله الجنسية. يلقي ضوميط الضوء هنا على طبقة إضافية من طبقات التهميش التي يتعرض لها الشباب كلّما اقتربوا من المجال العام. ففي الوقت الذي يستشعر الشباب المتوافقون مع تطلعات طائفتهم وحزب طائفتهم السياسي التهميش من قبل المنظومة حصراً، يتضاعف التهميش بالنسبة إلى مَن يحملون خيار المعارضة ضمن بيئاتهم. ويحمل هذا التهميش بعداً إضافياً عندما يترافق مع تعارض مع النمط الاجتماعي، لا سيما لجهة النمط المحدد للأفراد تبعاً لجندرهم أو لجنسهم.
من عدسة تقاطعية، يرى ضومط أن التهميش الذي يُمارَس بحق النساء والأقليّات الجندرية والعمال الأجانب واللاجئين/ات "هو تهميش تاريخي، متجذّر في شكل النظام اللبناني وهناك حاجة لسنوات من التمييز الإيجابي والتنظيم القاعدي (المناقض للهرمي التسلسلي) لتحقيق مشاركة هذه الفئات الفعلية في الشأن العام والحياة السياسية". من هنا يرى أن تأثيره السياسي يبدأ بانضمامه إلى "تنظيم قاعدي تقاطعي يضمن حقوق جميع الفئات المهمّشة ولا يضع قضية أولوية على حساب قضايا أخرى".
ضوميط قزي (الثالث من اليمين) خلال مشاركته في تظاهرة.
من جهة أخرى، تعتبر الناشطة في حركة "مواطنون ومواطنات في دولة"، وهي حركة سياسية مُعارضة تأسست عام 2016، بترا سماحة، أنه "بعد سنة 2019 وبفعل الأزمة اضطر الشباب اللبنانيون إلى الانخراط في الحياة السياسية لفهم واقع ما يحصل حولهم". تجد بترا أنه "ليس من الكافي أن يبقى صوت الشباب اعتراضياً، فالمعركة مع النظام السياسي طويلة وصعبة ومن هنا تأتي الحاجة إلى العمل السياسيّ المنظّم".
تعتمد التنظيمات المعارضة حديثة النشأة هيكليات عمل متنوّعة تستجيب بنظر المنتمين إليها لرؤيتهم التغييرية، وتتقاطع مع تطلعاتهم الشبابية التي تخالف طريقة تنظيم الأحزاب التقليدية. تبعاً لسماحة، فإنهم في الحركة، "اتخذنا قراراً بعدم إعادة إنتاج علاقات السلطة المتواجدة في المجتمع وهذا بحد ذاته تحدٍّ تنظيميّ".
بترا سماحة
خارج تفاصيل القصص التي لا تنفصل عن تجربة أصحابها الشخصية كما العامة، وجدت السلطة السياسية التقليدية نفسها بعد 17 تشرين أمام أزمة استقطاب على صعيد فئة الشباب. وانعكست هذه الأزمة في فوز اللوائح المعارضة بمعظم المقاعد في الانتخابات الطلابية هذا العام. في المقابل، فإن قدرة الشباب على إحداث أي أثر مباشر لجهة السياسة العامة للدولة لا يزال شبه منعدم، وهو لم يتغيّر سواءً لجهة قدرتهم على الاقتراع أو تمثيلهم للأحزاب السياسية في الندوة البرلمانية. ففي كلتا الحالتين، يبدو دور الشباب أقرب إلى حماية الإرث السياسي للأحزاب السياسية، بدرجات متفاوتة، أكثر مما هو فرض نظرة شبابية تجددية في المقاربة السياسية العامة.
لا يختصر وجود الشباب من عدمه في السلطة واقع نشاطهم السياسي ولكنه مؤشر أساسي على قدرة وصولهم إلى مواقع القرار وعلى تأثيرهم في الخيارات التمثيلية للأحزاب السياسية. ففي حين يؤكد مسؤولو قطاعات الشباب في أحزاب السلطة على الدور الجوهري والقيادي الذي يلعبه الشباب داخل أحزابهم، فإن وجودهم يبدو منعدماً في مواقع القيادة التمثيلية في السلطة تقريباً بشكل كامل. بحسب الدولية للمعلومات فإنّ معدّل عمر نواب المجلس النيابي اللبناني لعام 2018 هو 58.7 عاماً.
وبالنتيجة، تعمل قطاعات الشباب في معظم الأحيان كماكينات انتخابية وكوادر بشرية تنظّم أنشطة وانتخابات جامعية ضمن إطار سياسي يعزّز سلطة الزعيم السياسي والمصلحة السياسية العليا بعيداً عن تطلعات الشباب السياسية والمسائل المتصلة بحاجاتهم ومصالحهم الحياتية.
تردد على لسان الشباب المشاركين في انتفاضة تشرين أن "ما بعد 17 تشرين ليس كما قبلها". هذا القول صحيح ما دام هناك مَن عبر طبقات التهميش الشبابي، ليس فقط على الصعيد السياسي، إنما بصورة تقاطعية بين ميله أو نوعه الاجتماعي أو إيمانه الديني وتهميشه السياسي. في المقابل، فإن الشباب يرزحون يوماً بعد يوم تحت ثقل الأزمة التي ترخي بظلالها على مختلف فئات المجتمع، وهو ما يضعهم بصورة عامة أمام تساؤلات مستجدة ترتبط بجدوى محاولاتهم السياسية من داخل أحزابهم أم مباشرة في مواجهة السلطة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...