معظم بيوت القرية واسعة. كان بيتنا مكوّناً من غرف نوم كبيرة، وصالات وساحات خارجية، تسمح بعبور أصوات الجيران الضاحكة والساخطة إلينا. إلا أنّ حريتي كانت تنتهي لحظة وصولي إلى عتبة البيت الخارجية، ما سخّف مساحات البيوت الواسعة في نظري. في الحقيقة، ليس ثمة ألم كبير في أن أُقمع مع المقموعين. اكتشفت القمع متأخرةً، حين بدأت أفكّر بمعزل عن كل ما يحيط بي، وتحديداً في فترة المراهقة، حين صار خروجي من البيت لافتاً لانتباه أمي وللشارع. كنت أبحث جدياً عن حجّة مقنعة لأتفقّد الشارع، وكانت تنهال عليّ أمي بسيل من تحذيرات وتلميحات غير واضحة عن آثار خروجي من المنزل، وقد برز صدري وبانت عليّ ملامح الفتيات الناضجات. تقول أمي إنني أبدو أكبر من سنّي، وإن الرجال في الشارع غير خلوقين، وهذا يفرض عليّ الحذر والخروج عند الضرورة فقط، أو مع عصبة نسائية أو عائلية.
لم أختر أي شيء يتعلّق بحياتي بصورة تامّة، قبل أن أنفصل جسدياً وعاطفياً ومادياً عن بيت العائلة. في بيت القرية كنت أحاول إيجاد فسحة تتّسع لما أفكر فيه، وتمنحني الراحة للتعبير عن انفصام مجتمع صغير، يغمرني بالكثير من الحب والألفة والصداقة، ويقاوم محاولاتي في التعبير الواقعي عن نفسي، وإن نجحت سينبذني. لا قسوة أكبر من أن تُنبذ في مكانك؛ فالعائلة منحتني حضنها فقط. إلا أنني كنت أرغب في حب الشارع وقبول الناس لي، كما أنا.
كانت تنهال عليّ أمي بسيل من تحذيرات وتلميحات غير واضحة عن آثار خروجي من المنزل، وقد برز صدري وبانت عليّ ملامح الفتيات الناضجات
في سنّ صغيرة، احترفت المراوغة. استخدمت قاموس القرية في الحديث مع الناس، واستطعت بحبهم أن أفرض نفسي بشكل أو بآخر. تلقّيت الكثير من النقد حين نزعت الحجاب، وارتديت ما يحلو لي. لكنني دافعت عن نفسي بلغتهم البسيطة، ونجحت في إقناع كثيرين منهم بأنني الفتاة اللطيفة المحبوبة، التي تملك أي "أجندة خارجية". فالإيمان موضعه القلب. كانت أفكاري عصيّة على الفهم، أتشاركها مع عائلتي وصديقة واحدة، وألعب مع البقية من جيران ومعارف وأقرباء دور النساء المتعارف عليه في القرية.
كان سهلاً في مجتمع صغير عرفني فيه الجميع، باسمي واسم عائلتي، أن أجد العون في كل موقف. في الدوائر الحكومية كانت الأولوية لي، لكوني فتاة أولاً، ولأنهم يعرفون عائلتي "المحترمة" ثانياً، بالإضافة إلى ارتدائي ما لا يتّسق مع القرية. لذا عليهم التخلّص من وجودي في حيّز يجعلني عرضةً للمضايقة. حدث هذا كثيراً في محلات البقالة وفي المخبز وفي السوق والمكتبة وغيرها. كانت "شهامة" رجال القرية تجعلني أُنجز مهامي بسرعة لأعود إلى مخبئي.
أزحف اليوم ببطء شديد في عمّان. أكرر يومياً محاولات حثيثة ليحفظ وجهي بائع الخبز والموظف الحكومي وصاحب محل البقالة. أناديهم بأسمائهم كما كنت أفعل في القرية، إلا أنني هنا بلا اسم؛ وجه عادي بين وجوه كثيرة ومتنوعة. لا حاجة للمراوغة ولا وجود لقاموس ألج من خلاله إلى قلوب المحيطين بي. خرجت من القرية غشيمةً، ومهاراتي الاجتماعية لا تصلح للاستخدام هنا. وطريقتي في تقديم نفسي لا تسرّع أياً من حاجياتي، كأنني وُلدت هنا، صفحةً بيضاء، أجهل كل شيء، وعليّ أن أفكّ شيفرة الحياة في العاصمة. كانت العاصمة بالنسبة لقروية بسيطة هي الحلم، والحرية والانطلاق. لكن كيف يمكنني أن أنطلق في العاصمة بعقليتي القروية، ومهاراتي التي انحسرت في طريقة الحديث الجيدة مع "أم محمد".
في بيت القرية كنت أحاول إيجاد فسحة تتّسع لما أفكر فيه، وتمنحني الراحة للتعبير عن انفصام مجتمع صغير، يغمرني بالكثير من الحب والألفة والصداقة، ويقاوم محاولاتي في التعبير الواقعي عن نفسي
تتشابه القرى في كل مكان. فالمساحات الضيقة والاتصال الدائم مع المحيط يحتّم على الناس ما يسهّل حياتهم، ويغيب مشهد الاختلاف لتطغى مساحات الألفة على المشهد العام. كل ما في الأمر أنني غادرت القرية بحثاً عن حيّز كبير أرتّب فيه أحلامي ومشاريعي، وأتعرف من خلاله إلى الجميع، وأوطّد علاقتي مع نفسي مثلما كنت أفعل في القرية في غرفة العزلة. إلا أن المساحات هنا مفتوحة لكل شيء. ومصطلح مساحة غريبٌ بعض الشيء عن ثقافة العواصم؛ ما يحدث هنا هو حضور كثيف للناس، بأفكارهم الكثيرة، واهتماماتهم المحسورة في رأسهم. عدد لا نهائي من اللاهثين وراء عملهم، غير مكترثين لما في رؤوس بعضهم. وقد حرمتهم سرعة الحياة في العاصمة من التفاتة بسيطة إلى أنفسهم وإلى الجمال. حياة القرية المحدودة أفرزت شخصيات خاصّة، تعمل بحبّ وصدق وبسذاجة، وتتطوّع في كل شيء، وجريئة في التجريب. لكنها شخصيات غير صالحة للعاصمة. كُتبت القرية علينا، ولو حلمنا وعشنا ومتنا خارجها.
أبناء العاصمة لا يحتاجون إلى بعضهم. تقتصر العلاقة مع الغير على ابتسامات صغيرة، ومصالح تُقضى في وقتها ويغيب أثرها. لا يغريهم الشّعر، ولا يهتمون بالكتابة، على عكس ما اعتقدت. سألتني جارتي ماذا تعملين؟ أجبتها بأنّي كاتبة وشاعرة. لم تتلفّظ بحرف، كأنني أجبت بلغة لا تفهمها. عاد لحظتها مشهد جارتنا حين علّقت على كوني كاتبةً وشاعرة بـ"اكتبيلي قصيدة حب أهديها لجوزي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.