قبل 4 سنوات أصدر حكم وصفته الحركة الحقوقية المغربية بالثوري، بعد أن أقرّت محكمة ابتدائية في مدينة طنجة للمرة الأولى في تاريخ القضاء المغربي بحق طفلة ولدت خارج إطار الزواج في نَسَبِها لأبيها، الذي كان يرفض الاعتراف بها، اعتماداً على تحليل الحمض النووي وعلى مضامين المواثيق الدولية، بحسب نص الحكم.
لكن اليوم، استيقظ المناصرون لإثبات النسب من خلال الحمض النووي على حكم وصف بالردة الحقوقية، أصدرته محكمة النقض، وهي أعلى هيئة قضائية تعتبر قراراتها اجتهادات قانونية ملزمة للقضاة، بعدم نسب الطفلة. وقالت المحكمة في قرارها الصادم إن الطفل "غير الشرعي" أي الذي يولد من شخصين غير متزوجين لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بالأب البيولوجي".
أبناء بلا آباء
يأتي قرارُ محكمة النقض، مؤيداً للحكم الاستئنافي الذي رجح كفة القوانين الوطنية على المواثيق الدولية التي وقع عليها المغرب. واعتمدت في ذلك الفصل 148 من قانون الأسرة المعروف بـ"المُدَوَّنَة"، الذي ينص على أنه "لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية"، ليقضي بأن بنوة الطفلة التي ولدت "خارج إطار الزواج لأبيها البيولوجي غير مبررة لا شرعاً ولا قانوناً"، ويحرمها بهذا من كل حقوقها المادية والمعنوية.
قرار رفض الخبرة الجينية لتحديد النسب من طرف محكمة النقض المغربية أثار غضب الحركة الحقوقية، التي اعتبرته رجوعا إلى العصور الوسطى وتهميشا للأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج
وأكدت محكمة النقض أن "محكمة الاستئناف التي ألغت الحكم الابتدائي طبقت قواعد القانون وقواعد الفقه الإسلامي التي تعد بدورها بمثابة قانون، والتي تُقر بأن "ولد الزنا يُلحق بالأم لانفصاله عنها بالولادة، بغض النظر عن سبب الحمل شرعياً كان أو غير شرعي، ولا يلحق بالأب"، بالإضافة إلى إقرارها على أنّ فحص الحمض النووي لا يتناسب مع الشروط الشرعية التقليدية الدينية المحدّدة لإثبات النسب.
القرار أتى ليُبَدِّد الاجتهاد القضائي الشجاع لقاض في المحكمة الابتدائية اعتمد في حكمه الذي انتصر لصالح الطفلة، على مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها في التشريعات الداخلية والمنصوص عليها في الدستور المغربي. غير أن هذا "السمو" اعتبرته محكمة النقض في حكمها مشروطاً بضرورة توافقه مع النصوص القانونية الوطنية.
هذا الحكم كان نقطة ضوء فريدة في مسار حافل بالقضايا التي يرفض فيها نسب الأبناء لآبائهم بفضل تقنية تحليل الحمض النووي. وتعود تفاصيل القضية إلى شهر كانون الأول/ديسمبر من سنة 2016. حينها تقدَّمت سيدة لم يكشف عن اسمها بشكوى أمام قضاء الأسرة بطنجة، تكشف فيها عن إنجابها لطفلة بعد إقامتها علاقة جنسية مع المدعى عليه، الذي رفض الاعتراف بالابنة، ملتمسة الحكم ببنوة الطفلة لأبيها والاعتراف بنسبها.
وفي حكم يعدّ سابقة في تاريخ القضاء المغرب، انتصرت المحكمة الابتدائية لنسب البنت الطبيعية لأبيها، بالاعتماد على نتائج الخبرة الجينية التي تؤكّد ذلك، واستناداً على الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، كما حكمت بدفع مبلغ مالي للأم، بسبب المسؤولية التقصيرية للمدعى عليه.
تبرير محكمة النقض رفضها للخبرة الجينية لإثبات النسب بالقوانين الوطنية تحليل رجعي بحسب الحركة الحقوقية ويخالف روح الدستور المغربي
وعلّلت المحكمة الابتدائية قرارها بنصوص من الاتفاقيات الدولية والدستور المغربي؛ خصوصاً المادة الثانية من اتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها المغرب سنة 1993، والتي تنصّ على أنه يتوجب على القضاء إيلاء الاعتبار الأول لمصالح الأطفال الفضلى عند النظر في النزاعات المتعلقة بهم. والمادة 7 من نفس الاتفاقية وتنص على أن الطفل يسجل بعد ولادته فورا ويكون له قدر الإمكان الحق في معرفة والديه وتلقي رعايتهما، بالإضافة إلى مادة من اتفاقية ستراسبورغ لحقوق الأطفال (2003)، وتنص على أن القضاء يتوجب عليه إيلاء الاعتبار الأول لمصالح الأطفال الفضلى عند النظر في النزاعات المتعلقة بهم. وعلى نص دستوري يقول إنّ على "الدولة أن تسعى لتوفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعهم العائلي".
خيبةٌ بعد أمل كبير
ولقي حكم المحكمة الابتدائية آنذاك ترحيباً واسعاً من طرف الفعاليات الحقوقية والنسائية، واعتبرته "تاريخياً وثورياً " في إنصاف فئة الأمهات العازبات والأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج، غير أن الترحيب تحوّل إلى خيبة وأسف بعد الحكم الأخير، الذي أجهض الثورة القانونية المنتظرة.
وفي تفاعلها مع القضية، عبّرت فدرالية رابطة حقوق النساء بالمغرب عن "أسفها وخيبة أملها وأمل كل من كان يعتقد أن الحفاظ على المصلحة الفضلى للطفل هي غاية المشرع"، معتبرة أن قرار محكمة النقض "ضربٌ سافر لحقوق الطفلة ومصلحة الأطفال الفضلى".
وطالبت الفيدرالية في بيان لها أصدرته عقب صدور الحكم إلى مباشرة ورش الملاءمة، بإصلاح شامل لقانون الأسرة وملاءمته مع الدستور ومع الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ومع روح العصر، ورفع كل أشكال الحيف والتمييز التي تكرسها ضد النساء والأطفال، كما دعت إلى تفعيل مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الداخلية المنصوص عليه في ديباجة الدستور، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تفرضه عملية المصادقة عليها.
قرار محكمة النقض "ضربٌ سافر لحقوق الطفلة ومصلحة الأطفال الفضلى" و"تمسك بنصوص قانونية تنتهك حقوق الأطفال المولودين خارج الأسرة والأمهات العازبات"
سميرة موحيا، نائبة رئيسة الفدرالية المذكورة، قالت إن "جميع الفعاليات الحقوقية والمدنية تستنكر قرار محكمة النقض بعد الحكم السابق، الذي أعطانا أملاً كبيراً بأننا سائرون في ورش التعديل القانوني نحو مسار يقطع مع الأحكام التقليدية وينحو تجاه الحداثة والمواثيق الدولية التي وقع عليها المغرب".
واستغربت الفاعلة الحقوقية في تصريح لرصيف22 أنه: "أمام كل التطور التكنولوجي والعلمي، ونحن في سنة 2021 تُرفض نتيجة الخبرة الجينية التي تثبت أن البنت من صلب المدعى عليه بدون أدنى شك، ويتم التمسك بنصوص قانونية تنتهك حقوق الأطفال المولودين خارج الأسرة والأمهات العازبات دون ترتيب أي آثار للأب البيولوجي".
وتعتبر الخبرة الجينية طريقة علمية مؤكدة للكشف عن روابط القربى حتى مع أبناء عمومة بعيدين، ويقتسم كل إنسان مع والده 50 في المئة من حمضه النووي و50 في المئة مع أمه.
تكريس الفقر والاحتقار
تُعيد هذه القضية نقاش الحمل خارج مؤسسة الزواج بالمغرب الذي يترتب عنه الكثير من المشاكل الاجتماعية من فقر وتهميش واحتقار. وإن كانت المنظمات الحقوقية النسوية تطالب باعتماد الخبرة الجينية فهي تطالب بتوفير الحماية القانونية الضرورية للأمهات والأطفال ورفع التجريم عن الإجهاض لمن يرفضن الاستمرار في الحمل، خاصة بسبب ارتفاع الأرقام المسجّلة سنة بعد أخرى، لحالات الإجهاض السري والتخلي عن الرضّع. إذ تكشف دراسة أنجزتها "العصبة المغربية لحماية الطفولة" مع منظمات نسائية عام 2019 عن تسجيل "153 حالة ولادة يومياً خارج مؤسسة الزواج، يتم التخلي عن 24 منهم".
وتربط عدة دراسات بين مشكلة الأطفال غير المعترف بهم وتفاقم ظواهر اجتماعية خطيرة، إذ أن أغلب هؤلاء الأطفال يجدون أنفسهم في الشارع أو في وضعية اجتماعية هشة، كما يواجهون إقصاءً مجتمعياً ونظرة تحقيرية، إذ يبقى لقب "ابن الزنا" لصيقاً بهم طيلة حياتهم، بالإضافة إلى هضم عدد من حقوقهم أمام الفراغ القانوني.
في هذا السياق، تبرز موحيا أن حكم محكمة النقض يساهم في ارتفاع حالات التخلي عن الأبناء وعدد من المشاكل الاجتماعية العويصة، مشيرة إلى أن "هذه الطفلة ستنضم إلى آلاف الأطفال الآخرين الذين لا يستفيدون من البنوة ولا علاقة النسب وما يرتبط بهما من نفقة وإرث وسكن".
واسترسلت المتحدثة في تصريحها قائلة: "ستحرم هذه الطفلة من حقوقها الأساسية وسنضع أمام حاضرها ومستقبلها مجموعة من العراقيل التي ستحول دون اندماجها الطبيعي في المجتمع، بدون أن يكون لها أي ذنب ستكون ضحية كل هذا الحيف والظلم والتمييز، مما يؤدي إلى مزيد من التفقير والهشاشة وظواهر أخرى بالمجتمع المغربي". وتختم قائلة بحسرة: "العلم والحياة يتطوران، بعكس الأحكام الفقهية التي تبقى جامدة، ينبغي أن يساير التشريع الواقع ومتطلّبات العلم، وأن يتجاوز العقلية المحافظة الفقهية التي تميز قضاة محكمة النقض".
عودة إلى العصور الوسطى
من جانبه، قال الكاتب والحقوقي المغربي أحمد عصيد إن حكم محكمة النقض، يتعلّق بـ"مشكلتين رئيسيتين" في الدولة وفي الترسانة القانونية، "الأولى تتمثّل في وجود شرعية دينية لا تتطابق مع التزامات الدولية حالياً"، مشيراً إلى أن العودة مثلاً إلى الفقيه ابن حزم أو ابن القيّم أو الإمام مالك، لا تتم مع مراعاة تطوّرات المجتمع ولا التزامات الدولة الدولية ولا حتى الدستور".
وتابع عصيد في تصريح لرصيف22 قائلا إن: "تناقضاً صارخاً داخل الدولة ينبغي حلّه، وذلك عن طريق مراجعة المنظومة القانونية الوطنية حتى تتلاءم مع الالتزامات الدولية لتحقيق الانسجام القانوني المطلوب"، مشيراً إلى أن هذا التناقض "لا ينبغي أن يستمر في ظلّ الدولة الحديثة، وبالتالي يجب مراجعة القوانين لتقليص حيّز النصوص القديمة ولتوسيع دائرة حقوق الإنسان في الترسانة القانونية".
المشكلة الثانية، وفق عصيد، تتعلق بالعقليات السائدة في أوساط القضاة وهي عقليات تبقى "عتيقة ومتجاوزة"، موضّحاً أنها تقوم أساسا على مركزية الذكر والتحيّز له لإخراجه من المشكلة، ويضيف: "كلّما وجدت مشكلة بين رجل وامرأة يتكتّل القضاء لإخراج الرجل من الورطة والإبقاء على المرأة ضحية".
وأضاف: "مثلُ هذه الأحكام تتنكّر للعلم، ولا تهتم بالتحليل الجيني المختبري الذي يعدّ حقيقة دامغة ودليلاً قاطعاً وتتنكّر لواقع أن هناك علاقة جنسية بين رجل وامرأة نتج عنها ولادة، وعلى الطرفين تحمّل مسؤوليتهما. الحكم الأول احترم العلم والمنطق والثاني عاد 10 قرون نحو الوراء، باعتماد قواعد فقهية لا يمكن أن تستمر اليوم".
وأكّد الكاتب أن الحكم يناقض الدستور: "نحن بعد 10 سنوات من تعديل الدستور، بالتالي عقد من هدر الزمن التشريعي الذي كان يجب أن يكون فيه الانكباب على هذه الأمور وليس الانتظار إلى سنة 2021 والخروج بأحكام خرقاء وغريبة، هذا غير مقبول، لا بد من احترام حقوق الإنسان في شكلها الكوني وتكوين القضاة على ذلك، وإلزامهم بمرجعية قانونية منسجمة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...