كل يوم نتعلم شيئاً جديداً عن أجسامنا وطرق الاعتناء بها، وتواجهنا يومياً العديد من الخيارات المتعلقة باختيار نمط حياة صحي، وفي حين أن "حيادية الطب" مسألة غير متفق عليها بعد، إلا أن الشيء الوحيد الثابت عبر كل الثقافات هو إيلاء مهمة الاستشفاء للأطباء.
وبينما نبحث اليوم عن الطبيب المتمرس الذي تخرّج من جامعة مرموقة وتمرّن في مستشفيات هامة، كان الأمر قديماً يتعلّق بممارسات سحرية وطقسية، وهذه الممارسات هي ما ستبحث فيه المقالة من خلال عرض لدراسة بعنوان "The Spiritual Dimensions of Healing Rituals in Ancient Mesopotamia" للباحث Amar Annus.
الساحر طبيبنا الأول
في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، كان الساحر هو الطبيب الأول، وتم العلاج عبر طقوس استشفائية لطرد الأرواح الشريرة، من خلال السحر الخاص بالاستشفاء أو التعاويذ وهي مجموعة من الكلمات، تقال بقصد السحر.
تمتلك بلاد ما بين النهرين أطول تاريخ موثّق حول طرق الاستشفاء هذه، بالسحر أو الوهم، حيث تم العثور على مخطوطات مسمارية مع التعويذات الخاصة بها في مدينتي فارا وإيبلا، من منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، واعتبرت أطول المستندات المعروفة الموثقة حول الموضوع وبالتالي تتطلب دراسة من وجهة نظر علم الأعصاب.
وتعتبر إيبلا مركزاً حضارياً مهماً أدّت دوراً مساوياً مع حضارتي مصر وبلاد ما بين النهرين، وتعتبر أول قوة عالمية معروفة تاريخياً. بينما فارا، وهي مدينة شوروباك القديمة في منطقة ما بين النهرين، مدينة سومرية تقع على بعد حوالي 55 كيلومتراً جنوب نيبور، على ضفافا نهر الفرات في محافظة القادسية العراقية (تسمى حالياً تل فارا). تضمّنت طقوس الشفاء استخدام التعاويذ السومرية الجديدة من نوع Asalluhi-Enk.
"لعنة شريرة ذبحت هذا الرجل مثل عنزة، الغباء والذهول قد غطياه مثل عباءة ويسيطران عليه بلا انقطاع"... من تعاويذ العلاج بالسحر السومرية التي تعتبر الأقدم في التاريخ
وإنكي هو إله الحكمة والراعي الإلهي لإريدو، المدينة التي اشتهرت بأنها المركز الرئيسي للحضارة في التقاليد التاريخية لبلاد ما بين النهرين. أما الإله أصلوحي فهو ابن إنكي وراعي طرد ارواح الشريرة في الألفية الثانية قبل الميلاد، وغالباً ما كان يتم كتابة نفس التعويذة بتنسيق ثنائي اللغة، حيث تترافق الترجمة الأكادية مع النسخة السومرية، وفي الترجمات الأكادية، تم تغيير اسمي الإلهين إلى إيا ومردوخ.
التعاويذ العلاجية
مثال على التعاويذ السومرية الجديدة: "لقد حلّت عليه لعنة شريرة مثل شيطان الجالو (هذا) الرجل، وقد نزل عليه البكم (و) الذهول وصار عليه حماقة رديئة، لعنة الشر، القسم، الصداع. لعنة شريرة ذبحت هذا الرجل مثل عنزة، ترك إلهه جسده وقد تنحّت الآلهة، (تضيف السومرية: والدته) التي تكون مليئة بالاهتمام، عنه، الغباء والذهول قد غطياه مثل عباءة ويسيطران عليه بلا انقطاع. لاحظه مردوخ ودخل منزل أبيه إيا وصرخ: يا أبي، لقد حلّت على هذا الرجل لعنة شيطانية شريرة، وكرر ذلك مرة ثانية (وقال): لا أدري (ما) أفعل لأسكتها.
أجاب إيا ابنه مردوخ: يا بني، ما هو ذلك الذي لا تعرفه؟ ماذا أعطيك أكثر؟ ما هو الذي لا تعرفه. ماذا يمكن أن أعطيك أكثر؟ أنت تعلم ما أعلمه. اذهب يا مردوخ. خذه إلى بيت الوضوء الطاهر، استرجع قسمه، أطلق قسمه الذي يمكن أن يكون شرّ جسده. سواء كان لعنة من أبيه، من أمه أو أخيه الأكبر، أو لعنة لسفك دماء لا يعرفها. فعند التلفّظ بالسحر يمكن تقشير اليمين مثل البصل، وينزع مثل التمر، مثل الحصير. قسم باسم السماء، قسم باسم الأرض".
العلاج الطبي والطقوس الدينية والتعاويذ... كيف تشترك في إدّعاء القدرة على شفائنا
في دراسته يخبرنا Annus ، أنه بحسب فابريزيو بينيديتي Fabrizio Benedetti، أستاذ علم وظائف الأعضاء وعلم الأعصاب في كلية الطب بجامعة تورين بإيطاليا، من وجهة نظر علم الأعصاب، فإن العلاقة بين المريض والطبيب تتكون من أربع مراحل: الشعور بالمرض، البحث عن علاج، لقاء المريض بالمعالج وتلقي العلاج. ويقول إن هذه المراحل الأربع ثابتة بغض النظر عما إذا كان المعالج يقوم بعلاج حقيقي أو وهمي.
وفقاً لبينيديتي، قد تقدم فكرة العلاج الوهمي المستخدمة في الطب الحديث المبرر لتأثيرات العلاج بالسحر أو بالدين. كيف؟
يتشابه العلاجان عبر تنشيط الآليات الفيزيولوجية المسؤولة عن استراتيجيات التأقلم لدى الجسد، وتأتي العوامل النفسية الداعمة من طريقة التواصل العلاجي بين المريض والطبيب، حتى لو لم يكن العلاج فعّالاً بشكل كامل، لإن توقع المريض الاستفادة من العلاج قد يكون كافياً لإشاعة نوع من الراحة والاطمئنان.
يكمن الفارق الحقيقي بين المعالجين السحرة القديمين والأطباء المعاصرين، في أن الإجراءات القديمة قد تفتقر لتأثيرات محددة وواضحة المعالم، في حين أن الأطباء المعاصرين يعتمدون على أدوية وإجراءات واضحة، تعمل ضمن النظام العصبي والاجتماعي من خلال المراحل الأربع التي حددناها مسبقاً.
على سبيل المثال، تتوافق المرحلة الثانية في مخطط بينيديتي، حيث يبحث المريض عن الراحة، مع مقطع في تعويذات ما بين النهرين، حيث "ذهب طارد الأرواح الشريرة إلى منزل والده إيا لطلب المشورة". هذا الجزء عبارة عن خط سير يمر به الكاهن رمزياً عند الاعتناء بمريضه، وبذلك يصبح الكاهن رسولاً إلهياً ويمثّل المريض أيضاً كموكله.
في مخطط بينيديتي، يتحمّس المريض لطلب المساعدة عندما يشعر بتوعك، ويسعى لإيقاف الألم. وعندما يطلب المريض المساعدة، فإنه يتوقع مكافأة علاجية إيجابية، بغض النظر إذا كان العلاج قد بدأ أم لا.
تم تسليط الضوء على نموذجين مهمين من قبل باتريك ماكنمارا، عالم الأعصاب الأمريكي وأستاذ طب الأعصاب المشارك في كلية الطب بجامعة بوسطن، والذي نشر العديد من المقالات حول علم النوم والأحلام، النموذج الأول الذي يركز على العلاج الجسدي والثاني الذي يركز على العلاج العقلي أو الروحي.
العلاج والطقوس الدينية
ربط الأسلاف الطقوس العلاجية بالدين، واعتقدوا أن الشفاء يمكن أن يحدث من خلال التجربة الروحية أو الإيمان، ومن وجهة نظر عصبية، فإن التجارب الدينية الروحية تساهم في خلق وعي ذاتي موحّد، عبر آلية لامركزية في الدماغ والتي تتم عبر أربع مراحل. يمكن إيجازها بـ"الفاعلية والحيوية والجهد والنجاح".
يتشابه المرض النفسي مع المرض الجسدي بأن كلاهما لديه علاج، حيث تكون المرحلة النهائية مهمة للحالتين، فإذا فشلت الذات في قبول الحالة الجديدة النهائية فسينتج الأمر اضطراباً عقلياً كبيراً.
في الأحلام أيضاً توجد تجربة شفائية للحالم حيث يقدم أدب بلاد ما بين النهرين حالات يظهر فيها رسول إله الشفاء للمريض أثناء نومه، ويشفيه، من المحتمل أن الأسلاف تعاملوا مع الأحلام على أنها اتصالات من عالم "فوقي" خارق للطبيعة، لذا استمعوا إليه برهبة وخشية
لا يظهر هذا فقط في التجارب الدينية، لكن في الأحلام أيضاً، حيث توجد تجربة شفائية للحالم.
يقدّم أدب بلاد ما بين النهرين حالات يظهر فيها رسول إله الشفاء للمريض أثناء نومه، ويشفيه، وقد ارتبطت طقوس العلاج هذه بتوقعات الشفاء وردود الفعل على العلاج الوهمي. كما في الأحلام على سبيل المثال، خصوصاً في مرحلة "حركة العين السريعة" التي يمكن أن يتفاعل معها الحالم كما لو كانت حقيقية، تؤثّر به ويصدقها.
وكما يحدث في خطوات العلاج التقليدية، من المحتمل أن الأسلاف تعاملوا مع الأحلام على أنها اتصالات من عالم "فوقي" خارق للطبيعة، لذا استمعوا إليها برهبة وخشية، وشعروا أنهم يجب أن يستجيبوا لهذه الصور كانعكاس لما حلموا به.
تمّ تصميم التعاويذ القديمة في بلاد ما بين النهرين للإله مردوخ، بالاعتماد على الدماغ لحل مشاكل الجسد الصحية، ويستنتج ماكنمارا أن نصوص التعاويذ ملائمة للتجارب الدينية والروحية بحيث يمكن استخدامها لتقوية أو إضعاف الرابط بين المشاركين في الطقوس، إذ يحاول الساحر هنا أن يؤسس لرابطٍ بينه وبين المريض. ومن ناحية أخرى، يظهر التركيب العصبي لعلاقة المريض بالمعالج الحديث الذي قدمه بينيديتي أن بنية التعاويذ تحفّز العمليات المعرفية حيث ينسب هذا الرابط لقوى خارقة للطبيعة تقوم بفعل الشفاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون