شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ليس الانتماء إلا عبودية وفاشية تسحق كينونة الفرد

ليس الانتماء إلا عبودية وفاشية تسحق كينونة الفرد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 6 مايو 202109:54 ص

في أحد النقاشات التي خضتها، طُرحت مسألة الانتماء إلى الحركة النسوية، باعتبار أن الحركة أشمل من أن تُحصر بعنصر أنثوي. إنها فكرة اجتماعية سياسية ينتمي إليها الجميع. حينها، عبرت عن رأيي قائلاً إني لا أنتمي ولا أحبذ فكرة الانتماء إليها، ليس لأني ضد الحراك النسوي في العالم، بل لأني لا أرغب في فكرة انضوائي تحت أي شكل مؤسساتي -سواء أكانت مؤسسة بمعناها العملي أم بمعناها الفلسفي المجرّد- يمتلك رؤى وقوانين ثقافية أو بنوداً فكرية تشمل الجميع، فلدي حساسية مفرطة من التسيير الجمعي.

بطبيعة الحال، الحركة النسوية هي حركة سياسية اجتماعية ذات أفكار فلسفية. وبالتالي لديها أهداف وقوانين يُفترض أن يخضع لها كل من يعتبر نفسه جزءاً منها. وهذه هي مشكلتي مع جميع المؤسسات. إن قناعتي بالفردانية البشرية والحرية غير الخاضعة لمفاهيم المؤسسة هو شكل حياتي المستمر. إنه يشبه تماماً موقف الدفاع عن الفلسفة الإسلامية من دون الخضوع لفكرة التديّن المؤسساتي التفقهي، أو مناقشة عصر التنوير الأوروبي دون أن نعتبر أنفسنا منتمين إليهم معرفياً. إنها محاولة عميقة وجادة لرؤية كل شيء من منظور عقلاني والدفاع عن كل شيء من دون اعتبار أنه يمثل الذات الفردية.

استقلالية الذات واعتبارها القيمة الأولى والمطلقة أمام كل قوانين السيادة المسيطرة على عبودية العقل البشري المعاصر، سواء أكان سياسياً أم دينياً أم اجتماعياً، هو الفعل الوحيد في خلق عالم حضاري ومسالم

ثمة فرق جوهري وكبير جداً بين الانتماء بشكله المؤسساتي التقليدي لنُقنع أنفسنا بأننا نقوم بالعمل الصحيح في خلق حياة جيدة، والاندماج في القطيع الجمعي تحت مسمّى الفكرة المجتمعية كحالة حاضنة، وبين الدفاع عن الفردانية البشرية كعنصر إنجازي يستحق التواجد والتواصل مع الإنجازات الفردية الأخرى المناهضة لكل شكل سلطوي، ومحاربتها من دون الانتماء إلى جهة ما سوى الذات الفردية، من أجل خلق حرية فكرية بلا تبعية.

بالنسبة لي، أدافع وأدعم وأعترف بحقوق الآخر، وربما أحاول تطبيق الرؤية "الفولتيرية" في كثير من الأحيان: "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك". لكني لا أنتمي ولا أخضع لشروطه المعرفية والثقافية، لأن تلك الشروط هي هيكلية المؤسسة الخاضع لها فلسفياً.

إن فكرة استقلالية الذات واعتبارها القيمة الأولى والمطلقة أمام كل قوانين السيادة المسيطرة على عبودية العقل البشري المعاصر، سواء أكان سياسياً أم دينياً أم اجتماعياً، هو الفعل الوحيد في خلق عالم حضاري ومسالم.

الانتماء كفكرة ليس أكثر من مفهوم فلسفي اجتماعي تم استغلاله تاريخياً، من قِبل القوة السياسية والدينية القائمة، في إقناع البشر بأنهم يجب أن يكونوا منتمين ومدافعين عن الهيكلية الحامية لهم. وبالتالي، فإن خضوع البشر لمجموعات فلسفية ومفهوماتية عالمياً يحقق هذا الشرط الاستعبادي للقوة القائمة على الجهل المستشري للإنسان المعاصر. "الوطن، القومية، اللغة، الدين، الإيمان، الحقيقة... الخ"، كل شيء ينتمي إلى معنى فيزيائي ومادي أو مفهوم مجرد، لا يخدم سوى قوى أكثر عنصرية تعيش في بوتقة ذاتية جمعية لتحقيق أهدافها ضمن معايير خاصة بها.

لتحقيق حياة حضارية، هل ما نحتاجه فعلياً هو الانتماء أو الوعي بأننا كائنات تنتمي إلى البشرية وليس إلى مجاهل ضيقة من التفكير المنغلق؟ ومن هو المستفيد أصلاً من جعلنا منتمين وخاضعين داخل هيكليات محدودة لها أهداف معينة فقط؟ طبعاً هذا الطرح لا يعني التخلي عن المجتمع والعلاقات البشرية، لكن يعني تحييد كل مؤسسة تفرض وجودها من جهل البشر المنتمين إليها من دون تفكير كالأحزاب، الطوائف، الأديان، الحركات والتجمعات الثقافية، التي ترى في الذوات الجمعية الوعي المطلق والحق الأبدي.

لتحقيق حياة حضارية، هل ما نحتاجه فعلياً هو الانتماء أو الوعي بأننا كائنات تنتمي إلى البشرية وليس إلى مجاهل ضيقة من التفكير المنغلق؟

ربما كانت فكرة الانتماء، تاريخياً، عبر التطورات الفلسفية المجرّدة والفيزيائية الإنسانية في تحولاتها، شيئاً مهماً وضرورياً لدعم التفكير نحو الأمام وإيجاد حيوات مختلفة. لكن في هذا العصر، عملية البقاء داخل تلك البوتقة الانتمائية التي لا تحقق سوى العنصرية بمفهومها الأشمل والانغلاق المعرفي كحروب جانبية بمعناها الخاص، تضعنا كبشر في موقع العبيد.

في نظرة ثقافية شاملة إلى التاريخ، يبرز السؤال التالي: من الذي يحقق شروط المعرفة الفلسفية وتطوراتها السلمية والحضارية؟ بالطبع تتعدد الأجوبة، وكثير منها سيُعلن أنها اللحظة التي اندمجت فيها الحضارات. بمعنى آخر، يُقال ضمناً أن من صنع التاريخ هي القوة التي اجتاحت بعضها سياسياً وعسكرياً من خلال جيوشها وأرست قواعدها الثقافية. وإذا كان هذا الكلام دقيقاً حول صناعة التاريخ، فإنه مغالطة واضحة إزاء صناعة المعرفة.

المعرفة البشرية التي خلقت الحضارة كثقافة متميزة وفريدة وقطعت مع السائد، لم تُصنع من الاندماج الجمعي السياسي والعسكري، بل صُنعت من الفردانيات البشرية الفلسفية والفنية والأدبية التي تجاوزت الواقع ولم تخضع للشروط السائدة. لذا، فإن الدعوة الدائمة إلى المفاهيم الفردانية على المستوى الفلسفي هي محاولة جادّة لخلق كائنات تستطيع تجاوز الانتماء الذي تفرضه قوى الاستعباد الكلي على العقل والذهنية الجمعية.

ولنوضح موضوع الانتماء من دون أن يخرج أحد ويتشنج إزاء ما سنقول. فالانتماء، على المستوى الديني مثلاً، يخلق الجهل الشعبي في العالم الإسلامي أو البوذي أو اليهودي أو في بعض القواعد الشعبية المسيحية في دول متخلفة محكومة بديكتاتوريات مثل أمريكا اللاتينية، لأنه يستمدّ ثقافته أصلاً من قوة تفترض شيئاً غير ديني، إنما راسخ تناقلياً وغيبياً. ذلك الكائن غير مستعد للتخلي عن انتمائه إلى رجل دين مقابل تفكير منطقي في مسألة تاريخية فلسفية إلهية، ربما لأن عدم التفكير أكثر راحةً، ويخلق طمأنينة جاهلة وسعيدة.

عملية الخضوع والانتماء لا تحقق أي شيء سوى زيادة الجهل والعبودية والفقر والتخلف ورفع شأن سادة السياسة والدين

مثلاً، الانتماء إلى فكرة الوطن -بالرغم من أن الوطن ليس أكثر من مفهوم فاشي يخضع لقوة سياسية- هو من يصنع الحروب لمناهضة أية قوة تريد التحرر، وربما الأمثلة القريبة كمصر وسوريا واليمن وليبيا... الخ، خير دليل على تلك الثقافة. وهنا بالطبع لا نتحدث عن البلطجية والشبيحة الذين يتم شراؤهم بالمال، بل هناك أناس فعليون مقتنعون بأن تلك الأنظمة وطنية ويجب الدفاع عنها. تلك الانتمائية الشعبية الجاهلة هي من أطالت عمر تلك الأنظمة الفاشية الديكتاتورية في بدايات الثورات قبل أن تتحول المسائل إلى مواضيع سياسية دولية.

الانتماءات العاطفية والجنسية مثال آخر. فمن افترض أن الأمومة غريزة طبيعية كغريزة الجنس والجوع والعنف، سوى فكرة الانتماء التي يسعد بها الجميع. فعلى الرغم من أن المرأة التي أُصيبت بـ"الزهايمر" وبدأت تتآكل ذاكرتها، ما زالت تحافظ على إحساسها الجنسي وشعورها بالجوع وقوتها العنفية، إلا أنها ببساطة لا تستطيع أن تتذكر وليدها الذي أنجبته. ثم يخرج البعض ليقول لك إن الأمومة غريزة أساسية وليست تراكماً ثقافياً في الذاكرة. أي "شيزوفرينيا أمومية" تلك التي لا تفكر بأمثلة بديهية من ذلك النوع؟

المعنى النهائي هو أن عملية الخضوع والانتماء لا تحقق أي شيء سوى زيادة الجهل والعبودية والفقر والتخلف ورفع شأن سادة السياسة والدين والاقتصاد على المليارات من البشر.

ما قيل هو فقط محاولة لتقديم فكرة يمكن مناقشتها ذاتياً عندما نشعر بأننا نحتاج إلى حرية وإلى إنجاز معرفي خارج نطاق القانون. الانتماء إلى أي شكل مؤسساتي والاعتراف بهيكليته والخضوع له ولأفكاره هو ضرب من زيادة عبوديتنا البشرية. من حق الجميع أن يكونوا ما أرادوا. من حق الجميع أن يمتلكوا الحقيقة، ومن حق الجميع أن يدافعوا عن كل شيء، لكن من دون انتماء إلى شيء. لن تكون هناك حضارة على هذا الكوكب ولا سلام إذا ما بقي القطيع البشري منتمياً إلى كل مؤسسة وأيديولوجيا تضعه كورقة يمكن حرقها في لحظة الحاجة. الانتماء ليس أكثر من فكرة فاشية وعبودية تسحق الكينونة الإنجازية للفرد الباحث عن السلام في الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image